فن

الإذاعة المصرية صانعة الوجدان المصري والعربي

«هنا القاهرة.. يا صباح الخير يا اللي معانا، يا اللي معانا.. الكروان غنى وصحانا وصحانا.. والشمس أهي طالعة وضحاها.. والطير أهي سارحه في سماها.. يلا معاها يلا معاها.. يا صباح الخير ياللي معانا ياللي معانا.. غمض عنيك وامشي بخفة ودلع الدنيا هى الشابة وأنت الجدع تشوف رشاقة خطوتك تعبدك، لكن انت لو بصيت لرجليك تقع.. عجبي.. أنا البحر في أحشائه الدر كامن.. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي».. بتلك المقتطفات من روائع الإذاعة المصرية كنت استقبل يومي كل صباح على إمتداد ما يزيد عن ربع قرن من الزمان تشكل خلالها وعيى ووجداني ورؤيتي للعالم، وبالطبع لم اكن وحدي، فقد تشكل على صوت وتراث الإذاعة المصرية وعي ووجدان ملايين البشر على إمتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.

https://youtu.be/XjBE1-FwEGo

اقترنت نشأة الإذاعة المصرية بتاريخ مصر السياسي والاجتماعي على امتداد ما يقرب من قرن من الزمان، فكانت الإذاعة المصرية شاهدة على العصر، حيث شهدت إنتقال مصر من العهد الملكي إلى عصر يوليو 1952، وتتبع العالم العربي من خلالها أحداث حرب 1956 وبناء السد العالي وهزيمة 1967، وخطاب تنحي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ثم مرحلة حرب الإستنزاف وانتصارات أكتوبر 1973، وغيرها من الأحداث الهامة في تاريخ مصر والعرب.

بيان ثورة يوليو 1952 في الإذاعة المصرية

كان العالم العربي كله يتوحد من مشرقه إلى مغربه في الخميس الأول من كل شهر على مدى سنوات عديدة للإستماع إلى حفلة سيدة الغناء العربي «أم كلثوم»، فغزت بذلك الإذاعة المصرية البيوت في كل الدول العربية فكانت نعم الرسول والمرسال، حتى باتت اللهجة المصرية هى أكثر اللهجات العربية شيوعا في محيطها العربي. وبشكل عام أدت الإذاعة المصرية دورا تاريخيا كبيرا يتماهى وذلك الدور العظيم الذي لعبته الإذاعة على المستوى العالمي، فقد لعبت الإذاعة في العالم كله دورا عظيما منذ تأسيسها حتى باتت أكثر الوسائل الإعلامية تلاحما مع الجمهور بجميع بلدان العالم، حتى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو» قد خصصت يوم 13 فبراير من كل عام يوما عالميا للإذاعة، للإحتفاء بدورها وما قدمته من خدمات التواصل بصفة خاصة خلال حالات الطوارىء والكوارث التي مر بها العالم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو اليوم الذي يتوافق مع إنطلاق أول إذاعة للأمم المتحدة عام 1946.

الإذاعة المصرية تاريخ عريق

بدأ البث الإذاعي في مصر في منتصف عشرينيات القرن الماضي في صورة إذاعات أهلية يمتلكها أفراد، وتركزت معظم تلك الإذاعات بمدينتي القاهرة والأسكندرية، وكانت تقدم برامجها باللغة العربية إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإيطالية للأجانب المقيمين بمصر. 

كان أغلب أصحاب تلك المحطات من التجار الذين يرغبون في الترويج لتجارتهم، وتراوح إرسال تلك المحطات ما بين ساعتين إلى أربع ساعات يوميا، وغلب عليها الطابع الترفيهي، وتوقف إرسال تلك الإذاعات في يوم 29 مايو 1934، بعد نشوب العديد من الخلافات ما بين أصحاب تلك الإذاعات بعضهم ببعض من جانب، ونشوب الخلاف بين الجمهور وبعض أصحاب تلك الإذعات إعتراضا على بعض المضامين المقدمة من جانب آخر. 

عقب توقف الإذاعات الأهلية مباشرة انطلق بث الإذاعة الحكومية في يوم 31 مايو سنة 1934 فأصبح ذلك اليوم عيدا للإذاعة المصرية، وتولت شركة ماركوني الإيطالية الإشراف على الإذاعة مع بداية البث، وتم إفتتاح الإذاعة المصرية عبر حفل كبير تم بثه عن طريق الإذاعة الخارجية وشارك في الحفل كبار رجال الدولة وأعضاء البرلمان وكبار الكتاب والأدباء والصحفيين، وبدأت الإذاعة أولى برامجها بآيات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ «محمد رفعت» تلاه إنطلاق عمالقة الطرب بمصر آنذاك: «أم كلثوم وصالح عبد الحي، ومحمد عبد الوهاب».

تصاعد الخلاف بين الحكومة المصرية وشركة «ماركوني» نتيجة السياسة الإخبارية التي كانت تنتهجها الإذاعة، في ظل تأزم الصراع بين مصر وبريطانيا نتيجة عدم الإستجابة لمطلب جلاء القوات البريطانية عن مصر، ومن ثم تم تمصير الإذاعة عام 1947 بعد إلغاء التعاقد مع شركة ماركوني، وكان عدد المحطات في حينها أربع محطات فقط، وأصبحت الإذاعة مصرية خالصة من حيث الشكل والمضمون منذ 31 مايو 1946، وتتابعت الخطوات والإجراءات حتى صدر قانون رقم 98 لسنة 1949 والذي أصبحت بمقتضاه الإذاعة هيئة مستقلة ذات شخصية معنوية تلتحق برئاسة مجلس الوزراء وتسمى الإذاعة المصرية.

جاءت ثورة يوليو 1952 فتم نقل تبعية الإذاعة المصرية من رئاسة مجلس الوزراء‏‏ إلى وزارة الإرشاد القومي في ‏10‏ نوفمبر ‏1952‏، وفي ‏15‏ فبراير ‏1958‏ صدر القرار الجمهوري رقم ‏183‏ لسنة ‏1958‏ باعتبار الإذاعة المصرية مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية ومن ثم تم إلحاقها برئاسة الجمهورية‏، وأصبحت عام ‏1961‏ من المؤسسات العامة ذات الطابع الاقتصادي وسميت‏ المؤسسة المصرية العامة للإذاعة والتليفزيون‏‏ وفي عام ‏1962‏ عادت الي وزارة الإرشاد القومي، حتى جاء عام ‏1971‏ فصدر القرار الجمهوري رقم‏ 1 ‏لسنة ‏1971‏ بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون‏.

هنا القاهرة

«هنا القاهرة» هي العبارة التي افتتح بها الإذاعي القدير -والفنان بعد ذلك-  «أحمد سالم» بدء إنطلاق الإذاعة المصرية سنة 1934 والتي أصبحت بمثابة «أيقونة» في تاريخ الإذاعة الحافل لبدء إرسال الإذاعة على مر السنين، حتى أن التاريخ يشهد للشعب العربي السوري العظيم بأنه حين ضربت إسرائيل هوائيات الإذاعة المصرية خلال العدوان على مصر، أنطلق صوت الإعلامي السوري «عبد الهادي بكار» مدويا من دمشق معلنا «من دمشق هنا القاهرة» في إشارة إلى تضامن الشعب السوري مع الشعب المصري عبر أثير الإذاعة.

كان «أحمد سالم» أحد سبعة تولوا مسئولية الإذاعة في نشأتها الأولى حيث وضعوا سويا أسس العمل بها وهم: بالإضافة إلى سالم «سعيد باشا لطفي  أول رئيس للإذاعة المصرية منذ نشأتها وحتى عام 1947، محمد فتحي، على خليل، أحمد كمال سرور، مدحت عاصم، وعفاف الرشيدي». 

محمد عبد الوهاب وأم كلثوم مع سعيد باشا لطفي

ولد «أحمد سالم» في 20 فبراير سنة 1910 بأبو كبير بمحافظة الشرقية، درس هندسة الطيران بانجلترا إلا أنه لم يعمل بهذا المجال سوى فترة وجيزة، وأتاح له صوته المميز وثقافته العميقة بأن يترأس القسم العربي بالإذاعة المصرية، وكان أول من اقترح نقل شعائر صلاة الجمعة عبر أثير الإذاعة المصرية، غير أنه اعتزل العمل بالإذاعة بعد أن عرض عليه رائد الإقتصاد المصري «طلعت حرب» أن يتفرغ لإنشاء شركة مصر لفن التمثيل، فأسس «استوديو مصر» على أحدث طراز، ومن ثم قدم باكورة إنتاجه فيلم «وداد» لكوكب الشرق «أم كلثوم».

إلى جانب عمل «أحمد سالم» بمجال الإنتاج السينمائي عمل كمخرج وممثل بعدد من الأعمال السينمائية، حيث قدم مع الفنانة «راقية إبراهيم» فيلم «أجنحة الصحراء» عام 1939، كما قدم فيلم «الماضي المجهول» عام 1945 مع الفنانة «ليلى مراد»، وكان فيلم «دموع الفرح» الذي شاركت فيه زوجته الفنانة «مديحة يسري» أخر ما قدم من أعمال فنية، حيث توفي شابا في 10 سبتمبر 1949.

قدمت الإذاعة المصرية عبر تاريخها الممتد إسهاما عظيما في نشر الثقافة العربية من المحيط إلى الخليج، وعلى إمتداد سلسلة من الحلقات المتتالية سوف نواصل الإبحار في عالم الإذاعة المصرية الكبير بهدف التعرف على «كنوز الإذاعة المصرية» من خلال التعرف على أبرز روادها من مقدمي البرامج وبرامجهم، بحثا عن الجميل الخالد في وجدان شعب مصر ووجدان شعوب العالم العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock