منذ نَشْرها في عام 1985، صار غطاء الرأس الأبيض العريض والرداء الأحمر المنسدل رمزا لمعاناة المرأة. هذه هي الصورة الذهنية التي رسختها رواية مارجريت أتوود The Handmaid’s Tale “قصة الخادمة” في الوجدان العالمي، وذلك عندما ضمًنت روايتها صورة للديستوبيا التي تتحول فيها المرأة إلى العبودية الإنجابية لتحمل أطفال النخبة.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، توالى ظهور هذه الصورة على أغلفة الكتب التي تتناول قضايا المرأة في جميع أنحاء العالم، وعلى ’بوستر‘ الفيلم، الذي عُرض في عام 1990، وفي إعلانات الموسم الأول للحلقات التليفزيونية التي عُرضت في عام 2017، والموسم الثاني الذي بدأ عرض حلقاته للتو. كما غدت هذه الصورة أيقونة تحتشد خلفها النساء في أماكن مختلفة من العالم في مظاهرات المطالبة بحقوقهن الإنجابية.
الخادمة هي “أوفريد”، راوية المأساة، التي يتعين عليها، باعتبارها إحدى الخادمات في “جمهورية جلعاد”، أن تخضع بصورة دورية لممارسة جنسية طقوسية مع قائدها، فريد (الذي اشتُق اسمها من اسمه)، وذلك لما تتمتع به من خصوبة وقابلية للإنجاب بعد أن أصاب العقم كثيرا من نساء الطبقة الحاكمة جراء انتشار السموم البيئية. في عهد سابق، قبل أن يُسقط الانقلاب الحكومة الأمريكية، ويقيم على أنقاضها دولة جلعاد الثيوقراطية الجديدة، كانت “أوفريد” زوجة رجل يدعى “لوك، وأما لطفلة تتواعد مع المستقبل، وقبل كل ذلك امرأة تتمتع بكافة حقوقها الإنسانية.
على خلاف روايات الخيال العلمي، تصور أتوود الرواية على أنها أحداث تأملية، أي عمل يعمد إلى رسم ملامح مستقبل يمكن تصوره دونما حدوث أي تقدم على مستوى التكنولوجيا؛ فكل ملمح مستقبلي تبرزه الرواية مستمد من أحداث سياسية واجتماعية واقعية شهدتها بداية ثمانينيات القرن الماضي. لهذا السبب، ترسخ الرواية إحساسا عميقا باللحظة، منذ نشرها، وعبر كل إنتاج جديد لها، سواء في السينما أو التليفزيون.
يرسم الكتاب ملامح صورة المجتمع الأمريكي القابع تحت هيمنة تيار المحافظين، ما تمخض عنه انتخاب الرئيس رونالد ريجان، وتصاعد قوة اليمين المسيحي، وجماعات الضغط التابعة له، مثل منظمة “الغالبية الأخلاقية” Moral Majority، التي أسسها القس جيري فالويل، ومنظمة “التركيز على الأسرة” Focus on the Family، التي أسسها المسيحي الإنجيلي، جيمس دوبسون.
وبرغم أن أتوود مواطنة كندية تسعى إلى استشراف المستقبل، إلا أن هذا العمل – بحسب تأكيداتها – يرمز تحديدا إلى الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي بصورة مباشرة، بما في ذلك صعود الأذرع السياسية للأصولية المسيحية، وانتشار التهديدات البيئية، وزيادة الهجوم على الحقوق الإنجابية للمرأة. ويعكس ردة الفعل العنيفة ضد الإجهاض في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، التي تضمنت توزيع أشرطة فيديو دعائية على نطاق واسع حملت اسم “الصراخ الصامت” The Silent Scream، وتنفيذ سلسلة من التفجيرات وعمليات الحرق العمد ضد عيادات الإجهاض، واقتراح قانون لحماية الحقوق المدنية للأجنة.
لم تقتصر عنصرية المحافظين الأمريكيين على التمييز ضد المرأة، أو حتى على الداخل الأمريكي؛ وإنما تخطتها إلى دعم العنصرية الإثنية في مناطق مختلفة من العالم. ففي ذلك الوقت كان ديك تشيني، الذي تقلد لاحقا منصب نائب الرئيس في إدارة جورج دبليو بوش، ضد إطلاق سراح الزعيم الجنوب أفريقي، نيلسون مانديلا. كما صوت السيناتور جون ماكين لصالح الوقوف إلى جانب حكومة جنوب أفريقيا العنصرية. وباستدعاء البانتوستانات (المدن الجنوب أفريقية التي يشكل المواطنون السود الغالبية العظمة من سكانها) إلى الرواية، تؤكد أتوود أن الأفروأمريكيات يعشن النظام نفسه في ظل وطن قومي جديد في الوسط الغربي من الولايات المتحدة.
عادة ما يشير النقاد إلى هذا النص الأدبي باعتباره تفنيدا للتحيز الجنسي الذي ينطوي عليه سفر التكوين، كما يرون. إلا أن بعض ما تسرده أتوود لم يكن مجرد تأمل فيما يمكن أن تفضي إليه هيمنة اليمين الديني على مفاصل السلطة والحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما يرتكز إلى خبرات عالمية أخرى. فقد استلهمت أتوود بعض أفكار كتابها من اهتمام نيكولاي تشاوشيسكو بزيادة معدلات المواليد الإناث في رومانيا، وهو ما دفعه إلى حظر الإجهاض وتنظيم النسل، ومن الممارسات الوحشية وعمليات القتل التي باشرها نظام فرديناند ماركوس في الفلبين ضد المعارضات. كما استلهمت فكرة تسليم أبناء الطبقات الدنيا إلى الطبقة الحاكمة من الأرجنتين بعد أن اغتصبت الطغمة العسكرية السلطة في عام 1976.
ورغم تعدد صور الاضطهاد ضد المرأة، إلا أن البيوريتانية الأمريكية (المذهب التطهيري، وهو مذهب مسيحي بروتستانتي يجمع خليطا من الأفكار الاجتماعية والسياسية واللاهوتية والأخلاقية) تشكل المرجعية المركزية للنص، وقد ربطت أتوود بين ما حدث في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي والمستعمرين البيوريتانيين في مستعمرات نيو إنجلاند في القرن السابع عشر. في هذا السياق تؤكد أتوود: “إن الدول لا تقيم أنماط حكم راديكالية على أسس غير راسخة في تاريخها، فقد استبدل الاتحاد السوفيتي نظام الشرطة الإمبريالية السري اللعين بنظام شرطة أكثر بشاعة؛ وهكذا فإن الجذور العميقة للولايات المتحدة الأمريكية لا تمتد فقط إلى البنى التنويرية للجمهورية في القرن الثامن عشر، التي تبنت خطاب المساواة وفصل الكنيسة عن الدولة، وإنما تضرب أعمق من ذلك في أطناب النظام الثيوقراطي المتشدد الذي هيمن على مستعمرات نيو إنجلاد في القرن السابع عشر، وانحيازاته الصارخة ضد المرأة، التي تستغل أي فترة من الفوضى الاجتماعية لإعادة هيكلة نفسها من جديد”.
كذبة الديموقراطية الأمريكية