تقديم
[ما الذي يجعل بعض الأسئلة حية رغم مرور القرون وكثرة الحبر المسال حولها؟ سؤال الوجود العربي في مصر قبل 14 قرنًا، لا يزال مطروحًا ومخطوفًا في الآن ذاته، يُطرح في إطار الصراع الذي نشهده حول هوية مصر في القرن العشرين، ويُخطف السؤال ويجرد من جدواه لأنه تحول إلى أداة في صراع فكري غابت عنه نزاهة الحقيقة، يراوح الوجود العربي في وادي النيل بين مصطلحي الغزو والفتح، وكل منهما يحيل إلى منظومة أفكار مختلفة، ربما يكون من الأهمية استعادة كتاب «فتح العرب لمصر» لألفريد بتلر إلى الواجهة كونه ظهر في طبعة جديدة موخرا و كونه ايضا يطرح أهم وجهة نظر علمية (غربية) في دخول العرب مصر، معتمدا في ذلك على روايات العرب والأقباط على حد سواء].
«أصوات أونلاين»
ألفريد ج بتلر
بداية من العنوان؛ وهو «فتح العرب لمصر»، يحق لنا الارتياب بشأن تعريب محمد فريد أبو حديد لكتاب ألفريد ج بتلر الشهير، بما أن مفردة فتح حلًت محل مفردة غزو، فما بالنا بما يمكن أن يكون قد طاله التغيير في متن الكتاب نفسه. ولكن ما يجعلنا مطمئنين إلى عدم وقوع تغيير جوهري عبر ذلك التعريب؛ هو ترحيب المؤلف به في حينه، فضلا عن أننا لم نسمع عن طعن في الترجمة عند مقارنته بالنص الأصلي الذي نشر للمرة الأولى في عام 1902. ويبقى أن أسلوب «أبو حديد»، الأديب البارز، طغى على الترجمة حتى أن بعض مفرداتها احتاجت إلى «ترجمة»، إن جاز التعبير، ليفهما قارئ العربية في وقتنا الراهن.
الكاتب والمترجم محمد فريد أبو حديد
وفي ظني أنه لم يعد هناك ما يبرر ذلك التعارك المفتعل بين مثقفين ومؤرخين حول ما إذا كان ما حدث قبل نحو 1400 سنة هو «فتح» أم «غزو»، وشخصيًا لا أجد غضاضة في وصفه بالغزو، وهو الوصف الأدق، قياسا على ما كان سائدًا قبل نشوء دولة المسلمين وبعده، في ظل تسابق الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية على فرض الهيمنة على عالم العصور الوسطى ذاك، وفي ظل سعي عرب مكة والمدينة ممن أصبحوا مسلمين إلى التوسل بما يجعلهم أقوياء في مواجهة قوتين عاتيتين، لكل منهما صولات وجولات في الغزو، وإلا كيف كان من الممكن أن يصمد الكيان العربي الناشئ ويواصل الوجود غير التابع لأي من هاتين القوتين العاتيتين إلا باستخدام نفس الأساليب؟
خط سير عمرو العاص لفتح مصر
مناسبة هذا الاستهلال هي صدور طبعة جديدة من كتاب «فتح العرب لمصر» مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية، ضمن سلسلة «كلاسيكيات التاريخ»، التي يشرف عليها المؤرخ الدكتور أيمن فؤاد سيد، ويستوقف القارئ كذلك الجهد العلمي الذي بذلته الدكتورة نهلة أنيس مصطفى، في تحقيق الكتاب ومراجعته استنادا إلى عشرات المراجع عن تلك الفترة الزمنية، وتحديدا عن حدث غزو العرب لمصر، والذي لولاه ما تمكَّن أهلها من الأقباط من المحافظة على عقيدتهم التي كان الرومان يصرون على محوها لصالح عقيدة «مسيحية» أخرى.
د. أيمن فؤاد سيد
وهذه السلسلة؛ «كلاسيكيات التاريخ»، ترتكز كما يقول الدكتور أيمن فؤاد سيد على الاحتفاء بكل ما هو موثق، على أساس أن التاريخ يُصنع من وثائق وحيث لا توجد وثائق فلا تاريخ، وعلى ذلك فإن إصرار البعض على أن «السيف» لم يلعب دورًا في انتشار الإسلام تفنده وثائق لا يرقى إليها الشك، كما أن هذا أمر لا يستحق أن يشعر المسلم اليوم إزاءه بالخجل أو أن يسعى حتى إلى إنكاره أو استنكاره، بما أن الغزو كان من سمات ذلك الزمن، فضلا عن أن القرآن الكريم حثَّ عليه في كثير من الآيات، وفي ما يتعلق بمصر تحديدا، نجد حديثًا نبويًا شهيرًا يحث المسلمين على أن يتخذوا من أهل مصر جندًا كثيفًا بعد أن يفتحها الله عليهم.
وهذا لا يعني مطلقًا أنه كان يتم إرغام غير المسلمين على اعتناق الإسلام، وإلا ما وجدنا في مصر في وقتنا الراهن مسيحيين من أصلاب أقباط عاصروا الفتح أو الغزو، الذي احتاج قرابة ثلاثة قرون ليستتب له حكم مصر وجعل لسان أهلها، من مسلمين ويهود ومسيحيين عربيًا. هؤلاء الأجداد استمسكوا بدينهم ولم يرتضوا بغيره بديلا، وشارك بعضهم في الحكم عبر مناصب رفيعة، ومن ثم يظل أهم ما ترتب على دخول العرب مصر هو الحفاظ على هوية العقيدة المسيحية المصرية وفتح المجال أمامها ليكون لها وجود مؤثر في أنحاء مختلفة من العالم.
البابا شنوده يشيد بالفتح الاسلامي الي مصر و يشيد يالقائد المسلم عمرو بن العاص في معاملة الاقباط
ولا شك عندي في أن الغزو هو عمل سياسي في المقام الأول وهو جاء بالنسبة إلى المسلمين الأوائل في إطار تأسيس دولة يراد لها أن تكون قوية بعسكرها وبمواردها الاقتصادية، على حد سواء، وهو أمر يتسق مع ما كان سائدا، حيث يقول بتلر: «كان يصعب التمييز بين خيوط الدين وخيوط السياسة في نسيج حوادث ذلك العصر».
وما استوقفني من وصف بتلر لعمرو بن العاص، على النحو التالي: «اجتمعت فيه صفات المحارب والشاعر وجوَّاب الآفاق والرجل الصالح، فكان واضح الباطن والظاهر، نبيل المقاصد والفِعال، وكان محبباً مؤلفا يملك قلوب الناس، ويستهوي أفئدتهم شأنه في ذلك شأن عظماء الرجال الذين يخلب حبهم أفئدة الناس، فإذا إعجابهم ولاءٌ وإخلاص. هذه صفة القائد الذي جاء في فرسان أربعة آلاف بايعوا أنفسهم على نزع مصر من يد القياصرة».
وكان بتلر يميل أحيانا إلى الرواية القبطية ضد الرواية العربية ومن ثم تحاملَ على عمر بن الخطاب وكالَ له العديد من التهم. لكن يظل هذا الكتاب في مجمله من أفضل ما أنتج في القرن العشرين عن مصر في العصور الوسطى، وعلى الجملة فهذا العمل العلمي الجليل بما يحمل بين طياته من معلومات، يعد من أوثق ما كتب عن مصر وأثرا نفيسا ونموذجا مبدعا في تراث الكتابة التاريخية، وعنوان الكتاب بالإنجليزية The arab conquest of Egypt and the last thirty years of the Roman dominion.
وقراءتي للكتاب على خلفية الجدل بشأن الغزو والفتح ردَّتني إلى قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [التوبة: 29]، وقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} [التوبة: 33].
ومن الآيات الواردة في السورة ذاتها في هذا السياق: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} (من الآية 34)، و{وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين} [من الآية 36]، و{يا أيها النبي جاهِد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [الآية 73].
https://youtu.be/4HN0myPPC44?t=8
عمرو بن العاص يصف مصر لأمير المؤمنين
ويلاحظ أن ما أورده بتلر في هذا الصدد من أن العرب لما دخلوا مصر كانوا فئة قليلة وجعلوا يتخذون لهم فيها نظاما ينتزعونه مما سبق من نظم الحكم في البلاد، وجعل عددهم يتزايد ممن دخل في الإسلام من أهل البلاد طوعا أو كرها، ويقول بتلر كذلك: «زادت المنافسات حتى كانت أحيانا تتخذ شكل ثورة من أهل البلاد المسيحيين وكان رد ذلك قاسيا من جانب الحكومة (العربية) القائمة التي ما كانت لتدع الثورة يندلع لهيبها من غير أن تقضي عليها».
وقد أورد كذلك أنه عشية الغزو العربي كانت أوضاع مصر مضطربة بسبب توالي غزوات الأجانب التي تستهدف احتلالها، فضلا عن المجاعة وعسف الاضطهاد والمذابح وما سال فيها من الدماء، جراء ثورات صغيرة، وخروج اللصوص في عصابات منظمة، وغارات البدو وقبائل السودان، مضيفا أنه من الواضح إذن أن أسبابا كثيرة أدت إلى أن تكون تلك البلاد دائمة الاضطراب. وقد سبق الفتح العربي غزو فارسي لمصر، «فأخذوا مصر كلها (يقصد ما سيطلق عليه في ما بعد القاهرة الكبرى) والإسكندرية وليبيا إلى حدود إثيوبيا ثم عادوا ومعهم عددٌ عظيم من الأسرى. لقد أخذوا الفرما بغير عناء كبير، وخربوا الكثير من الكنائس والأديرة. تلك كانت غزوة ثانية سبقتها أخرى قبل 117 عاما. وفي الغزوة الأحدث يلاحظ أنه عندما أراد الفرس دخول الإسكندرية كان أهلها أخلاطا مضطربة من قبط وروم وسوريين ويهود وجماعة من طلاب العلم وآخرين من اللاجئين؛ أتوا إليها من كل أنحاء الدولة، فكان القبط والسوريون يكرهون الروم وكان اليهود يمقتون أتباع المسيح مقتا لا يسله من قلوبهم الخطر الداهم عليهم جميعا. والقول بأن القبط رحبوا بالفرس ورأوا فيهم رسل الخلاص هو قلب للحقيقة ومسخ لها».
فتح مصر
«ان توسع بتلر في القاء الضوء على ما فعله الفرس والرومان في الأقباط يوضح اهمية الفتح الاسلامي الذي يرى بتلر ان اهم ما حققه هو انقاذ العقيدة القبطية من براثن عقيدة مسيحية مخالفة مثلها الرومان وعقيدة وثنية لا سماوية مثلها الفرس»
هوامش
* كتاب بتلر صدر في 1902 وفي 1931 بدأ محمد فريد أبو حديد تعريبه (ومصطلح التعريب هنا مريب، كما أسلفنا). صدر الكتاب معربا عام 1932. وكما ورد في الطبعة الجديدة منه فإن المعلومات عن نشأة بتلر تشي بأنه ذو خلفية دينية متعصبة.
ويقول أبو حديد في مقدمة الكتاب الذي جاء في نحو 500 صفحة: «وقد رأينا أن نورد أبحاث المؤلف في شأن المقوقس (حاكم مصر وقتها ويسمى أيضا قيرس) تفصيلا، فأضفنا ذيلا جديدا ضمَّناه ما كتبه بتلر عن ذلك الحاكم في رسالة أصدرها بعد إصداره هذا الكتاب وهي معاهدة مصر في الطبري».
** بتلر (1850- 1936) من كتبه «الحياة الملكية في البلاط المصري» 1887، وتُرجم إلى العربية في 2013 (دار ليليت)، ودراسة تناقش معاهدة فتح مصر كما وردت عند الطبري، وصدرت العام 1913، وفي عام 1914 أنجز مؤلفا آخر يناقش فيه حصن بابليون وتاريخ مصر القديمة، وقامت هيئة النشر بجامعة أوكسفورد بجمع الكتب الثلاثة في كتاب واحد تحت اسم «فتح العرب لمصر»، لكن يظل أهم كتبه هو كتاب «الكنائس القبطية القديمة في مصر».