رؤى

‎من الأغنية السياسية إلى أغاني المهرجانات

‎«مقامات الروح» تاريخ الأغنية الوطنية والسياسية عربيًا وتطورها من سيد درويش إلى المهرجانات

‎يُقدِّم كتاب «مقامات الروح: دليل إلى الأغنية العربية» للكاتب والمؤرخ د. ياسر ثابت، عملًا موسوعيًا يرصد تفاصيل مهمة وثرية عن تطور الغناء العربي وأهم محطاته وفنونه ورموزه.

‎الكتاب الذي يقع في نحو 450 صفحة من القطع المتوسط، وصدر حديثًا عن دار( خطوط وظلال) في العاصمة الأردنية عمان، يقدَّم محاولة للاقتراب من زوايا محددة تخص الموسيقى وأساطينها في العالم العربي، وعلاقتهم بالمجتمع تأثرًا وتأثيرًا. هكذا تطالع تفاصيلا عن دور محمد عبدالوهاب في تحديث الموسيقى الشرقية، والإضافات المدهشة التي أثرى بها بليغ حمدي عالم الموسيقى والتلحين، وألحان سيد مكاوي التي تتسم بخصائص متفردة معينة، إضافة إلى عبقرية الملحن والمغني التونسي الهادي الجويني صاحب أغنية «تحت الياسمينة في الليل»، والملحن متعدد المواهب منير مراد الذي سبق عصره، والمطرب العراقي ناظم الغزالي مُجدد المقام وحارس التراث، والصوت الإماراتي الساحر حسين الجسمي، والمغني الكويتي عوض الدوخي، الذي حمل لقب «كلثوم الخليج».

https://www.youtube.com/watch?v=SP4-TSjqYP8

بغلافٍ أنيق، وضع رؤيته البصرية الفنان محمد العامري، ونفذه المصمم بسام حمدان، يتناول الكتاب أيضًا تفاصيل مهمة عن الأغنيات التي لم تكتملْ أو لم ترَ النور في مشروع أم كلثوم الغنائي، ومن ذلك أنه في صيف عام 1974 طلب محمد الدسوقي من صالح جودت نصًّا يلائم الاحتفال بالسادس من أكتوبر، وانتهى جودت من كتابة الأغنية، والتي يقول مطلعها: «قيدوا شموع العيادة وغنوا لمصر» ولحّنها رياض السنباطي، ولكن أم كلثوم لم تشدُ بها.

‎أما أغنية أم كلثوم «وقفت أودع حبيبي» التي كتبها أحمد رامي ولحّنها فريد غصن، وهي المرة الأولى والأخيرة التي غنت فيها أم كلثوم لغصن، فقد كانت الكلمات في حوزة رياض السنباطي، قدَّم لها اللحن ولم يرق لها، وطلبت منه إعادته ورفض، فقررت أن تلقنه درسًا ومنحت اللحن لفريد غصن، فكان الدرس في حقيقة الأمر لأم كلثوم، لأنها لم تردده بعدها في أي حفل، بل طلبت من الإذاعة المصرية مسحه.

ويصحبنا المؤلف في رحلة فيروز «سفيرتنا إلى النجوم» مع الغناء، فيحكي كيف أن انطلاقتها الجدية كانت عام 1952 عندما بدأت الغناء لعاصي الرحباني، وأخذت الأغاني التي غنتها في ذلك الوقت تملأ جميع القنوات الإذاعية، ليتسع نطاق شهرتها في العالم العربي منذ ذلك الوقت. كانت أغلب أغانيها آنذاك للأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين يشار إليهما دائمًا بـ«الأخوين رحباني».

في لقاء فيروز مع الأخوين رحباني، كان النفور هو الانطباع الأول. لم تكن فيروز ترى في أسلوب تعامل عاصي -رجل الشرطة السابق- معها إلا أنه يحمل قدرًا من الصرامة والجفاء الذي لم تكن تدري له سببًا، ولم يكن هو يرى فيها أيضًا في البداية الاكتمال المطلوب للصوت القادر على الغناء بكل أطيافه، كان يعتقد أنها فقط صالحة لترديد التراث. أما منصور فكان أشد ضراوة؛ إذ رأى أنها لا تصلح للغناء الراقص، حيث كان المسرح الاستعراضي بما يتطلبه من إمكانيات صوتية ولياقة جسدية هو حلم الشقيقين، ولكن القدر قال كلمته: لا رحبانية من دون فيروز.

‎هكذا سطرت فيروز مسيرة فنية وإنسانية ممتدة، قدّمت خلالها نحو 800 أغنية يحفظ كل عشاق الغناء الكثير منها.

‎ويروي المؤلف كيف اعتزلت دلوعة السينما المصرية «شادية» عالم الفن، بعد أن قدّمت 116 فيلمًا سينمائيًّا، و10 مسلسلات، ومسرحية واحدة، وما لا يقل عن 15 أغنية «دويتو» اتسمت جميعها بالفرح والبهجة، كانت أشهرها مع العندليب عبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومنير مراد، وكمال حسني، ومحمود شكوكو وإسماعيل ياسين.

https://www.youtube.com/watch?v=vTLGD9iF558

‎ونطالع في الكتاب تفاصيل موثقة عن العلاقة بين العندليب عبدالحليم حافظ وثورة 23 يوليو 1952، وارتباط اسمه بالثورة عبر سنوات طويلة قدَّم خلالها عشرات الأغنيات الوطنية.

‎ولعل كثيرين لا يعرفون أن الأغنية السابعة لعبدالحليم حافظ عقب اعتماده مطربًا من الإذاعة المصرية، كانت في مدح الملك فاروق، وهي أغنية «تهاني» التي كانت من نظم الشاعر محمد عبدالغني حسن وألحان مكتشف عبدالحليم: الموسيقار عبدالحميد توفيق زكي. أذيعت الأغنية في حلقة برنامج «ركن الأغاني الخفيفة» التي قدّمت في الساعة 5:45 من مساء يوم الخميس الموافق 3 مايو 1951.

 

‎لم تكد تنجح ثورة يوليو 1952 حتى بدأ عبدالحليم مسيرته فـي تقديم الأغنيات الوطنية بنشيد «العهد الجديد» بالاشتراك مع عصمت عبدالعليم تأليف محمود عبدالحي وتلحين توفيق عبدالحميد زكي، وكان ترجمة غنائية لشعار «الاتحاد والنظام والعمل» الذي نادى به الرئيس محمد نجيب.. والأغنية الثانية «وفاء» كلمات محمد حلاوة وألحان محمد الموجي، والثالثة «بدلتي الزرقا» كلمات عبدالفتاح مصطفى وألحان عبدالحميد توفيق زكي، ثم أغنية «ثورتنا المصرية.. أهدافها الحرية، وعدالة اجتماعية، ونزاهة وطنية». ويعتبر الناقد الفني كمال رمزي هذه الأغنية، وهي من كلمات مأمون الشناوي وألحان رؤوف ذهني، أولى وطنيات عبدالحليم بالرغم مما سبقها من أغنيات ثلاث.

 

‎وفـي 18 يوليو 1953 أحيا عبدالحليم حفلة «أضواء المدينة» فـي حديقة الأندلس، واعتبرت حفلة رسمية؛ إذ تزامنت مع أول احتفال بإعلان الجمهورية، حيث كان فنان الشعب يوسف وهبي يقدّم المطرب الشاب بقوله: «اليوم أزفُّ لكم بشرى ميلاد الجمهورية، وأقدِّم لكم الفنان عبدالحليم حافظ».

‎ولم يُفوِّت عبدالحليم الفرصة، ليقدِّم على امتداد أعوام طويلة مجموعة من الأغاني الوطنية الشهيرة.

 

‎يسرد الكتاب أيضًا تاريخ الأغنية الوطنية والسياسية عربيًا وتطورها منذ ظهورها في عصرنا الحديث وحتى وقتنا هذا. وإدراكًا من الباحث لطبيعة الأغنية السياسية أو الثورية التي ظهرت مع وصول النظام العربي إلى طرق مسدودة سياسيًّا وثقافيًا وفنيًا، تطرق هذا الكتاب إلى هذا السياق وارتباطه بتحولات اجتماعية ثقافية أوسع.

‎من مصر، ظهر الشيخ إمام مع رفيق دربه أحمد فؤاد نجم، في تجربة السخرية المريرة، المحرضة على الرفض والثورة.

 

ومن المغرب، جاءتنا أصوات «ناس الغيوان» و«جيل جيلالة».. لتعيد التذكير بالمنسيين والمهمشين عبر غناء يجمع بين التصوف والحس الإنساني والهم اليومي والقضايا القومية. ومن الجزائر، انطلقت موسيقى الراي إلى العالم لتكون نموذجـًا للتمرد الفني الذي تعلّق به كثيرون.

‎ويتطرق د. ياسر ثابت في فصل خفيف إلى الأغاني التي كُتِبت في مديح الفاكهة، وهي تعكس المزاج العام المصري وبيئة المجتمع نفسه. وهناك مبحثٌ بالغ الأهميةعن الأغنية الشعبية وتطورها من أحمد عدوية إلى أغاني «المهرجانات» ووجوهها الذين أصبحوا حديث الساعة، مثل حسن شاكوش وعمر كمال وحمو بيكا وغيرهم.

‎في فصلٍ آخر، سعى المؤلف إلى فتح ملف الأغنيات المتهمة بـ«خدش الحياء». كما يغوص في التاريخ الشعبي ليحكي عن فتوات غنوا وكانت لهم أسماؤهم في ساحة الغناء، حتى وإن كان بعضهم لا يمت للغناء بصلة. في المقابل، يسجل الكاتب في «مقامات الروح: دليل إلى الأغنية العربية» وقائع هزيمة المسرح الغنائي وانحساره في العقود الأخيرة.

‎وربما جاز القول إن الفصل الذي يحمل عنوان «دستور الموسيقى العربية» هو تأصيلٌ لجهدٍ كبير حدث قبل نحو قرن من الزمان بحثًا عن هوية الموسيقى الشرقية والعربية، على يد خبراء وباحثين من العيار الثقيل، من مختلف أقطار الأرض.

‎ففي الفترة من 14 مارس إلى 3 أبريل 1932، شهدت القاهرة أكبر احتفالية موسيقية في تاريخها. فقد اجتمع حشدٌ من الموسيقيين والنقاد والمؤرخين للموسيقى من جميع أنحاء العالم العربي، ومن تركيا وإيران وأوروبا للمرة الأولى للوقوف على تفاصيل الموسيقى العربية ولتبادل الخبرات في حوار جاد بين الثقافات. كان من بين هؤلاء شخصيات موسيقية عالمية مهمة من مؤلفين ونقاد وباحثين ومؤرخين مثل: بيلا بارتوك، باول هيندميث، هنري رابو، إريك موريتز فون هورنبوستل، رودولف ديرلانجي، روبرت لاخمان وكورت ساكس، إضافة إلى بعض المستشرقين مثل هنري جورج فارمر وألكسيس شوتين، وكوكبة من الموسيقيين العرب يتقدّمهم (المصري) محمد عبدالوهاب، و(الحلبي) سامي الشوا، و(العراقي) محمد القبانجي. حلّ بعض الشعراء ضيوفًا على المؤتمر. وشاركت أيضًا فرق موسيقية عربية معروفة متخصصة في الموسيقى التراثية من سوريا والعراق ولبنان ومصر وكذلك من المغرب وتونس.

             يلا بارتوك                          محمد عبدالوهاب                                     سامي الشوا

‎يعتبر هذا المؤتمر -إلى اليوم- واحدًا من أهم المحطات في تطور التاريخ الحديث للموسيقى العربية، ووصفه الباحث الموسيقي علي جهاد راسي بأنه «علامة بارزة في تاريخ الموسيقى العالمية»، حيث شهدت الموسيقى العربية في القاهرة نوعـًا من الولادة الجديدة في هذا المؤتمر. كان للمشاركين من الأوروبيين اهتمامهم الخاص بالموسيقى العربية. فبارتوك ولاخمان كانا يعيشان في ذلك الوقت في تونس. وكان إريش موريس فون هورنبوستل من هواة جمع الآلات الموسيقية العربية التقليدية، ودرس ساكس الموسيقى العربية بكل أشكالها. جاءت فكرة هذا المؤتمر من عالم الموسيقى المصري أحمد محمود الحفني الذي كان عاد للتو من الدراسة في برلين، وكان أول عربي يدرس علوم الموسيقى. عمل الحفني مفتّشـًا للموسيقى بوزارة المعارف العمومية، وقت انعقاد المؤتمر. أعد الحفني الكتاب التذكاري الذي يضم التوثيق الكامل للمؤتمر، في مجلد ضخم أصدرته المطبعة الأميرية بالقاهرة سنة 1933 في نحو خمسمائة صفحة من القطع الكبير.

‎أما الفصل الأخير «نغم في حياتنا»، فهو استعادة لتاريخ الموسيقى والغناء وأهم محطاته البارزة عبر القرن العشرين، الذي شهد تطورات وتحولات لافتة للانتباه في مجال النغم والإيقاع والأداء.

‎تفاصيل كثيرة ممتعة يضمها الكتاب الجديد للمؤلف، الذي قدَّم للمكتبة العربية نحو 80 مؤلفـًا تُعنى في معظمها بتاريخ مصر والمنطقة العربية، لعل أهمها: قصة الثروة في مصر، شهقة اليائسين: الانتحار في العالم العربي، عشاق وشياطين: التاريخ الممنوع للسينما، حروب كرة القدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock