تقديم:
نشر الأستاذ مصطفى عبيد منذ يومين مقالا في «أصوات» تناول فيه بالنقد هؤلاء الذين يوجهون الاتهامات للزعيم الراحل سعد زغلول من منظور أخلاقي، باعتباره اعترف في مذكراته بإدمانه للقمار، اليوم كاتب آخر من أسرة “أصوات” يطرح وجهة نظره من زاوية أخرى ردا على الانتقادات الموجهة لسعد زغلول..
نص المقال:
في مقال سابق على موقع أصوات، تم طرح قضية ممارسة الزعيم الوطني المصري سعد زغلول للقمار في مرحلة محددة من حياته الحافلة.
ولعل من اللافت حقاً استغلال التيار المعروف باسم “تيار الإسلام السياسي” لفقرة عابرة في مذكرات زغلول يعترف بها بممارسة القمار، وذلك بغرض التشهير بالرجل وإظهاره كشخص غير أخلاقي أو في الحد الأدنى شخص خالف تعاليم الدين الاسلامي.
ولا يعبأ دعاة هذا التيار كثيراً بحقيقة أن هذه الفقرة لم ترد في مذكرات الزعيم الراحل في سياق المباهاة مثلاً أو المجاهرة بالذنب وإنما على العكس تماماً، فقد وردت هذه الفقرة في سياق يبدو واضحاً منه ندم صاحبها على فعلته، والتي يؤكد في نفس المذكرات أنه أقلع عنها خاصة بعد أن عاتبته زوجته ورفيقة دربه على هذا الأمر.
لكن المفارقة الكبرى هي أن دعاة هذا التيار ينتقون هذه الفقرة بالذات ويتجاهلون إما عن عمد أوعن عدم معرفة حقائق عدة في حياة وسيرة زغلول التي تبرز وتؤكد على ما يمكن اعتباره البعد الإسلامي في شخصيته وتكوينه.
بداية، فقد ولد زغلول في خمسينات القرن التاسع عشر في إحدى قرى مديرية الغربية، وكان والده رئيس مشيخة القرية أي عمدتها، وكعادة المشايخ والعمد في ذلك الوقت ألحق والد زغلول ولده بالتعليم الديني وتحديداً بالجامع الأزهر.
وفي قلب الأزهر تتلمذ الشاب سعد زغلول على يد الشيخ محمد عبده الذي لاحظ في تلميذه الشاب نبوغاً وأسبغ عليه لقب الشيخ سعد الذي ظل زغلول معتزاً به حتى بعد وفاة أستاذه.
وبدافع من إيمانه الشديد بتلميذه قام الإمام محمد عبده بتعيين زغلول كمحرر في جريدة الوقائع المصرية، وهي أول وظيفة رسمية تولاها زغلول وتبدت من خلالها موهبته في الكتابة.
ومن الطريف حقاً أن سعد زغلول الذي لم يصغ كتباً في السياسة قد صاغ كتاباً في الفقه، وهو ما كشف عنه الشيخ محمد مصطفى المراغي للكاتب والسياسي أحمد لطفي السيد في حوار دار بينهما في منزل المراغي، حيث كان الأخير يحتفظ بنسخة من هذا الكتاب مذيلة بعبارة “ألفه الفقير إلى الله تعالى الشيخ سعد زغلول، الشافعى المذهب، من طلاب الأزهر الشريف”.
كانت جذوة الثورة التي أوقدتها في نفس زغلول دروس السيد جمال الدين الأفغاني التي يعكف على حضورها قد دفعته دفعا٫ كغيره من طلبة الأزهر في ذلك الوقت إلى تأييد الثورة العرابية (١٨٨١- ١٨٨٢)، وحتى بعد إخفاق الثورة واحتلال الإنجليز لمصر لم تنطفئ هذه الجذوة، إذ أسس زغلول مع عدد من رفاقه جمعيه سريه سموها “جمعية الانتقام”، كانت تهدف إلى مقاومة المحتلين الجدد، لكن الاحتلال سرعان ما اكتشف أمرها، فحوكم زغلول وقضى في السجن ثلاثة أشهر،ثم برأته المحكمة؛ لعدم ثبوت الأدلة.
كانت مرحلة القمار التي يتكئ عليها البعض للتشكيك في تاريخ الرجل ككل مرحلة عابرة في حياته وجزءا لا يتجزأ من حالة إحباط عامة أصابت معظم المصريين وخاصة المشتغلين بالشأن العام بعد إجهاض التجربة العرابية.
لكن الشعب الذي آمن به عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد أعاد زغلول مرة أخرى إلى واجهة العمل الوطني حين تفجرت التظاهرات بشكل تلقائي في مارس ١٩١٩ عقب اعتقال الاحتلال لسعد وصحبه ونفيهم.
كانت الهبة الشعبية مفاجأة للجميع بمن فيهم سعد الذي وصفها بأنها “قارعة” أكبر مما كان يتوقع.
أعاد الشعب زغلول من منفاه وأعاد إحياء الثائر القديم بداخله فصار الشيخ الذي خط الشيب رأسه رمزاً لثورة شعبية ضد المحتل، وصار الرجل الذي اعتاد الإنجليز وصفه بالـ”معتدل” إبان توليه وزارة المعارف مفاوضاً متشدداً في مسألة الغاء الحماية وحصول مصر على استقلالها.
ولم ينس سعد “الباشا” سعد “الشيخ” فزار الأزهر عام ١٩٢١ وخطب مشيداً بالدور الذي لعبه هذا الجامع في تكوينه الفكري وفي تعلميه “مبادئ الاستقلال” على حد تعبيره.
هذا التاريخ يطرح بالضرورة سؤالا: لماذا يصر دعاة الإسلام السياسي على تجاهل هذا الجانب من حياة زغلول ويختزلون الرجل في صفه “المقامر” لا غير؟
حقيقه الأمر أن الغرض هو تشويه زغلول وما يرمز إليه وليس القمار هو ما يزعج هؤلاء الدعاة، وإنما ببساطة حقيقة أن مدرسة الوطنية المصرية التي مثلها زغلول في مرحلة معين،٫ تماماً كما مثلها في مرحلة لاحقة جمال عبد الناصر هي النقيض التام لمشروع هذا التيار.
فالوطنية التي تساوي بين أبناء الوطن الواحد وتبقى اللُحمة بينهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية هي أمر يرفضه ويبغضه من لا يؤمنون بمفهوم الوطن ولا يرون فيه سوى “حفنة من تراب”.
لم يكن سعد زغلول رمزاً لثوره “علمانية” كما يحلو لأنصار هذا التيار أن يرددوا وإنما كان ببساطة واجهة لثورة شعبية مصرية، طبق المصريون خلالها فهمهم الخاص للدين الإسلامي، ذلك الفهم الممتد من الفقيه المصري الليث بن سعد الذي اعتبر أن بناء الكنائس هو “من عمارة الأرض” مروراً بالإمام محمد عبده ووصولاً الى “الشيخ” سعد زغلول.