ثقافة

«الرؤية والأداة».. نجيب محفوظ بعيون عبد المحسن طه بدر (١)

أديب نوبل وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ «11ديسمبر-30 أغسطس2006» الذي طالما حار فيه نقاد الأدب العربي المعاصر وأختلفوا فيما بينهم حوله؛ فكان منهم ذلك الفريق الذي أغفل تماما تلك العلاقة التي تربط بين رؤية الأديب للحياة والإنسان وبين منتجه الإبداعي تحت دعوى تمكنهم من تحليل النص الأدبي والوقوف على جمالياته، والفريق الآخر الذي استغرق في محاولة الربط بين رؤية نجيب محفوظ للحياة والإنسان وبين ما انتجه دون التنبه لإبراز الآثار الدقيقة التي ترتبت على تلك الصلة في بناء العمل الأدبي نفسه.

الدكتور عبد المحسن طه بدر «1932-1990» أحد أعلام النقد العربي وأبرز نقاد الواقعية بالوطن العربي في كتابه الذي يعد المرجع الأول لكل دارسي أدب نجيب محفوظ «الرؤية والأداة .. نجيب محفوظ» طرح عدة تساؤلات حول أدب نجيب محفوظ كان منها: هل لنجيب محفوظ رؤية متكاملة للحياة والإنسان أم أنه يصدر إنتاجه الأدبي عن مواقف من الكون والحياة قد تنفصل انفصالا كاملا أو تتضارب من رواية إلى آخرى؟ وما طبيعة العناصر الثابتة والمتغيرة بهذه الرؤية؟ وما أثر الثابت والمتغير في رؤية نجيب محفوظ  على بناء روايته وتطور أدوات تعبيره؟ ..

الرؤية والأداة .. نجيب محفوظ
الرؤية والأداة .. نجيب محفوظ

وقد قسم طه بدر تطور رؤية محفوظ  للحياة والإنسان والعالم من حوله إلى عدة مستويات بدأت بالرؤية الوهمية فالصلة بالواقع ثم السعي نحو الواقعية فالواقعية النقدية.

قبل الغوص بعالم نجيب محفوظ الروائي لعله من المفيد أن نتعرف قليلا على عالم الناقد الأدبي عبد المحسن طه بدر الذي عرفته جامعة القاهرة وساحات الفكر والأدب ثائرا مخلصا منحازا لقضية العدالة الإجتماعية وحق الفقراء والمعدمين في الحياة الكريمة، ومعارضا شرسا للتطبيع مع العدو الصهيوني ما جعله واحدا من أساتذة الجامعات المصرية الذين نكل بهم أنور السادات فيما عُرِفَ بقررات سبتمبر السوداء في 1981 التي تم بناء عليها نقله من عمله كأستاذ بكلية الآداب بجامعة القاهرة؛ إلى العمل بأحد المؤسسات الحكومية، غير أنه سرعان ما عاد لعمله بالجامعة بعد اغتيال السادات في أكتوبر 1981.

بمجمل كتاباته ظل عبد المحسن طه بدر وفيا لتلك العلاقة التي تربط بين الأديب والواقع الإجتماعي الذي يعيش فيه والرؤية الإجتماعية التي يمكن في ضوئها تحليل العمل الأدبي، ومن أشهر مؤلفاته إلى جانب كتابه الرائد عن نجيب محفوظ كتاباته النقدية: «تطور الشعر العربي الحديث في مصر» و«تطور الرواية العربية الحديثة» و«الروائي والأرض .. حول الأديب والواقع» وغيرها من الأعمال النقدية التي أثرت مدرسة النقد الأدبي بمصر وعالم العربي.

بين التجريب وهمس الجنون

استهل عبد المحسن طه بدر تناوله لرؤية نجيب محفوظ للحياة والإنسان وأثرها على منتجه الأدبي بالإشارة إلى أن بداية محفوظ الأدبية جاءت متواكبة لفترة طويلة من التردد في الاختيار ما بين الفلسفة والأدب، معتقدا أن الأدب ليس هدفا جادا بالقدر الكافي، وبعد التخرج سجل محفوظ موضوعا لدراسة الماجستير تحت عنوان: «مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية» تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق ثم جاء عام 1936 لتتمزع مشاعره ما بين الانصراف للأدب أو دراسة الفلسفة وفي النهاية اختار الطريق الأول نحو كتابة الأدب لتبدأ الرحلة.

توزع إنتاج نجيب محفوظ في مرحلته الأولى ما بين كتابة المقال والقصة القصيرة، ثم جاءت الرواية كمرحلة أخيرة، كان المجتمع بذلك الحين لا يعترف بالأدب كقيمة وبالتالي فهو لا يكافيء الأديب ماديا أو معنويا.

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

تتبع طه بدر رؤية محفوظ للحياة والعالم من حوله عبر استقراء مقالاته التي كتبها على مدى خمسة عشر عاما بداية من شهر أكتوبر سنة 1930، حيث نشر أولى مقالاته في «المجلة الجديدة» التي كان يرأس تحريرها سلامة موسى وحتى مقالته عن العقاد التي نشرها بمجلة «الرسالة» في أغسطس 1945.

غاص طه بدر في عالم القصة القصيرة لدى نجيب محفوظ والتي بدأت كمحاولات تجريبية مزق منها محفوظ نحو خمسين قصة قصيرة، ونشرت الصحف نحو ثمانين اختار محفوظ منهم ثلاثين قصة تم نشرهم بكتابه «همس الجنون» لينتقل لعالم الرواية الفسيح.

الرؤية الوهمية وعبث الأقدار

رواية «عبث الأقدار» تعد أول رواية لأديبنا الكبير نجيب محفوظ، وقد خصص لها سلامة موسى عددا كاملا من أعداد مجلته «المجلة الجديدة» غير أن أزمة تلك الرواية من وجهة نظر طه بدر تكمن في أن محفوظ كتبها بذلك الوقت الذي لم يكن قد حسم فيه بعد الصراع داخله ما بين الأدب والفلسفة، ومن ثم كان ينظر للأدب بوصفه نشاط غير جاد وأن أقصى ما يستطيع أن يقدمه هو اللذة التي تختلط بمعنى التسلية.

على الجانب الآخر حين واجه النقاد والدارسون رواية «عبث الأقدار» كان كاتبها قد بات أكبر روائي عربي، ومن ثم جاء نقدهم للرواية مغلفا بتلك الهالة ما دعاهم للبحث عبر ثنايا الرواية عن هدف جاد يتفق ومكانة مؤلفها، الأستاذ محمود أمين العالم رأى فيها أنها رواية «تدين سياسة الاستبداد والقوة وتسخر منها» ويكرر الدكتور طه وادي المعنى ذاته حيث رأى في الرواية أنها «تنديد بالملوك واستبدادهم وإشادة بأبناء الشعب»، أما الدكتور أحمد هيكل فرأى فيها أنها «تعتبر البداية الحقيقية للرواية التاريخية القومية التي لا تقصد تعليم التاريخ، بل إجلاله، وغايتها تعميق الإحساس بالماضي الفرعوني المجيد».

أما نجيب محفوظ فكان من أصرح من حاول تقييم روايته رغم أنه وجد أن عيبها الوحيد يكمن في أسلوبها وحده: «لكنني الآن أضحك على نفسي من أسلوب هذه الرواية، إذ أنني كنت متشبعا وقتها بأنماط من التعبيرات اللفظية الفخمة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، ولم أدرك وقتها ضرورة خضوع وسيلة التعبير لطبيعة موضوع الرواية الذي أتناوله، فكان الموضوع فرعونيا فيه نوع من الخيال التاريخي، ولكنه يستخدم الألفاظ العربية الجزلة الفصيحة من أول الرواية إلى آخرها ومن ثم لازمها التنافر على طول الرواية».

انتقد طه بدر إرجاع محفوظ ضعف رواية «عبث الأقدار» إلى وسيلة التعبير وحدها، ذلك أنه رأى أن وسائل التعبير تعد أدوات للتوصيل فإذا ما أصيبت تلك الأدوات بالخلل فإن ذلك من شأنه أن يؤثر على البناء الروائي كله.

رواية «عبث الأقدار» كما يقدمها طه بدر هى عبارة عن محاولة لتصوير شخصيات من مصر الفرعونية القديمة باعتبارها «لعبًا لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، في يد قدر ساخر» ..

 الرواية على هذا النحو لا تقدم كشفا لتاريخ مصر الفرعونية، ولا رؤية جديدة لهذا التاريخ أو تفسيرا له ولا يمكن أن تزعم لنفسها القدرة على مواجهة الاستبداد أو التنديد به، وكل ما يمكن أن تزعمه وتدعيه أنها محاولة لتقليد الجانب المسلي من روايات جورجي زيدان التاريخية مستبدلة التاريخ الفرعوني بالتاريخ الإسلامي أو روايات والترسكوت التاريخية.

«هل يغني حذر من قدر؟ .. مولاي! لقد اتفقت كلمة الحكمة المصرية التي لقنتها الأرباب للسلف، وأذاعها فاقمنا على الخلف بأن الحذر لا يغني عن القدر» ..

 قدم نجيب محفوظ في روايته «عبث الأقدار» حكاية مسلية تقوم الأحداث فيها على القدر والمصادفة حيث بذل جهده لإبراز عبث الأقدار وسخريتها من الفعل البشري.

غير أن أكثر ما أدهش طه بدر في رواية «عبث الأقدار» قد تمثل في ذلك الكم الهائل من الصيغ التراثية الجاهزة التي تراكمت في أسلوب نجيب محفوظ والتي كشفت عن عمق صلتة بالتراث وصيغه، غير أن تلك الصيغ التراثية على عمقها تحمل في طياتها بعض الآثار السلبية إلى جانب تلك الآثار الإيجابية، غير أنها في مجملها تعكس حالة من عجز الأديب في بداية حياته الأدبية عن خلق لغته الأدبية الخاصة، الأمر الذي يدعوه إلى الإستعانة بتلك الصياغات التراثية الجاهزة التي يعيبها أنها تحيل القارىء إلى جو مصر العربية المسلمة أكثر ما تحيله إلى استحضار مصر الفرعونية التي يفترض أن «عبث الأقدار» تصورها.

رادوبيس وقدر الحب

في لقاء خاص جمع ناقدنا عبد المحسن طه بدر بأديبنا نجيب محفوظ بمكتبه بالأهرام دار بينهما حوار طويل حول حديث النقاد عن ما تحمله رواية «رادوبيس» من حملة بأسلوب غير مباشر على الملوك الفاسدين وعلى الملكية وإنذاره للملك فاروق بما يمكن أن ينجم عن سلوكياته من غضبة شعبية تطيح بالفساد والفاسدين، وذلك على عكس ما يمكن التوصل له من القراءة الدقيقة للرواية والتي تحمل في طياتها شيىء من التعاطف مع الملك الفاروق في صراعه مع الكهنة الذين سخروا جموع الشعب كي تتحرك كالدهماء للمحافظة على مكاسبهم المادية وإغتيال الملك.

كانت المفأجاة بالنسبة لطه بدر أن محفوظ قد وافقه تمام الموافقة على رؤيته للرواية، ولم يكتفي بذلك بل أنه قد تجاوز هذا الموقف بتقديم دليل على صحة وجهة نظر طه بدر حين أشار بأنه كتب تلك الرواية بتلك الفترة التي كان فيها الملك فاروق في أول عهده بالحكم وكان هناك عدد كبير من المثقفين المصريين ومن أبناء الشعب يتعاطفون معه ويأملون فيه خيرا!

رواية رادوبيس
رواية رادوبيس

جاءت رواية «رادوبيس» على عكس رواية «عبث الأقدار» التي جاءت لتجسد عصر إزدهار ما سمى بالدولة المصرية القديمة في تاريخ مصر، حيث مثلت رواية «رادوبيس» إنهيار هذه الدولة وعلى هذا فإن أحداث الرواية قد أرتبطت بفترة تاريخية لا تعد بمثابة فترة مجيدة يمكن للكاتب أن يسعى إلى بعثها كي يخاطب الحاضر بأمجاد الماضي، فالرواية تقدم مصرع ملك عبث به الحب كما عبثت الأقدار من قبل بالملك خوفو في أوج عظمته برواية عبث الأقدار.

وإذا كانت رواية «عبث الأقدار» قد كشفت عن رؤية تقليدية وصلت في مستواها إلى مستوى التصور الشعبي للقدر حيث رأت أن الإنسان مهما جاهد أو فعل فلا قيمة لفعله أو جهاده لأنه في ذلك كله أشبه بريشة في مهب الريح، فإن رواية «رادوبيس» قد وصلت لذات النتيجة نفسها ولكن بأسلوب مختلف، فالإنسان بها لا قيمة لفعله أو تفكيره أو إرادته، فهو مقهور، مهما حاول أو جاهد.

أما عن اللغة في رواية «رادوبيس» كما يراها طه بدر فإن محفوظ قد وقع تحت تأثير تلك اللغة التقريرية المباشرة العامة الضبابية أكثر من خضوعه للغة الروائية التي تصور وتجسد، وأن قصة الحب التي قدمها يمكن أن تقع في أي زمان وفي أي مكان ذلك أنه قد عجز عن تقديم الواقع الحضاري والنفسي لتلك الفترة من تاريخ مصر التي كانت تدور بها أحداث الرواية.

يصف عبد المحسن طه بدر رؤية نجيب محفوظ خلال أعماله الروائية الأولى «عبث الأقدار» و«رادوبيس» بأنها «رؤية وهمية» أختار فيها محفوظ أن يلجأ إلى المباشرة والتعميم بدلا من التصوير والتخصيص وبذلك بات أشبه بموقع الشاعر العربي الذي أصبح أداة دعاية للأرستقراطية الحاكمة، ومن ثم أصبح مطالبا بأن يصف كل حاكم بأنه أعدل الناس جميعا وأحكم الناس جميعا وأشجعهم جميعا ..

غير أن تلك الرؤية ما أخذت أن تتغير في أعمال محفوظ التالية حتى صار ذو رؤية مجتمعية نقدية أوصلته للعالمية عبر الغوص العميق داخل نسيج المجتمع المصري.

وللحديث بقية ..

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker