التنوير، في المعاجم اللغوية، مصدر الفعل نوَّر، وتنوير الشيء إضاءته، وحين يقال: عَمِل على تنوير فِكْر فلان فالمعنى جعله مُتَنَوِّرا، ومن معاني التنوير أيضا أنه وقت إسفار الصُّبح، أما حركة التنوير، كما تقول هذه المعاجم، بإيجاز، وهو القول المشهور في الأدبيات الاجتماعية والسياسية لكن بتفصيلات أكبر وأدق، فهي حركة قامت في أوروبا تعتمد فكرة التقدم وإعمال العقل في فهم واقع المجتمع مع التخلي عن أفكار الماضي.
ما أشبه اللفظ بالشمس ومعناه بدفئها، لكن للتنوير خصومه في بلادنا كما في كل البلاد، وربما لدينا أكثر بحكم أننا مجتمعات نامية ضعيف اقتصادها، وتعليمها ليس على ما يرام، وإعلامها وثقافتها في دائرة التوجيه لا الخلق والابتكار.
في الحقيقة لدينا أربعة خصوم لحركة التنوير الأصيلة في بلادنا، والمتجددة، والتي لها مُلَّاكها وحراسها ولها، وسط كل الضباب الذي نواجهه، ما يمنحها الأولوية ويجعل طبيعتها الزاهية في الصدارة حتى لو لم يكن فيها بصورة فعلية.
أولا: المتشددون الدينيون: وهم من أبرز خصوم حركة التنوير بطبيعتهم المنحازة انحيازا أعمى إلى فقه الغابرين وتفسيراتهم، وبعدائهم لكل ضياء ليس مصدره الكتاب والسنة، ليس بنص الكتاب والسنة، لكن بالنصوص الموازية لنصوصهما في يقينهم نقلا عن مشايخهم المعتمدين وقادتهم الجهاديين ممن يظنون سواهم من العلماء المعتدلين والمفكرين المغايرين من جملة المنافقين الضالين، وكثيرا ما يكفِّرونهم وينسبونهم إلى الشيطان. هؤلاء الشخوص المتيبِّسون الجامدون لن يقتنعوا بأية قيمة تتجاوز مجتمع الرسول (ص) بقِضِّه وقَضِيضِه، بما في ذلك الجانب الشكلي من ذلك المجتمع الحميم البعيد؛ فكأن غاية غاياتهم أن يدخلوا جامعة العلوم الحديثة بالنُّوق.
ثانيا: أسرى العاداتِ والتقاليدِ وظلِّ الأزمنة القديمة: يظل سؤال العالم النفسي الراحل الدكتور عادل صادق له أهميته القصوى في تحديد “عماد السعي الإنساني”: من أين ينطلق الإنسان؟ يجيب الدكتور بنفسه عن سؤاله الفارق المهم: 1 من مفاهيمه المتوارثة اجتماعيا. 2 مما اكتسبه منذ النضوج مختلطا باجتهاداته الشخصية. 3 من وعيه الإنساني الخالص الحر.
الإجابة الأولى تشير إلى الرقم الأكبر بمجتمعنا للأسف؛ فمعظم الناس ينطلقون من مفاهيمهم المتوارثة اجتماعيا أي مما رسخ في نفوسهم من أمثال الراحلين وحكمهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولا بأس بالأمر، لكن ليتهم يقبلون ما عدا ذلك، المعضلة في رفضهم القطعي لأية قيمة تغاير ما نشأوا عليه وتعودوه، وكثر ما يتطرفون فيما يتمسكون به بحجة الحفاظ عليه، ويعتبرون أوعية الأزمنة الأولى هي وحدها حاوية الوطنية والأخلاق وباندثارها يضيع الانتماء ويتفشَّى الانحطاط.
والإجابة الأخيرة هي المفضَّلة لدى المرحبين بالتغيير الآملين في اللحاق بركب الجديد؛ فالمراد أن يكون الإنسان واعيا (وعيا خالصا حرا) وأن يتحرك في الحياة وفق هذا الوعي، فبالوعي الذي هو الفهم والإدراك السليم لن يكون الإنسان ذا طبيعة صعبة ولا مركَّبة في استيعاب ما يمرُّ به وما يُعرَض عليه لكن نبيها سلسا متسامحا، وبكون هذا الوعي ليس مشوَّشا ولا مفروضا (وهذا بالضبط معنى أنه خالص وحر) سنكون بإزاء إنسان متميِّز مستقلِّ الهُوِيَّة!
أما المقصود بالإجابة الثانية فنوع متوفر في الناس ذو مكانة عقلية ووجدانية متوسطة، يتأرجح منطقُهُ بين مكتسباته ممن يحتك بهم، سواء اختلفوا عنه أو قاربوه حالا، وبين ما يراه صوابا لنفسه بنفسه، آخذا في النهاية خلاصتيهما الممتزجة، ولا يبدو صاحبنا طبعا رابط الجأش ذا خبرات تؤهله للقرارالسليم.
ثالثا: أصحاب المصالح التي يعيقها المضيُّ للأمام ودوران آلة التفكير. مهما يكن السير باتجاه المستقبل قيمة إيجابية مبتغاة، فللبعض مصالح لا يحققها مثله، ومهما يكن التفكير الذي يفتش في الأشياء محاولا استكناه حقائقها العميقة شيئا ذكيا، فليس شرطا أن يحبِّذه الجميعُ، سِيَّما الذين لا يصلون إلى أهدافهم إلا إذا تقهقرت الجموع وشاخت الأذهان فلم تعد تعمل وتنتج، وهم كثيرون، لا يعنيهم سوى ازدهارهم الشخصي الذي هو قائم على الركود والتباطؤ والافتقار إلى الروح المحلِّلة الناقدة التي قد تفضح أغراضهم وتكشف حربهم الخفية على الغد المتطوِّر حتى لو بدوا ضمن أنصاره ظاهريا.
رابعا: أدعياء التنوير: قصدت الختام بهم؛ فهؤلاء عار على مسمَّى التنوير، وكم أساؤوا إلى الكلمة السامية، وأفقدوا الناس الثقة بها حتى قيل هي للاستهلاك المحلي وليست من الواقع الصادق بمكان وإن الذين يتبنونها لهم مراميهم الدنيوية الدنيئة. بالأساس هؤلاء شرذمة دخلت الساحة التنويرية بغير علم، واندست بين التنويرين الحقيقيين، واستغلت مقاصدهم النبيلة أسوأ استغلال، وعابت المخلصين بإخلاصهم قبل أن يعيبوها بالرياء والتدني.
حكت لي صديقة موثوق بها أنها انخدعت في جماعة من هؤلاء ودعتهم إلى ندوة بإحدى المناطق الشعبية المحرومة، كانت الندوة في إطار التوعية بالحقوق الإنسانية وإنصاف المرأة، المدعوون كانوا رجلين وامرأتين، وبمجرد حضورهم ذهلت؛ فقد دخلت السيدتان القاعة بملابس فاضحة ودخان سجائر كثيف ومَكِيَاج مبالغ فيه، ودخل الرجلان ضاحكين لاهيين يمضغان الأعلاك ويتزينان بالسلاسل البراقة المستفزة كأنهما في مُتَنَزَّه لِلَّهو وليس للمحاضرة في مكان فقير، أهله تقليديون محافظون، والأنكى أحدهما كان يرتدي قميصا يحمل صورة لفتاة أجنبية عارية، والثاني اصطحب كتابين أحدهما في الإلحاد والآخر في إباحة المثلية الجنسية، بخلاف ما قالوه جميعا في الندوة المشؤومة مما يصدم ويشين.
سَكَتُّ حينها متأملا انطباع الشعبيين البسطاء وهم يستمعون إلى أمثال هؤلاء المفتونين بأنفسهم ليتعلموا منهم شيئا قيِّما مفيدا.
..
ما لم نفهم التنوير فهما صحيحا، ونؤمن برسالته العبقرية إيمانا لا تنفصم عراه، ونتجهَّز له بلا تزيُّد، فلن نستطيع نشر النُّور ولا مقاومة أعدائه الذين أراهم أربعة (وقد يُزاد عليَّ أو يُنقَّص مني)، إننا بحاجة فعلية إلى تنوير مجتمعنا الغارق في بؤسه وظلمته، لكنني أخاف من يأسنا وغفلتنا.
abdelraheemtaya2081@yahoo.com