جميعنا يعرف هذا الرجل ذو الشعر الكثيف والشارب الكث؛ مكتشف النظرية النسبية، وصانع تاريخ القرن العشرين، والحائز على جائزة نوبل عام 1921 لجهوده في خدمة الفيزياء النظرية، خاصة اكتشافه قانون التأثير الكهروضوئي. نقرأ عنه في كتب الفيزياء ونرى آثاره العلمية تزين حتى صدور الـ ’تي شيرتات‘ الشبابية، مثل معادلته عن الطاقة الكلية، E=mc2. هو العالم الفيزيائي الذي يعشق العزف على الكمان، والعبقري الذي ترمز صوره في كثير من الأحيان إلى الجنون، والمدخن الذي يطبق فمه على غليون غير مشتعل.
لكن، قليلون يعرفون كتابات ألبرت اينشتاين عن الرحلات. في هذا السياق، تنشر مطبعة جامعة برنسيتون في يونيو 2018 كتابا مهما عن رحلته الطويلة التي قام بها، بصحبة زوجته، إيلسا، في الفترة من 6 أكتوبر 1922 إلى 12 مارس 1923، وزار خلالها هونج كونج وسنغافورة واليابان والصين وفلسطين وإسبانيا.
يرتكز الكتاب الذي يحمل اسم The Travel Diaries of Albert Einstein (حوليات رحلة ألبرت أينشتاين)، وقام بتحريره زئيف روزنكرانز، إلى الحوليات التي كتبها أينشتاين بخط يده عن هذه الرحلة، وعرض فيها لانطباعاته عن شعوب هذه البلدان. ويعرض الكتاب لهذه الخبرات اليومية، مع صور من المذكرات الأصلية باللغة الألمانية مصحوبة بترجمة إلى الإنجليزية.
كما تنطوي هذه الحوليات على آراء مثيرة في الفنون والعلوم، مثل مدينة توليدو، التي يعتبرها أينشتاين أشبه بالقصص الخرافية، ولوحة Count of Orgaz البديعة التي رسمها الفنان الأسباني، إل جريكو، في كنيسة سانتو توماس، واللوحات التي شاهدها في متحف ديل برادو في العاصمة الإسبانية، مدريد، والمناظر الطبيعية الخلابة في هونج كونج، وقصر توكوجاوا والمعابد البوذية وبحر سيتو في اليابان، ومدينة الناصرة الخلابة في فلسطين، وسعادته للقاء إمبراطورة اليابان، وملك إسبانيا، وعدد من العلماء من مختلف الدول.
اتسم خطاب أدب الرحلات الغربي في بداية القرن العشرين بالنزعة الكولونيالية والترويج لوهم الاستعمار الاستناري والعبء الحضاري للرجل الأبيض والفوقية الإثنية، إضافة إلى الصورة التنميطية التي يرسمها للشعوب المستعمرة. ورغم أن حوليات أينشتاين لا ترقى إلى كتابات أدب الرحلات بمعناها الأدبي الاصطلاحي، إلا أنها انطوت على آراء نقدية لاذعة عن العادات والأوضاع التي شاهدها، بما يفوق ما عُرف عنه من صراحة في تصريحاته العامة.
ففي تعليقه على مشاهداته في العاصمة السريلانكية، كولومبو، أبدى أينشتاين انزعاجا شديدا من الحياة البدائية التي يحياها سكان المدينة الأصليين من الهنود، التي رآها “تفتقر إلى أدنى مقومات النظافة والإنسانية” (28 أكتوبر 1922). كما وصف الصينيين بأنهم “جادون في عملهم واقتصاديون في نفقاتهم، لكنهم مسرفون في الإنجاب”. وكتب عن الصنيين في هونج كونج أنهم “كادحون، لكنهم قذرون وكسولون، حتى الأطفال يفتقرون إلى الروح ويميلون إلى البلادة”. وأضاف “سيكون مثيرا للشفقة أن يتمكن هؤلاء الصينيون من إزاحة الأعراق الأخرى، وأخذ مكانهم ومكانتهم”(10 نوفمبر 1922). لكنه لم يلبث أن كتب أن “العمال الصينيين، الذين ينقلون الحجارة إلى أعالي التلال، هم أكثر من يستحق الشفقة على وجه الأرض، فهم يتعرضون للظلم والانتهاك، ويتلقون معاملة دون معاملة القطيع” (5 يناير 1923).
واتسمت آراء أينشتاين في اليابانيين بالارتباك والتذبذب في كثير من الأحيان، وحارت عقليته الغربية في فك طلاسم طبائع هذه الشعوب، واستعصى عليه سبر أغوار ثقافاتها، وكتب أن “الاحتياجات الفكرية لهذه الأمة تبدو أقل بكثير من احتياجاتها الفنية، بل من استعداداتها الفطرية” (5 ديسمبر 1922). وأضاف أن “ابتساماتهم تحمل الكثير من الود، لكن أحدا لا يستطيع أن يدرك كنه المشاعر الكامنة وراء هاتيك الابتسامات”. ويحاول أينشتاين تفسير ذلك بأن “التقاليد اليابانية الفريدة تملي على اليابانيين إخفاء مشاعرهم وعواطفهم، والتظاهر بالهدوء والحيادية في جميع الأحوال”.
لكن أينشتاين بوجه عام يمتدح اليابانيين، ويعتبر أن “كل ما يضرب بجذوره في أطناب هذه الحضارة رائع ومبهج”. كما يبدي إعجابا فائقا بالتقاليد الفنية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع الياباني، ويعتقد أنها تسمو على نظيرتها الأوربية؛ “فالروابط الأسرية أوثق مما هي عليه في أوربا، وجميع أفراد العائلة يستفيدون من الترابط والدعم المتبادل”. كما يثبت أينشتاين في حولياته آراء عميقة عن الموسيقى اليابانية والفروق الجوهرية بينها وبين الموسيقى الأوربية.
ويُعد ما كتبه أينشتاين في حولياته عن فلسطين هو الأبرز على الإطلاق. فقد أسره سحر الطبيعة في تلك البقعة المستوية، المكسوة بالخَضَار اليانع والأشجار الباسقة، مثل أشجار البرتقال والزيتون والصبار، التي تمتد على بساط حريري بطول وعرض القرى العربية والمستعمرات اليهودية.
ويميز أينشتاين في حديثه عن فلسطين بين التقاليد اليهودية القديمة، وما طرأ عليها من تغيرات، ويصف اليهود عند حائط المبكى بأنهم “مجموعة متبلدة من المشاعر تصلي بصوت مرتفع، وتولي وجهها شطر حائط المبكى، وتتمايل بأجسادها صوب الأمام والخلف … مشهد مثير للشفقة لشعب له ماض وليس له حاضر”.
لكن أينشتاين يعود فيؤكد أن فلسطين أرض البدايات الجديدة، ويمتدح المستوطنات الاستعمارية التي “تعج بأفراد مثيرين للإعجاب، خاصة الروس، والحياة اليهودية المفعمة بالنشاط، والدأب من أجل التوصل إلى الحالة الاجتماعية المثالية، والصلابة في مواجهة الملاريا والجوع” (12 فبراير 1923). كما يرى أن تل أبيب مدينة حداثية بما تكتنفه من حياة فكرية واقتصادية نابضة تجعلها تتمايز عن القدس.
وعبر أينشتاين عن سعادته الغامرة لإلقائه خطاب في الموقع المستقبلي للجامعة العبرية على جبل المكبر، وقيامه بجمع التبرعات لها أثناء فترة زيارته لسنغافورة ودول أخرى، معربا عن تفاؤله بأن الجامعة “ستعبر عن الروح اليهودية وتكون مركزا حضاريا للبحث والتفكير”.