لم يكن حادث 4 فبراير 1942 علامة فارقة في مسيرة حزب الوفد صاحب الأغلبية الشعبية في ذلك الوقت وزعيمه مصطفى النحاس فقط، بل كان نقطة تحول درامي في مسلسل حياة الضابط المعزول محمد أنور السادات الذي ساقته الأقدار بعد ذلك ليصبح رئيسا لمصر، وتطورت الدرامار لتبلغ ذروتها باغتياله في مشهد المنصة الشهير في 6 أكتوبر من عام 1981.
في يوم 4 فبرار 1942 وجه السفير البريطاني في مصر السير مايلز لامبسون إنذارا إلى الملك فاروق يخيره بين تكليف مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد بتشكيل الوزراة أو يتنازل عن العرش، ولم يكن أمام الملك مفرا من تكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة، لكنه شعر بإهانة بالغة، وشعر المصريون الذين تعاطفوا معه بنفس الإهانة، خاصة في أوساط الجيش الذي كان فاروق قائده الأعلى.
خطَّط القصر في الانتقام سواء من النحاس باشا وحزبه أو من السفير البريطاني، وكان المسئول عن خطة الانتقام هو أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي، والذي كان يعتبر نفسه في ذلك الوقت مسئولا عن هيبة العرش وكرامة الملك.
وضع حسنين باشا 3 أهداف لرد هيبة الملك، أولها: كسر حزب الوفد الذي جاء إلى السلطة فوق دبابات الإنجليز، وثانيها: طرد السير لامبسون من مصر باعتباره موجه الإنذار الذي أهان الملك، وثالثها: تأديب أمين باشا عثمان وزير مالية الوفد ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية وحلقة الوصل بين السفارة الإنجليزية والوفد، ثم تأديب مصطفى النحاس رئيس الوفد الذي تواطأ مع الإنجليز وقبل تولي الوزارة بتلك الطريقة المهينة.
وحقق حسنين باشا الهدف الأول عندما شجع مكرم باشا عبيد على الخروج من الوفد، وحرضه على التشهير بزعيمه فخرج «الكتاب الأسود» الذي نال من سمعة مصطفى النحاس تحت رعايته، ولم يتحقق الهدف الثاني إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بنقل السير مايلز لامبسون خارج مصر عام 1946.
أما الهدف الثالث بتأديب أمين عثمان ومصطفى النحاس، فعلى الرغم من أن أحدا لم يقطع بصلة حسنين باشا باغتيال أمين عثمان والمحاولات المتعددة لاغتيال النحاس، إلا أنه من المؤكد أن سلطة عليا في القصر أعطت الضوء الأخضر لتلك العمليات.
ميلاد «الحرس الحديدي»
وقع التخطيط المباشر للعملية على القائمقام يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاورق وصديقه وكاتم أسراره، والذي تم تكليفه بإنشاء تنظيم من ضباط الجيش المخلصين للملك، ورحب رشاد بالفكرة.
في مذكراته التي حملت اسم «الحرس الحديدي» يشير سيد جاد أحد أعضاء التنظيم إلى أن الملك أخبر رشادا أن إخلاص هؤلاء الضباط سيقودهم الي حد القتل، “وافق رشاد بعد أن استشار أصدقاءه الضباط الذين يسهرون عنده بشكل منتظم، وكان ليوسف رشاد في ذلك الوقت ستة أصدقاء يدعوهم أحيانا للسهر في منزله، أربعة منهم من صغار ضباط الجيش، والخامس ضابط مطافئ وقد كلفهم الملك باغتيال مصطفي النحاس زعيم الوفد وأمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد”.
في تلك الفترة كانت هناك خلية سرية تتحرك تحت الأرض بقيادة الشاب حسين توفيق، وكان من بين أعضائها محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية فيما بعد والذي استقال من الوزارة احتجاجا على توقيع الرئيس السادات لـ«كامب ديفيد»، وكانت تلك الخلية تقوم بعمليات اغتيال للجنود البريطانين في مصر.
وكان رشاد على صلة بمجموعة الضباط المتصلين بالفريق عزيز المصري مفتش عام الجيش المصري السابق ومنهم الضابط طيار حسن عزت وصديقه ضابط الإشارة أنور السادات والذي فُصِل معه من الخدمة بعد اتهمامها بالاتصال بجواسيس ألمان في القضية المشهورة التي اتُّهِمت فيها أيضا الراقصة حكمت فهمي.
قضية استقلال مصر ربطت بين خلية حسين توفيق التي تستهدف جنود الاحتلال والضابط حسن عزت ومجموعته. جسَّ يوسف رشاد نبض حسن عزت ليعرف موقفه من المشاركة في تأسيس «الحرس الحديدي» هو ومجموعته لتنفيذ عمليات ضد داعمي الاحتلال، وأخبر عزت طبيب الملك بحاجة المجموعة إلى الضابط أنور السادات المحبوس في معتقل ماقوسة بمحافظة المنيا.
استقبل السادات في معتقله زائرا غامضا، ولم تمض أيام على تلك الزيارة حتى انتقل السادات إلى معتقل الزيتون بالقاهرة، وهو معتقل تم تخصيصه لعدد من المناهضين لحزب الوفد الذين شاركوا في إعداد “الكتاب الأسود”.
اغتيال أمين عثمان
بعد وصوله بأيام تمكن السادات من الهرب مع صديق له من المعتقل، ليلتقي بالشاب حسين توفيق زعيم خلية استهداف الجنود الإنجليز، وخلال اللقاء عمل السادات على إقناع توفيق بخطأ الأساليب التي كانت تتبعها جماعتهم، وقال له: “ما فائدة أن تقتلوا أفرادا من الجنود البريطانين في حين أن هناك مئات ألوف غيرهم سوف يحلون محلهم؟.. إن الهدف الذي يجب أن يتوجه إليه الكل الآن هو ضرب المتعاونين مع الإنجليز”.
“حدد السادات أسماء اثنين من هؤلاء المتعاونين مع الإنجليز، وهما مصطفى النحاس وأمين عثمان”، وطبقا لتقارير سجلت نشاط «الحرس الحديدي»، فمحاولات اغتيال النحاس العديدة، وتنفيذ عملية اغتيال أمين عثمان كانت بتوجيه ومراقبة من أنور السادات.
عندما أُلقي القبض على حسين توفيق بعد اغتيال أمين عثمان بيوم تحديدا في 6 يناير 1946 أدلى المتهم باعتراف كامل على كل رفاقه بمن فيهم أنور السادات، ووضعوا جميعا في سجن الأجانب لكن محاكمتهم لم تبدأ إلا في ديسمبر عام 1947.
وعندما أطلق سراح السادات بعد تبرئته في القضية، تمكن من خلال عدد من أصدقائه من العمل في مجلة «المصور»، ونشر فيها حلقات مسلسلة من مذكراته عن أيام السجن وطُبِعت فيما بعد على شكل كتاب حمل عنوان «30 شهر في السجن»، لكن السادات صادر ما كان باقيا منها في السوق بعد توليه الرئاسة، وفقا لرواية الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل.
30 شهرًا في السجن
سجل السادات في المذكرات يومياته في سجن الأجانب منذ دخوله في منتصف ليل يوم 18 يناير 1946 حتى خروجه في النصف الثاني من عام 1948، ودوَّن فيها المضايقات التي تعرض لها في بداية سجنه، وعلاقته بباقي السجناء والمناقشات التي دارت بينهم حول كيفية التعامل مع الاحتلال، وكذا حفلات السمر التي كانوا يقيمونها، والمسرحية التي عرضوها ولعب فيها السادات دور هارون الرشيد، والصحف التي أصدرها النزلاء.
في أول يوليو سنة 1946. اجتمع المتهمون في قضية اغتيال أمين عثمان لأول مرة للتعارف عقب فترة من الشك والريبة، وبعد الاجتماع الأول بيومين اجتمعوا مرة أخرى وصدر عن اجتماعهم عدد من القرارت عدَّدها السادات في مذكراته كالتالي:
1- یصير توزیع جميع الأطایب (الحلویات وما شابهها) التي تأتي لأحد المتهمين، علي الجميع.
٢- علي أولاد الناس الطيبين الذین یأتيهم طعام من منازلهم أن یشاركوا أولئك الذین یأتهم طعام المتعهد في الأكل معهم، لأن طعام المتعهد رديء، وليس فيه التشویق الكافي؛ إذ أن الأكل هو المتعة الرئيسية أثناء النهار !
٣ – التفاهم مع إدارة السجن للسماح لنا بشطرنج وكوتشينة، والإذن كذلك بالتدخين .
٤- علي كل من یري امرأة جميلة في شباك سجن النساء أن یخطر الباقين لمشاهدتها في أثناء الطابور، والغزل ممنوع، ویكتفي بالمشاهدة، أو المصمصة فقط !
٥- إصدار مجلتين أسبوعيتين تتضمنان الحوادث العامة والتعليق عليها، ونقد المتهمين أنفسهم والتعليق علي ما یدور من حوادث في السجن، هذا بخلاف أية مواد أخري یتفنن في إضافتها وابتكارها رئيسا تحریر المجلتين .
6- تشكيل هيئة من المسجونين تتولى تنفيذ هذه القرارات .
ويشير السادات إلى أن المكان تحول إلى خلية نحل حتى تصدر المجلتان: «بينما أخذ المتهمون في استحضار الكتب والمؤلفات والروایات، نجد رئيسي تحریر المجلتين المزمع إصدارهما وهما وسيم خالد ومحجوب الجابري یتقدمان خطوات في الاستعداد، وقد أخذ كل منهما یتفنن في اختيار الأقلام الملونة والورق، وقد سرت إشاعة أمس أن المقالة الجيدة أو القصيدة الموزونة سيكون ثمنها سيجارة! ولا شك في أن ضخامة التمویل هذه تبشِّر بإنتاج رائع، فالسيجارة هنا أندر من الذهب”.
وتحت تاريخ 20 أغسطس 1946 كتب السادات: “عاد إلينا الهدوء.. حدث أمس أن اشتبك محجوب ووسيم في مناقشة حادة، وذهبت لاستطلع الخبر فعلمت أن الاثنين، وهما رئيسا تحرير المجلتين، يتشاجران على استخدام محمود الجوهري وهو الرسام الوحيد! وبعد تدخل منا اتفقنا على أن يستخدم كل منهما الجوهري، أحدهما قبل الظهر والآخر بعده، وأقسم الجوهري يمينا، بعدم إذاعة أسرار أية مجلة للأخرى أو للقراء وكفى الله المؤمنين القتال”.
وبعد يومين من تلك الواقعة استيقظ المساجين ليطالعوا إعلانا صادرا من هيئة تحرير «الهنكرة والمنكرة»- وهو الاسم الذي اختاره وسيم لمجلته – یحوي أقذع الشتائم، ویتهم محرري الجریدة الأخرى بأنهم مأجورون یتقابلون في إدارة السجن وأن محجوبا شوهد مع الضابط النوبتجي في خلوة، بينما وسيم ینحدر من ذریة خالد بن الوليد العربي القح.. وفي نهایة الإعلان یتوعد وسيم محرري المجلة المنافسة، يسترسل السادات في مذكراته.
وفي 10 سبتمبر، وصف السادات الأجواء داخل الزنزانة وتحدث عن شغفه بقراءة الروايات الغرامية: “الحياة رتيبة، والجو يسيطر عليه هدوء بديع، والجميع منصرفون إلى القراءة، وقد استحضرنا مجموعة كتب وروايات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، واستحضرت مجلدا لمجموعة كتب بالألمانية فأنا أعشقها لأنني أميل إلى قراءة النوع الغرامي من الروايات، فإن لها تأثيرًا لطيفا على أعصابي هنا، فضلا عن أنها تحليل للحياة ولوجه شيق من أعظم وجوهها وهو الحب.. أي والله، كم أنا في حاجة لحب عظيم يملأ نفسي ويغذى قلبي..! وبعد، أليس الحب في مختلف صوره هو أسمي عواطف الوجود؟!”
وفي 5 أكتوبر صدر قرار بإحالة المتهمين في قضية اغتيال أمين عثمان إلى الجنايات، وفي ذات اليوم دعا وسيم ومحجوب رئيسا تحرير المجلتين إلى حفلة بمناسبة قرب صدورهما، واشترطا للاشتراك في الحفل، والتمتع بالتورتات الفاخرة والحلوى والشاي، أن يكتب من يريد الاشتراك مقالا أو قصيدة يقدمها.
وفي 23 أكتوبر صدر العدد الأول من «الهنكرة والمنكرة» والتي كان يرأس تحريرها وسيم خالد، ويصفها السادات بأنها «مجلة فكاهية وتحوى مواضيع شيقة وقفشات وصورا كاريكاتورية لطيفة»، ويضيف أنه تمت مهاجمته في هذا العدد من المجلة “هاجمني وسيم بالكتابة والكاريكاتور واتهمني أنني أتسكع بجوار حائط سجن النساء، مما يضرب أسوأ المثل لباقي المتهمين! وبعد هذا الهجوم العنيف طالب بحرماني من الأطايب لمدة أسبوع على الأقل.. وقد أسرعت واعتذرت، وأمري لله”.
وفي 26 أكتوبر صدرت مجلة «ذات التاج الأحمر» والتي وصفها السادات بأنها آية في الطبع والتبويب والتلوين، “لم أنج من هجومها أيضا، وقد احتفظت بالعدد الأول منها”.
ورغم الحملات الصحفية التي شنها محررو المجلتين ضد بعضهما البعض إلا أن العلاقات توطدت بين نزلاء العنبر بعد أن تم كسر الحالة التي خُلقت إثر الجلسات الأولى للتحقيق والتي اعترف فيها المتهمون على بعضهم البعض.
شارك السادات أيضا في إنشاء إذاعة داخل السجن، واحتفظ لنفسه فيها بفقرتين في البرنامج: الساعة 6 “حديث الأطفال للمربي الفاضل بابا أنور”، والساعة 11 “أغنية حديثة”.
نهاية وبداية
وفي أول دیسمــبر ١٩٤٧ بدأت المحكمة في نظر أوراق القضية: “ها هو ذا الأمر قد أوشك أن یبين، وها أنذا داخل القضبان في الغرفة رقم ٥٤ أتحدث الي نفسي حدیث المسافر الذي أوشكت رحلته علي النهایة، فهو تعب من طول الطریق، ومن طول ما تحمل من مشقاته، وهو جزع من صدمة الوصول ورهبة اللقاء، لأن نفسه قد أذابها الأمل، وأحرقها الفراق”.
استدعت هيئة المحكمة لجلساتها عدد من رؤساء الحكومات والوزراء والساسة منهم مصطفى النحاس وحسين سري وعلي ماهر وحافظ رمضان ومحمد حسين هيكل وبهي الدين بركات، قال عنهم السادات في مذكراته أن “من سخرية القدر أنهم أحاطوا أنفسهم وأعمالهم بقدسية خافها الجميع ووافق عليها الجميع، ولطالما فاحت من أوراقهم أبشع الخيانات والفضائح”.
وفي 30 يناير 1948، يكتب السادات تحت عنوان «وجعل الله بعد عسر يسرا»: إلي هذا الوقت كان وجه القضية مظلما یحيط به الغموض، ولكننا الآن نضحك ملء أفواهنا وبكل قلوبنا، لأول مرة في هذا المكان، فقد أنزلت المحكمة قضاءها العادل بالعابثين.. إننا نضحك ونبكي في وقت واحد.. ! یارب إنها هستریا الانتصار، بعد ظلام الهزیمة.. لم یعد یهمنا حكم المحكمة أیا كان، فقد طابت نفوسنا لهذا الحكم الابتدائي .
ومر السادات على خبر هرب حسين توفيق المتهم الأول في يونيو من عام 1948 مرور الكرام، «وصلنا الخبر أول ما وصل، على وجه السجانين والضباط ثم انهالت علينا القيود والتشديدات»، ويذكر هيكل أن حسين توفيق تم نقله إلى سوريا بترتيب من القصر.
وفي الجلسة الأخيرة صدرت الأحكام على المتهمين الـ 26 وتدرجت الأحكام ما بين 10 سنوات أشغال شاقة للمتهم الأول و5 سنوات لـ 4 متهمين و3 سنوات لثلاثة آخرين، وسنتين لواحد وسنة لواحد وشهر واحد لمتهم واحد، وتم تبرئة 11 متهم منهم محمد أنور السادات، ومحمد إبراهيم كامل، وسعد الدين كامل، ونجيب حسين فخري.
وبذلك يكون السادات هو الوحيد من قادة ثورة 23 يوليو 1952، الذي دخل السجن مرتين على ذمة قضايا سياسية، الأولى قضية الجواسيس الألمان والراقصة حكمت فهمي، والثانية قضية اغتيال وزير المالية الوفدي ورئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية أمين عثمان، لم يُحَل السادات في القضية الأولى إلى المحاكمة وتم عزله من الجيش، فيما برأته المحكمة التي ترأسها عبد اللطيف بك محمد في القضية الثانية.
المراجع:
مذكرات السادات «30 شهرا في السجن»
كتاب «خريف الغضب» محمد حسنين هيكل
كتاب «الحرس الحديدي» سيد جاد