هل من سبيل إلى فتح الدوائر المغلقة الحاكمة لعلاقة الإسلاميين بالعلمانيين؟ وكيف يمكن كسر تلك الفواصل الجامدة بين ما هو إسلامي وما هو علماني؟ وهل يمكن للعلمانية أن تنفتح على الأديان وتعيد موقفها من دور الدين في حركة الأفراد والمجتمعات؟ وهل يمكن علمنة الدين أي ربط الدين بحركة الزمنى والدنيوي؟ وهل يمكن تحرير علاقة العلمانيين بالإسلاميين من أسر توظيف السلطة السياسية لهذا التنازع بينهما؟ وكيف يمكن تفعيل جهود التيارين لتصب في المشكلات الرئيسية للمجتمعات العربية بدلاً من استنزاف طاقتها في صراع لا طائل من ورائه؟
يذهب العلماني إلى ضرورة العناية بشئون الدنيا، ولا ينبغي أن يتجه التفكير كلية إلى الغيبي و الأخروي، وهذا لا يتعارض مع روح الإسلام بالعناية بشئون الدنيا، وذلك لأن الإسلام يرى أن الدنيا مزرعة الآخرة، فلا تصلح الآخرة إلا إذا صلحت الدنيا، فالعمل الطيب وسيلة لإصلاح حياة صاحبه، ووسيلة لإصلاح الدنيا، ولم ينبذ الإسلام البعد المادي من حياة الإنسان بل طالب الإنسان بالسعي من أجل العمران والبناء، ولهذا كان انغماس الإسلام في البعد الاجتماعي والمعاملات بين الناس؛ فحرم الربا والاحتكار، واكتناز الذهب والفضة، وفرض الزكاة على الدخول والأموال الخاصة بالأغنياء.
ويرى العلماني ضرورة اعتبار الزمن في إدارة شئون الحياة الإنسانية ، فلا شيء يمكن أن يكون خارج البعد الزمني حتى البعد الروحي يخضع في مساره للزمني ، وهذا لا يتعارض مع روح الإسلام العامة ، وسياسته الإصلاحية، حيث كشفت علوم القرآن من خلال (الناسخ والمنسوخ) و (أسباب النزول) عن دور الزمن والبيئة في تشكيل الوحي في حركة التاريخ ، فكان التدرج في أحكام الخمر مع بيان المثالب والميزات، ثم التحريم أثناء الصلاة، ثم الدعوة إلى الاجتناب فلم يكن الوحي ليكسر ،ويتجاوز طبيعة الزمن والبيئة التي نزل عليهما، ومن جانب آخر فإن أسباب النزول تكشف عن دور الواقع في تشكل الوحي ، حيث ارتبطت بعض آيات الوحي بوقائع تاريخية خاصة ، فكان الوحي في جانب منه إجابة السماء لنداء الأرض، واستجابة الله لنداء الإنسان الحائر، فلم يكن الوحي خارج إطار الزمن، ولا ناقضاً لطبيعة البيئة التي نزل عليهما، بل كان الوحي رسالة الإصلاح التدريجي وفقاً لتطور حركة الجماعة المسلمة ومسار ارتقائها.
ومن جانب آخر فقد ركز الفقه وأصوله على أهمية الواقع التاريخي ، وأهمية الزمن والبيئة التي تصدر فيها الأحكام، فحين شرع علم الأصول لأهمية رعاية مصالح العباد فقد شرع ذلك لأهمية الواقع التاريخي حين يصيغ المشرع تشريعه ، بل ذهب نجم الدين الطوفي إلى أنه إذا تعارض الشرع مع المصلحة وجب تقديم المصلحة على الشرع، كذلك راعى الفقه تغير البيئة والزمن في الحكم فاختلف فقه الشافعي في مصر عن فقه الشافعي في العراق ، وذلك لتغير الزمان والبيئة ، ومن ثم كانت أحكام الفقه تتطور بتطور الواقع والزمن وما يحمله من مستجدات تتطلب اجتهادات جديدة توافق حركة المجتمع ،وتغير الزمان والمكان، ولهذا لم تكبل نصوص القرآن حركة الواقع، ولم يفرض القرآن في متنه أحكاماً كثيرة حرصاً على تحرير حركة الإنسان في الزمان والمكان بما يوافق مصلحته، فالقرآن كان كتاب هداية أكثر من كونه كتاب للتشريع، بل لا تتجاوز آيات التشريع ستمائة آية فقط فيه.
ويؤمن العلماني بأهمية نسبية المعرفة، ونسبية الحقيقة، ومن ثم يؤمن بتعددية المداخل إلى إدراك الحقيقة ، لأن الحقيقة المطلقة حين تنزل من السماء إلى الأرض فتتحول في فضاء الإنسانية إلى مسارات متعددة ورؤى متباينة، وهنا لابد أن نؤكد أن الفكر الإسلامي يعترف بنسبية الحقيقة ،ويقر بأهمية التعدد، فلكي يصل الوحي إلى أفهام البشر لابد من تفسيرات العلماء والفقهاء والصوفية والفلاسفة، وهنا لابد أن تكون التعددية سمة بارزة لاختلاف العقول في فهم الوحي، واختلاف البيئات والأزمنة التي تظهر فيها الاجتهادات والتفسيرات المتباينة، فالحقيقة المطلقة التي يحملها الوحي تتحول في فضاء الأرض إلى رؤى نسبية، فيتحول الروحي من الأحادية إلى تعددية الزمني ، ويتحول الدين في ذاته من المطلق إلى الفكر الديني النسبي ، ويتحول الإلهي المقدس إلى إنساني بشري، فتتحول العقيدة من الأحادية إلى التعددية المذهبية في علم العقائد، ومن الإسلام الواحد إلى الإسلام المتعدد، وتتباين أحكام الفقه بين مختلف المذاهب الفقهية وفقًا لاختلاف البيئة والزمن والمكان، وهذا دليل على التنوع النابع من تعدد الرؤى، وفي إطار إيمان الفكر الإسلامي بالنسبية كان ثراء الفكر الديني في مجالاته المختلفة التي تبدأ من التفسير مروراً بالعقيدة والفقه وانتهاءً بالتصوف.
وإذا كانت النسبية هي السمة الأصيلة للفكر الإسلامي والتي أتاحت له التعددية الكبيرة ، فإننا نستطيع التمييز بين المقدس والبشري ، وبين ما هو إلهي وما هو بشري ، ولا يمكن في الإسلام منح صفة القداسة على الجهد البشري، وذلك لأن جهود العلماء في الإسلام هي جهود بشرية خالصة تحتمل الصواب والخطأ، والقبول والرفض، ومن ثم فليس في الإسلام سلطة كهنوتية وليس لعلماء الدين حق الوساطة بين السماء والأرض، وما منحه العلماء لأنفسهم من سلطة كهنوتية كرس لها الإجماع في علم أصول الفقه، فقد تعرض الإجماع للنقد من العديد من العلماء، ورفضوا الاعتراف بأن ثمة إجماعاً للعلماء في تاريخ الإسلام على مسألة معينة ، وأن التعدد والاختلاف هو سمة المذاهب الفقهية.
وإذا كان الفكر الإسلامي في مجمله لا يكرس لكهنوت رجال الدين ، بل يمنح أي إنسان الحق في تفسير الكتاب المقدس (القرآن) طالما امتلك أدوات هذا التفسير، فإن هذه الروح الحرة في الإسلام كان لها تأثيرها الواضح في الإصلاح الديني في أوروبا حين ظهرت البروتستانتية لتمنح الأفراد حق تفسير الكتاب المقدس (الإنجيل)، وتكسر السلطة الكهنوتية لرجل الدين في المسيحية، وهو ما أدى إلى انتشار الروح العلمانية في أوروبا وإلى تحرير الإنسان عقلًا وروحًا وهو ما كان أحد أسباب تقدم أوروبا.
وإذا كانت السلطة الكهنوتية سمة بارزة لرجال الدين الشيعة في الإسلام، وبعض أعلام أهل السنة فإن هذه السلطة هي ما منحه لهم الخلف، وقد ظهرت العديد من التيارات الإصلاحية التي تسعى إلى نقض السلطة الكهنوتية لأنها ليست سلطة حقيقية في الإسلام، ولكنها سلطة زائفة تتعرض للنقد والسخرية في أحيان كثيرة، ولا شك أن إضفاء الكهنوتية على بعض رجال الدين في الإسلام هو نتاج عصور الانحطاط التاريخي ، والتراجع الفكري والثقافي.
وإذا كان العلماني يدعو إلى إقامة شئون الدنيا والمجتمع على العقل والعلم فإن الإسلام كدين قد دعا في صلب كتابه إلى إجلال دور العقل الإنساني لأنه أساس الاستخلاف، وحًمل النص القرآن العديد من الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر والتعقل في الكونيات والماديات لأنها علامة على الخالق ، كما منح الإسلام العلم والعلماء مكانة رفيعة فيه ، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، فالعقل والعلم من المنظور الإسلامي هو أساس تحرير الإنسان، وأساس الاعتقاد، فدعا الإسلام إلى أهمية اعتبار الدليل والبرهان في عملية الاعتقاد، وأن الاعتقاد لا ينبغي أن يقوم على التقليد للآباء، فلا تعارض بين ما يدعو إليه العلماني، وما يروج له الإسلامي حول ضرورة تأسيس شئون المجتمع على العقل والعلم.
ويدعو العلماني إلى ضرورة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وفي هذا ما يؤكده الفكر الإسلامي بأن الحاكم ليس له سلطة دينية على رقاب الناس، وكذلك ليس لرجال الدين سلطة مقدسة على رقاب الناس ، ولكن رغم هذا فإن السلطة السياسية في تاريخ الإسلام ما انفكت توظف الدين من أجل خدمة أغراضها ،وتوظف سيطرة رجال الدين والفقهاء وتأثيرهم على ضبط العوام، وكذلك وظف علماء الدين في الإسلام قربهم من السلطة السياسية لترسيم مذاهب عقائدية وفقهية بعينها على الجمهور، ومن ثم فإننا نؤكد أن الإسلام كدين لم يمنح كلاً من رجل الدين أو رجل السياسية سلطة القداسة إلا أن الممارسة التاريخية لرجال السياسة أو رجال الدين فيها تداخل بين الديني والسياسي لمصلحة كل طرف من الأطراف، كما أن الفكر الإسلامي عبر تاريخه قد أسهم في تزاوج الديني بالسياسي في مسار التاريخ.
ولاشك أن معركة فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية كانت مركزية في الثقافة الإسلامية المعاصرة، دار فيها حوارات كثيرة بين العلمانيين والإسلاميين، يركز فيها العلمانيون على ضرورة فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية لمسئوليتها عن أضرار كثيرة على المجتمع، وبالمقابل يرد الإسلاميون بأن الإسلام دين مدني، وأن الإسلام متداخل في شئون الاجتماع والسياسة من أجل تنظيمها، ولا شك أن هذه الحوارات تكشف عن أن هذه المسألة بالذات في حاجة إلى مزيد من الاجتهاد في فقه السياسة للوصول إلى مسار واضح من أجل تحرير حركة الاجتماع البشري في كافة المجالات.
ليس ثمة تعارض كبير – في الجوهر- بين الإسلام والعلمانية، وأن الفكر الديني بمزيد من الاجتهاد يمكنه الانفتاح على ما هو علمي ، وما هو دنيوي ، وما هو علماني ، لأن طبيعة الإسلام منفتحة على العلم والعقل والدنيا،ولكن تظل المحنة في الفكر الديني الذي يصور الإسلام على أنه دين غيبي أكثر منه دين اجتماعي دنيوي ، كما يتوجه الفكر الديني إلى الآخرة على حساب الدنيا ، ويركز على الطقوس والشعائر أكثر من تركيزه على دور الإيمان في حياة الفرد والمجتمع، فالمحنة ليست في الدين ذاته ولكنها في الفكر الديني الجامد الذي لا يرغب في تطوير نفسه من أجل مسايرة تطور حركة الاجتماع، وهو ما اضطر الاجتماع إلى خلق القوانين وسن التشريعات التي تلائم طبيعة التطور الحادث في المجتمع.
وإذا كنا نُحمل الإسلاميين مسئولية تخلف الفكر الديني السائد وعدم سعيهم للتطوير فإننا بالمقابل نُحمل العلمانيين روح التعصب السائدة في توجههم، واعتبار أن تشوية الآخر الإسلامي المغاير لهم في التوجه الأيديولوجي هدف وغاية، فأصحاب التوجه العلماني في عالمنا العربي لابد أن يعوا أنه من المستحيل في الشرق الإسلامي أن يزيحوا دور الدين والتراث والتاريخ كلية من التأثير في مسار المجتمع ، ولابد لنا من الاعتراف بأهمية دور الدين في حياة الفرد والمجتمع، وبأهمية دور الدين في إشباع الطاقة الروحية للإنسان وفي تحسين جودة الحياة ، وصياغة المجال الفردي في الحياة الإنسانية، ودور الدين الفاعل في دعم المنظومة الأخلاقية الكلية.
ومن الضروري على العلمانيين – الذين يُنظر لهم على أنهم نبت دخيل في المجتمع- أن يجذِّروا الروح العلمانية من داخل الثقافة العربية والإسلامية، لأن هذا يُسهِّل على الخطاب العلماني مخاطبة الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، فالعلمانية لها جذور في فكر المعتزلة وابن رشد، وفي بعض آراء الخوارج، وفي الاتجاهات العقلانية في الإسلام التي تعطى الأولوية للعقل على النقل في رؤية العالم وتفسير الوجود، فتمنح الزمني دوره في تسيير الروحي، وتعطي الزمني الحق في رؤية الروحي في أفقه، ومن جانب آخر يمكن تعميق العلمانية في فقه المصلحة، والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية لأن فقه المصلحة يعطي الأولوية للواقع ومصالح العباد على النص، وأنه في حالة تعارض النص مع مصالح العباد، وجب تقديم المصلحة على النص وفقاً للمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية في الحفاظ على الدين، والعقل، والنفس، والمال، فانتظام العلمانية في تراثنا الثقافي يُسهِّل عملية أداء الفكر العلماني في فضاء المجتمع، وبخلاف ذلك سيظل يُنظر إلى العلمانية على أنها دعوة غريبة بعيدة عن جذور المجتمع الثقافية.