من ذا الذى يمكنه أن يدرك هذا الحضور الإستثنائى بالرغم من الغياب.. من الذى يمكنه أن يتحول فى لحظة إلى أيقونة غير قابلة للتجاوز والنسيان مع مر الزمان.. هذا تحقق فى عصرنا الحديث مع شخصيات قليلة جدا .
منح الموت قدرا هائلا من الرمزية والنفاذ إلى الوجدان الجمعي ليس بين مواطنيه ولا بين هؤلاء الذين يحملون أفكاره اليسارية والمناضلون من أجل العدل والحرية والمساواة فحسب بل امتد الحضور ليعم العالم ويستمر مع السنوات.
تحول جيفار بعد أقل من عام من مقتله الدرامى إلى المعادل الموضوعى للتمرد على الظلم والتوق إلى حياة كريمة والقدرة على التضحية بالحياة من أجل قضية يؤمن بها ويدفع عمره راضيا من أجلها.
لم تنل شخصية فى عصرنا الحديث ذلك الوجد المختلط بالانبهار كما حدث مع “تشى جيفارا” ويبقى السؤال الدائم… من أين لك كل هذا الحضور أيها الرفيق جيفار؟
كيف تحولت ملامحك بكل ما بها من رومانسيه العصور الوسطى إلى ماركة مسجلة وصرت تشبه الأساطير وتحاك حولك القصص ويتحول قبرك إلى مزار دولي لأنصار القضية وعشاق العدل من كل مكان
كيف امتلكت أيها الرفيق كل تلك القوة بالرغم من غياب جسدك منذ أكثر من نصف..
قرن؟
تحول اسم “جيفارا” إلى علامة تجارية وصارت صورته تميمة للنضال والرومانسية فى بلدان العالم كما بقى خالدا فى عقل كل مناضل وكل حركة ثورية فى أرجاء المعمورة وصارت مذكراته التى تحمل عنوان “يوميات دراجة ناريه ” تحقق أعلى المبيعات فى العالم بالقطع هناك عوامل متعددة صنعت من “جيفارا” رمزا بالرغم من أنه ظهر فى أوج مرحلة التحرر الوطنى وبين زعامات كبيرة من مختلف دول العالم مثل “جمال عبد الناصر” “باتريك لوموبا” و”نهرو” وغيرهم .
الثورة والسلطة
كان جيفارا أحد قادة الثورة الكبرى ورفيق لزعيمها “فيدل كاسترو” وبعد نجاحها فى عام 1959 تم تعينه وزيرا للصناعة وكان له الدور الرئيس فى سن قوانين الإصلاح الزراعي وعمل أيضاً كرئيس ومدير للبنك الوطني ورئيسا تنفيذياً للقوات المسلحة الكوبية، كما جاب العالم كدبلوماسي باسم الاشتراكية الكوبية .
فى عام 1965 كتب “جيفارا “رسالة خطيه لرفيقه “فيدل كاسترو ” قال فيها:
” أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع شعبك الذي أصبح شعبي. أتقدم رسمياً باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي كوزير، ومن رتبة القائد، ومن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا “
جاءت تلك الرسالة لتعلن مرحلة نضال جديدة فى بوليفيا لتسجل آخر حلقات نضاله ضد الظلم وتوحش الرأسماليه.
رحيل تراجيدي
فى التاسع من أكتوبر عام 1967 كان “جيفارا” وعلى بعد شهر تقريبا من الاحتفال بعيد ميلاد السابع والثلاثين فى ذلك اليوم الحزين كان الماضل المثال صلبا متماكسا أمام تسعة رصاصات على خمس مرات في الساقين، مرة واحدة في كتفه الأيمن والذراع الأيمن، ومرة واحدة في صدره، وطلقه واحدة في الحلق. تلقاها من رجل نصف مخمور الرقيب فى الجيش البوليفي “ماريو تيران “
تنفيذا لأمر الرئيس البوليفي “رينيه باريينتوس” وقد أمر فيليكس رودريغيز بإطلاق النار بعشوائية حتى يبدو أن جيفارا قُتل في خلال اشتباك مع الجيش البوليفي. قبل لحظات من إعدام غيفارا سئل عما إذا كان يفكر في حياته والخلود.. أجاب: “لا، أنا أفكر في خلود الثورة”. ثم قال تشي للجلاد “أنا أعلم أنك جئت لقتلي أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل سوى رجل.”
وكانت القوات البوليفيه قد تمكنت بمساعدة بعض عملائها فى يوم 7 أكتوبر من أسر جيفار وقد ذكر “جون لي أندرسون” كاتب سيرة تشي في مذكراته أن جيفارا أصيب مرتين وعندما أصبحت بندقيته عديمة الفائدة هتف “لا تطلقوا النار أنا تشي جيفارا وأساوي حيا أكثر من ميت” وبالفعل يتم القبض عليه تم تقييده ونقله إلى مبنى مدرسة متهالكة.
كان مقيداً من يديه وحين حاول الضابط انتزاع غليون التبغ من فمه للاحتفاظ كتذكار كان رد جيفار المباشر أن بصق في وجه الأميرال البوليفي أوجاتاشي وكان ذلك فى صباح 9 أكتوبر طلب “جيفارا مقابلة مديرة المدرسة التى يُحتجز بها وكانت، “جوليا كورتيز” تبلغ من العمر 22 عاماً، والتى قالت إنها وجدت غيفارا “رجلاً مظهره مقبول ولديه نظرة بسيطة ولمحة من السخرية ” وخلال المحادثة وجدت أنني لم أستطع النظر في عينيه مباشرة لأن النظرة كانت لا تطاق، خارقة وهادئة. خلال المحادثة القصيرة شكا لها من الحالة السيئة للمدرسة مشيراً إلى أنها مضادة للتربية وهو من غير المتوقع أن طلاب يتعلمون هنا في حين أن المسؤولين يحصلون على سيارات مرسيدس” قائلاً إن هذا هو ما نحاربه “
كان هذا آخر ما فعله “جيفارا” قبيل مقتله بساعات وقد حرص أعداء جيفارا على التقاط الصور له بعد مقتله ويصف “الموديفار” لصحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل بأنها تشبه صور “المسيح “
الأيقونة الباقية
فى عام 1967 اجتاحت أوروبا موجة غضب عارمة سُمِّيت بمظاهرات الطلبة والتى انطلقت من فرنسا وكانت هذه الأحداث الكبرى بداية للإعلان عن أسطورة “جيفارا” يحمل مئات الآلاف صوره فى المظاهرات وكانه هو الملهم لكل حراك من أجل الحرية والعدل.
كان لمصرع “جيفار” بهذا السيناريو الملحمي الذى يعيد للأذهان دراما الأساطير الإغريقية ويشبه كثيرا في تفاصيله ملاحم الأبطال في القصص والروايات كان لذلك دور في تخليد اسمه وتحوله إلى رمز للمقاومة والرومانسية الثورية في كل العالم.
كانت إطلالته حاضرة بقوة في كل الثورات التي شهدها العالم العربي فيما يعرف بالربيع العربي وكل الإحتجاجات التي تنشب فى كل بلدان العالم لكن الأهم أن جيفار قد صار جزءا من الثقافة الشعبية العالمية لدرجة دفعت العولمة إلى السعى لاستثمار اسمه وصورته في تسويق منتجاته فلن تجد سياسيا أو مناضلا في تاريخ العالم تم استخدام صورته للتسويق بعد أكثر من نصف قرن على رحيله سوى “جيفارا” فتتزين به التي شيرت وتوضع صورته الشهيرة على زجاج السيارات وواجهات المحال التجارية وعبوات المنتجات الاستهلاكيه وغيرها من تفاصيل الحياة..
جيفارا لم يعد معادلا للنضال والثورية ومواجهة الإمبرياليه فقط بل صار حالة إنسانية عابرة للحدود وللزمن
وإضافة إلى كل ذلك فإن سيرة ذلك الطبيب الشاب الذى تخرج من كلية الطب ويخصص عيادته لعلاج الفقراء مجانا وتخليه عن منصبه كوزير في قمة السلطة وعودته لحمل السلاح في صفوف المقاومة ضد القهر في أي مكان في العالم من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية ليس ذلك فحسب فقد كان شاعرا موهوبا وكاتبا مميزا ومثقفا عضويا يمكن القول إن “جرامشي” كان يراه أمامه وهو يصف محددات وملامح المثقف العضوي ليعري كما فعل “أحمد فؤاد نجم” في قصيدة الشهيرة “جيفارا مات” يعري كل الزيف وكل الادعاء..
“مات المناضل المثال
يا ميت خسارة ع الرجال
مات البطل فوق مدفعه جوة الغابات
جسّد نضاله بمصرعه
ومن سكات
لا طبالين يفرقعوا
ولا إعلانات
ما رأيكم دام عزكم
يا أنتيكات
يا غرقانين
في الماكولات والملبوسات
يا دفيانين
ومولعين الدفايات
يا محفلطين
يا ملمعين يا جميسنات
يا بتوع نضال آخر زمن
في العوامات
ما رأيكم دام عزكم
جيفارا مات “
كما يصف موته الشاعر “عبد الوهاب البياتي” قائلا :
” في زمن المنشورات السرية
في مدن الثورات المغدورة
جيفارا العاشق في صفحات الكتب المشبوهة
يثوي مغموراً بالثلج و بالأزهار الورقية “
عن الحب والنضال
ومن أهم الأعمال الأدبية التي استلهمت ملحمة المناضل “جيفارا” تأتي رواية “في عشق جيفارا” للروائية الكوبية آنا مينانديس والتي قام بترجمتها الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم، وصدرت عن سلسلة روايات الهلال لتأخذنا إلى أجواء كوبا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حيث نعيش قصة حب الثوري الأشهر في العصر الحديث جيفارا.
وكما أن “جيفارا” تراثا نضاليا ملهما وفكريا يثير الدهشة فإنه ترك تراثا إنسانيا غنيا متجددا وتمثل قصة الحب الشهيرة التى جمعت بين المناضل ورفيقته وزوجته “أليدا” التى عاشت معه المرحلة الأهم في حياته حيث تزوجا عام 1959 بعد قصه حب مفعمة بالتفاصيل الشجيه تحت قصف القنابل والمطاردات الحربية والإختفاء في الغابات وظلا معا حتى عام قبل مقتله في 9 أكتوبر 1967
وكانت “أليدا” قد التحقت بالمقاومة ضد حكومة باتيستا المستبد في 1956. وبعد عامين التقت بجيفارا وبعد فترة من الشك وعدم الثقة لأنه كان يعتقد أنها مخبرة تم دسها للتجسس عليه لصالح إحدى الحركات المناهضة للاشتراكية، نشأت قصة حب بينهما وتزوجا في عام 1959، في نفس عام قيام الثورة الكوبية، وظل الزوجان معا في كوبا حتى عام 1966 عندما غادر إلى الكونغو لدعم ومساندة حرب التحرير التي كان يشنها باتريك لومومبا.
وكان اللقاء الأخير بينهما في أكتوبر 1966 قبل عام من مقتله في بوليفيا، وكانت هذه آخر مرة يشاهده أولاده فيها. لكن قبيل وفاته تلقت قصيدة منه قال فيها:
“إلى اللقاء محبوبتي الوحيدة لا تخافي من جوع الذئاب
ولا الصحاري المقفرة الباردة
سيحيط بك دائما دفء قلبي
وسنتواصل دائما حتى يطيب لنا الطريق..
حبيبك إلى الأبد “
يتجدد اللجوء لرمزية “جيفارا” مع كل لحظة مواجهة وكل فعل مقاوم للظلم واستنزاف ثروات الشعوب وضد كل متسلط وديكتاتور كما أنه يتجدد مع كل معنى للاتساق مع القناعات وكل لحظة دفء عاطفي تتوحد فيها المشاعر مع المبادىء ولوعة العشق مع الولع بالحرية والعدل .