يتصور أتباع كل جماعة أو تنظيم من فرق ما يسمى “الإسلام السياسي” أنهم الأرقى والأنقى والأسمى والأذكى، والأدهى من هذا أنهم هم الممثل الحصري للإسلام في الأرض. وينبت أساس هذا التصور من تعاليم مؤسس “جماعة الإخوان المسلمين” حسن البنا التي طب من أتباعه أن يكونوا كذلك، فيما طالبهم منظِّرها سيد قطب بأن يعتزلوا شعوريا عن سائر المسلمين، وينظرون إليهم من علٍ، ويتعاملون معهم على أنهم يعيشون في جاهلية كاملة، كتلك التي كان يحيا فيها المشركون قبل ظهور الإسلام.
إنها فكرة “العزلة الشعورية” التي تناقض ما جاء في القرآن، وما نطق به الرسول عليه الصلاة والسلام وفعله، ولا تجد لها من سند سوى في الأفكار العنصرية التي أطلقها النازيون والفاشيون وكل من زعموا قبلهم أنهم أنقى وأعلى من الناس، فانكشفت نواياهم، وخاب مسعاهم.
وقد صاغ سيد قطب المنظر الذي خرجت أغلب أفكار وتصورات المتطرفين المعاصرين من بين سطور كتبه فكرة “العزلة الشعورية” التي تكشف في جوهرها عن مرض عضال يسرى في نفوس أعضاء جماعة الإخوان، لاسيما من القطبيين، أقل ما يوصف به هو أنه نوع من البارانوايا الحادة، أو الشعور الزائف بالعظمة والاصطفاء.
ففي كتابه “معالم في الطريق” يقول قطب: “ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من تصوراتها، ولا في شيء من أوضاعها، ولا في شيء من تقاليدها، مهما اشتدّ الضغط علينا، حين نعتزل الناس؛ لأنّنا نحسّ أنّنا أطهر منهم روحاً، أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو أذكى منهم عقلاً، لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً، اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة، إنّ العظمة الحقيقية أن نخالط الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع، ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العليا ومثلنا السامية، أو أن نتملّق هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم، أو أن نشعرهم بأنّنا أعلى منهم أفقاً، إنّ التوفيق بين هذه المتناقضات، وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية”.
هكذا يقرر قطب، في استعلاء، لمن اتبعوه أنهم هم المصطفون الأخيار البررة، الأسمى نفوسا، والأذكى عقولا، والأمضى عزما، والأرسخ وثوقا في النصر، والأهم أنهم هم المؤمنون بحق، السائرون على الطريق المستقيم، والممثلون الحصريون للإسلام، وأن ما عداهم ليسوا علي شيئ يذكر، إنما هم سادرون في جاهلية جديدة، متخبطون في عمائهم وغبائهم ورذائلهم، وأن على أتباع الإخوان إن خالطوهم بأجسادهم مجبرين أن يعتزلوهم بنفوسهم، ويتفضلون عليهم بتسامح وعطف.
هذا الشعور الزائف، الذي تحول تلقائيا إلى عقيدة، قاد إلى تعامل المنتمين لتنظيم الإخوان مع سائر المسلمين على أنهم أقل شأنا منهم، وأنهم مجرد أدوات مستباحة يجب توظيفها بأي طريقة لخدمة مسالك أتباع حسن البنا ومقاصدهم، الذين هم في نظر قادة الجماعة المتشبعين بأفكار سيد قطب، أهم عناصر المجتمع قاطبة، ليس من زاوية الإيمان فحسب لكن أيضا التعليم والمهارة والإخلاص والصواب.
وما يزيد الطين بلة أن هذه الفكرة الشوفينية التي تشبه ما تبناه النازيون والفاشيون من امتلائهم بشعور التفوق على الجميع لها جذورها في أفكار البنا نفسه، فقد كان يخاطب أتباعه قائلا: “أنتم صحابة رسول الله، ولا فخر، وحملة لوائه من بعده”، وكان يطالبهم بأن يبذلوا كل جهد ليكونوا هم الجماعة الوحيدة التي تمثل الإسلام في الأرض.
وجعلت العزلة الشعورية أتباع الجماعة في ولاء وتأييد لقيادتها وأفكارها، وفي براء من كل الذين يخالفونهم الرأي والتوجه، تستمرئ الشماتة في أية عثرة يقع فيها الوطن طالما أن السلطة الحاكمة في خلاف مع “الإخوان”، مثلما رأينا انتظارهم هزيمة مصر أمام العدوان الثلاثي في حرب 1956 وفرحهم بهزيمة 1967، وابتهاجهم بكل مشكلة أو حادثة أليمة تمر بها مصر بعد إسقاط حكمهم لها، حتى لو كانوا هم صناعها مثل استباحة المنشآت الاقتصادية والخدمية دون أدنى انشغال بمعاناة الناس، بل اعتبار ما هم فيه من مآس هو انتقام إلهي منهم لأنهم لم ينصروا دعوة الجماعة، ويسايروا قادتها طائعين كقطيع من الأغنام، وينشدوا مع أعضائها أناشيد الغربة والاغتراب.
الأفدح من هذا أن العزلة سرعان ما تحولت من مجال الشعور إلى مجال الحس، ومن عالم المعنويات إلى عالم الماديات؛ فراحت بعض التنظيمات التكفيرية تقاطع المجتمع وتهجره، بدعوى أنه مجتمع جاهلي، حتى أنها قاطعت مساجد يصلي فيها المسلمون لأنها في نظرهم “مساجد ضرار”، وتطور الأمر إلى مقاطعة تقلد الوظائف بمؤسسات الدولة، لأن عملها، من وجهة نظرهم، ليس في خدمة الإسلام، ورواتبها حرام، والأفدح من هذا هو استحلال أموال الآخرين وأعراضهم، لاسيما مع امتلاك جماعة الإخوان موارد اقتصادية تنفقها على أتباعها، فيتملكهم غرور بأنها ليسوا في حاجة إلى أحد.
لقد سبق أن طالب النازيون كل الناطقين بالألمانية بتكوين عرق آري نقي متفوق على سواه، يقيم وحده دعائم الحضارة، وكانت خطة هتلر هي إخلاء ألمانيا من جميع اليهود والغجر والسود والمعاقين جسديا وذهنيا. وجاءت الأبحاث الأنثربولوجية والاجتماعية الحديثة لتبرهن على أن فكرة النازي هذه محض مزاعم وأنها خرافة كبرى، وهي صفة تنسحب على كل النظريات التي يدعي أصحابها التفوق على الناس ومنها مسألة “العزلة الشعورية”، خاصة عند التيار القطبي من “جماعة الإخوان المسلمين”.