بينما يوشك عام 2020 على الأفول، لا يزال وضع تنظيم القاعدة في أفغانستان يخضع لنقاشات حادة. فكبار المسئولين في إدارة دونالد ترامب، مثل وزير خارجيته مايك بومبيو، يؤكدون أن التنظيم “ظلٌ لما كان عليه في السابق”. على الجانب الآخر، يرى بعض الباحثين أنه في حالة تراجع وتدهور مستمرين. وفي مقال نشرته هذا العام فصلية Washington Quarterly، يشير الخبير في شئون تنظيم القاعدة، دانيل بيمان، إلى أنه من غير المرجح أن “تستأنف الجماعة دورها كتنظيم جهادي مهيمن”. ويؤكد بعض أعضاء المجتمع المدني الأفغاني أن حضور التنظيم في بلادهم يخضع لكثير من التهويل.
رغم ذلك، تشير نظرة أكثر تعمقا للأنشطة الملموسة التي تضطلع بها الجماعة، سواء عبر تنظيمها المركزي أو من خلال جماعاتها الموالية في أفغانستان، بحقيقة مغايرة تماما. فالجماعة بلا شك ليست في أفضل أحوالها أو أوج عنفوانها الذي كانت عليه في السنوات السابقة على أحداث 11 سبتمبر، لكن أحدا لايستطيع أن ينكر أنها بذلت جهودا ملموسة من أجل إعادة بناء التنظيم، والمحافظة على ثوابته واستراتيجياته الأصيلة المتمثلة في مواجهة الولايات المتحدة، بغض النظر عن بعض الضغوط التي فرضتها جهود مكافحة الإرهاب، أو التي فُرضت من داخل الجماعة ذاتها، لصرف تركيز الجماعة إلى اتجاهات مغايرة. ولا تزال قيادة التنظيم ماضية في عزمها على تأمين وضمان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي تصفه بأنه “إقرار من العدو بالهزيمة.”
إن الأعضاء الرئيسيين في القيادة المركزية لتنظيم القاعدة لا يزالون ينظرون إلى أفغانستان باعتبارها قاعدة استراتيجية بالغة الأهمية، على الرغم من توافر قواعد محتملة أخرى أكثر إتاحة والتهديدات التي تفرضها جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية. يتجلى هذا أكثر ما يتجلى في حالة أيمن الظواهري، قائد التنظيم. فبحسب قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي، تشير تقديرات الجيش الأمريكي إلى أن الظواهري موجود في أفغانستان. كما يبدو أن حمزة بن لادن، الوريث السابق لقيادة التنظيم ونجل مؤسسه، قد بقي في أفغانستان قبل مقتله في منطقة الحدود الأفغانية الباكستانية. وبرغم أن العديد من أعضاء القيادة المركزية للتنظيم غير موجودين – على ما يبدو – في الداخل الأفغاني (ربما يتواجدون بدلا من ذلك في إيران أو في محافظة إدلب في سوريا)، إلا أن بعضهم لا يزال يستوطن أفغانستان.
كما نجح تنظيم القاعدة في تعزيز تماسكه السياسي ودعم تحالفاته وعلاقاته في أفغانستان. ففي أعقاب تحول التنظيم إلى اللامركزية، وإنشاء فرع في جنوب آسيا، وهو “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” في عام 2014، توقع المحللون أن هذا من شأنه أن يقوض، وربما يقضي تماما على، تماسك التنظيم ونفوذ قيادته في أفغانستان. كان هذا هو الحال فعليا في الفترة بين عامي 2014 و2016، عندما عانى “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” وحلفاء آخرون مثل “حركة طالبان باكستان”، من تحديات جسيمة لتماسكهم فرضتها عليهم عمليات القتل واسعة النطاق والانشقاقات المتوالية عن التنظيم لحساب فرع تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان.كما واجهت القاعدة أيضا في هذه الغضون صدعا في علاقتها مع “شبكة حقاني” بسبب – ولو جزئيا – الضغوط التي فرضتها الغارات الأمريكية بالطائرات بدون طيار على باكستان. وينظر بعض المراقبين إلى صراع القاعدة / حقاني على أنه تم بمساعدة حليف في شبكة حقاني ، وهو جهاز الاستخبارات الباكستاني. كما فقد التنظيم أيضا سيطرته على “حركة طالبان باكستان”، التي أدى استهدافها للمدنيين إلى إلحاق أضرار بالغة بمكانة القاعدة في دوائر قيادة “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” من طوائف الحنفية وأهل الحديث والسنة الديوبندية، وغيرها في جنوب آسيا.
لكن، منذ عام 2017، بينما كان الاهتمام العالمي منصبا على تنظيم الدولة الإسلامية، سعى تنظيم القاعدة إلى قلب هذه التوجهات في أفغانستان، حيث ركزت قيادة التنظيم – تماما كما فعلت فروعه واسعة الانتشار – على تنفيذ سياسات واعية للمحافظة على استقرار الجماعة وتماسكها. ونتيجة لذلك لم تنفصم عرى القاعدة على نحو ما حدث مع تنظيم الدولة. وأكد التنظيم ولاءه لقيادة أيمن الظواهري الذي تعهد بالولاء لزعيم طالبان أفغانستان الملا هبة الله أخوند زاده. وانخرط “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” في جهود توحيد سياسي لإعادة الفصائل غير النشطة إلى حظيرته.
كما رسخ تنظيم القاعدة علاقاته السياسية مع جماعات وشبكات أخرى في أفغانستان. ففي ظل قيادة عاصم عمر وأسامة محمود، قام “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” بمواءمة إيقاعه العملياتي مع استراتيجية “طالبان أفغانستان” التي تهدف إلى تأمين انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. وعلى مدى العامين الماضيين، ساعد تنظيم القاعدة في توجيه حالة التعافي السياسي داخل حركة طالبان باكستان، وهو ما تجلى مؤخرا في دمج جماعات منشقة مهمة وبعض الفصائل البنجابية المتحالفة مع القاعدة في “حركة طالبان باكستان” المركزية. كما يبدو أن تنظيم القاعدة قد نجح في كبح جماح استهداف المدنيين داخل “طالبان باكستان”.
كما حافظ تنظيم القاعدة على علاقاته مع “حركة تركستان الشرقية الإسلامية”. وبعد أن فقد تنظيم القاعدة تحالفه مع “الحركة الإسلامية في أوزبكستان”، نجح في توثيق علاقاته مع عدد من جماعات آسيا الوسطى الأخرى الموجودة داخل أفغانستان، مثل “كتيبة الإمام البخاري” و”كتيبة التوحيد والجهاد” و”جماعة الجهاد الإسلامي”، التي لا تزال تتخذ من بعض المناطق في شمال أفغانستان مقرا لها. كما بذل “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية”، من خلال مخرجاته الدعائية، جهودا حثيثة لبسط سيطرته على الجماعات المنشقة عن الجماعات الجهادية المدعومة باكستانيا مثل “جماعة عسكر طيبة” و”جماعة جيش محمد”. وقد أكد أسامة محمود، الذي يبدو أنه كان مسئولا عن صياغة استراتيجية “تنظيم القاعدة في كشمير” على مدى السنوات القليلة الماضية، على أهمية “جماعة أنصار غزوة الهند” الكشميرية المولية لتنظيم القاعدة للاستراتيجية الإقليمية للجماعة.
وإضافة إلى الصورة السياسية المتطورة، أعاد تنظيم القاعدة أيضا تجديد قدراته القتالية في أفغانستان، حيث تشير مؤشرات مهمة على تطور قدرات تنظيم القاعدة باضطلاع التنظيم بعملية بناء مطردة ومتصاعدة. فبحسب تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، ينشط تنظيم القاعدة في 12 مقاطعة أفغانية، ويحتمل أنه يقطن مناطق الحدود الشمالية والجنوبية. وبينما لا تخضع أعداد مقاتلي التنظيم إلى قياسات دقيقة، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إجمالي أعداد مقاتلي التنظيم في أفغانستان يقع بين 400 إلى 600 مقاتل، وهو رقم يفوق بكثير تقديرات عام 2017 التي أشارت إلى وجود حوالي 200 مقاتل فقط. ومن المحتمل أن تصل أعداد المقاتلين الموالين لتنظيم القاعدة، بمن فيهم المقاتلين الأجانب، إلى الآلاف، حيث تشير تقديرات شهر يوليو 2020 إلى وجود أكثر من 6000 مقاتل من “حركة طالبان باكستان” في أفغانستان. وتفيد تقارير أيضا بأن تنظيم القاعدة قام بإنشاء معسكرات تدريب في شرق أفغانستان، إضافة إلى تمويل وحدة مشتركة مع “شبكة حقاني” التي يبلغ قوامها 2000 مقاتل.
وإلى جانب القوة البشرية، يحتفظ تنظيم القاعدة بقدرات تسليحية فائقة. ففي ظل قيادة لقمان خباب، نجل أبو خباب المصري القائد السابق للخلية الكيميائية والإشعاعية والبيولوجية والنووية، يبدو أن تنظيم القاعدة قد نجح في المحافظة على إبقاء هذه الخلية في منطقة أفغانستان / باكستان. وبرغم عدم تطورها التقني، إلا أن هذه الخلية تتمتع بثراء مادي يحاول التنظيم استغلاله في التجارة في المواد النووية السائبة في السوق السوداء. كما يحتفظ التنظيم أيضا بخلايا لحشد المساعدات المادية عبر مسارات جغرافية تمر عبر الأراضي الإيرانية إلى داخل أفغانستان وباكستان.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ’ما الاستراتيجية التي يمكن أن يستخدم فيها تنظيم القاعدة رأس المال السياسي والتنظيمي المتاح؟‘ أحد الاحتمالات هي أن يشن التنظيم حملة إرهابية موجهة إلى الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة. لكن في العامين الماضيين لا توجد أي معلومات عن مخططات كبرى يلهمها أو يوجهها تنظيم القاعدة في أفغانستان في المجال العام. وفي تقييم نشر مؤخرا، ذكرت “وكالة الاستخبارات الدفاعية” أنه من غير المرجح أن يفرض “تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية” تهديدا إرهابيا دوليا كبيرا على الغرب، حتى بدون ضغوط مكافحة الإرهاب الأمريكية على المدى القريب. يبقى أيضا أن حجم قوة المقاتلين الأجانب الغربيين في صفوف تنظيم القاعدة في أفغانستان لايزال محاطا بقدر غير قليل من عدم الوضوح. وتفيد هذه المؤشرات مجتمعة بأن قدرات الإرهاب العابر للحدود لدى تنظيم القاعدة في أفغانستان إما أن تكون محدودة أو أنها تقبع طي الكتمان.
د. أسفنديار مير – زميل ما بعد الدكتوراه في “مركز الأمن والتعاون الدولي” التابع لجامعة ستانفورد
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية وهوامش الدراسة من هنا