من أهم الأسس التي ترتكز عليها الثقافة الأمريكية- التأكيد الدائم على أن الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحق في حرية التعبير، هي التزام لا محيد عنه لمؤسسات الدولة وأجهزتها وكافة نظمها.. وهو ما يعني تفوقا ما من الناحية الأخلاقية لأمريكا على كثير من الدول التي يحب الأمريكيون وصمها بالشمولية والدكتاتورية والقمعية وما إلى ذلك من الصفات.. إلا أن هذه المرتكزات لا تصمد كثيرا أمام كثير من الممارسات غير الأخلاقية التي تلجأ إليها المؤسسات الأمريكية بدوافع الحفاظ على الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد، وأحداث “شيكاغو” التي بدأت في اغسطس 1968، وما تلاها من وقائع خير شاهد على ذلك.
بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية بدأ عرض فيلم “محاكمة شيكاغو7” للمخرج وكاتب السيناريو “آرون سوركين” يتناول الفيلم محاكمة ثمانية أشخاص أشير إليهم بأصابع الاتهام عشية أحداث شيكاغو 1968، التي تزامنت مع انعقاد المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي بالمدينة الشهيرة.. كانت منظمات وأحزاب وتجمعات عديدة قد دعت للتظاهر أثناء انعقاد المؤتمر لحث الحزب على ترشيح شخصية رافضة للحرب في فيتنام في الانتخابات الرئاسية التي كانت ستجرى في العام التالي.. بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي الديمقراطي “ليندون جونسون” عدم رغبته في ترشيح الحزب له لفترة رئاسية جديدة.. بعد انهيار شعبيته لدرجة جعلت الخدمة السرية “الحرس الرئاسي” ترفض ظهور” جونسون” في مؤتمر الحزب بـ “شيكاغو” وذلك لأنها لن تتمكن من ضمان سلامته من محاولات الاغتيال.
رأى المحتجون أن ترشيح الحزب لـ”هيربرت همفري” للسباق الرئاسي وهو أحد داعمي استمرار الحرب في فيتنام؛ لابد أن يواجه برفض عملي على الأرض؛ فكانت الدعوة للتوجه إلى “شيكاغو” للاحتجاج السلمي، لكن سلطات المدينة رفضت إصدار تصاريح للتظاهر، مما فَاقَمَ الوضع وجعله على حافة الانفجار.
على مدى أيام المؤتمر حدثت مصادمات عديدة بين المحتجين من جانب وقوات شرطة “شيكاغو” والحرس الوطني في “إلينوي” من جانب آخر.. وقد نتج عن تلك المصادمات إصابات أعداد كبيرة من المحتجين بعد أن استخدمت القوات العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين.
تم اعتقال قادة المظاهرات وتقديمهم للمحاكمة إذ رأت إدارة الرئيس الجديد الجمهوري “ريتشارد نيكسون” أن تجعل من محاكمة هؤلاء الشباب عبرة ومثالا لكل من يفكر في مناوءة السياسات الأمريكية.. خاصة فيما يتعلق بالحرب في فيتنام.
المحاكمة وما اكتنفها من أحداث مؤسفة كشفت للعالم الجانب المظلم في عمل المؤسسات الأمريكية.. هو ما ركز عليه كاتب السيناريو المتمكن الحائز على الأوسكار عن فيلم “الشبكة الاجتماعية” والمخرج مؤخرا “آرون سوركين” فمعظم وقائع الفيلم جرت داخل قاعة المحكمة.. أما المتهمون السبعة في القضية بالإضافة إلى المتهم الثامن “بوبي سيل” رئيس حزب الفهود السود والذي يختلف وضعه عن الآخرين لأنه تواجد على هامش الأحداث قبل أن توجه له تهمة قتل شرطي في ولاية أخرى هي “كونيتكت” فقد كانوا كنزا حقيقيا لكاتب السيناريو الذي عمل على إبراز التناقضات الفكرية والإيدلوجية بين المتهمين لإضفاء الحيوية الدائمة على الحوار، إلى جانب العديد من المشاهد الهزلية التي قصد بها المتهمان ” آبي هوفمان” و”جيري روبين” السخرية من القاضي المتحيز لدرجة العدوان ” جوليوس هوفمان” بالإضافة إلى كثير من المواقف التي بلغت درجة الصدام بين محامي المتهمين ” ويليام كونتسلر” والقاضي، وممثل الادعاء “ريتشارد شولتز” في الجانب الآخر.
بدت الجمل الحوارية باللغة “السوركينية” قوية وحادة ومنمقة لدرجة جعلتها تبدو أحيانا بعيدة عن الواقعية، فكل شخصية في الفيلم كانت تعرف ما تقوله جيدا دون تفكير، ما جعل الأمر يبدو أحيانا كالمناظرة السابقة الإعداد.. تطلَّب هذا من المخرج الاستعانة بممثلين على أعلى درجة من الموهبة والحضور فكان من ضمن فريقه اثنين من الفائزين بالأوسكار هما: إيدي ريدماين (توم هايدن) ومارك ريلانس (ويليام كونتسلر) بالإضافة إلى ثلاثة قد رُشِّحوا للجائزة من قبل هم: ساشا بارون كوهين(آبي هوفمان) ومايكل كيتون (رامزي كلارك) وفرانك لانجيلا (جوليوس هوفمان) ومن المعروف أن إيدي ومارك وساشا بالإضافة إلى إليكس شارب(ريني ديفيس) هم ممثلون بريطانيون، وهذا ما جعل “سوركين” يتخوف كثيرا من مسألة اللهجة خاصة بالنسبة للممثل ساشا بارون كوهين الذي اعترف أنه شعر بالرعب من ضرورة التحدث بلكنة أمريكية.. لقد فعل ذلك غير مرة في إطار كوميدي، وكانت المرة الأولى له في عمل درامي.. مع العلم أن لهجة شخصية (آبي هوفمان) كانت تمزج بين لكنتي ماساتشوستس وكاليفورنيا.. ما طمأن كوهين أن سوركين أبلغه أن عليه القيام بتفسير الشخصية لا انتحالها.
حملت رؤية الفيلم إدانة كاملة للمؤامرة التي يمكن وصفها بالدنيئة التي قامت بها السلطات لإدانة المتهمين دون بينة أو دليل ما وصف بأنه بمثابة اضطهاد قانوني من إدارة الرئيس نيكسون لمعارضي الحرب في فيتنام. حتى أن المحاكمة جرت وفق قانون معيب كان قد وضع من قبل بعض الولايات الجنوبية للتنكيل بالمواطنين السود.. وقد حاول “سوركين” من خلال إظهار شخصية القاضي “جوليوس هوفمان” كشخصية تتأرجح بين الشر وانعدام الكفاءة إظهار الأزمة الأخلاقية التي أوقعت الإدارة الأمريكية نفسها فيها دون مبررات كافية.
لكن المخرج خفف كثيرا من فداحة ما تم اقترافه من قبل السلطات تحت سقف المحكمة، ويكفي الإشارة إلى أن المتهم “بوبي سيل” حضر خمس جلسات جرت على مدى عشرين يوما، مكمما ومغلولةٌ يديه إلى قدميه، بينما رأى “سوركين” أن يختصر هذا العذاب، وذلك الانتهاك الصارخ إلى عشر دقائق فقط قبل أن يبطل القاضي “هوفمان” محاكمة “سيل” بناء على طلب نائب الادعاء “شولتز” وهو ما لم يحدث على الإطلاق في الحقيقة.. ومن الغريب أيضا أن المحكمة وجهت للمتهمين ومحاميهم 170 اتهاما بازدراء المحكمة، لم يأت السيد “سوركين” إلا على ذكر عشرة منها فقط، في حين اخترع لكمة سددها المتهم “ديفيد ديللنجر” إلى أحد حراس المحكمة، بعدما احتد “ديفيد” على القاضي واصفا إياه بالمجرم.
ظهرت قدرات “سوركين” في الإخراج في تضفير وقائع الجلسة بمشاهد أرشيفية للأحداث الحقيقية مع عدم اللجوء المتكرر للـ ” flash back” مستخدما تقنيات أخرى مثل رواية “آبي هوفمان” للأحداث من خلال العروض الكوميدية، كما اهتم بتنفيذ مشاهد المصادمات بحرفية شديدة دون استخدام أعداد ضخمة من المجاميع.. وبالطبع فإن الإشادة واجبة لفريق المونتاج بالفيلم بقيادة “كايتلين علي” الذي جعل من هذه المشاهد المتباينة أشد التباين سبيكة واحدة من الذهب.
يأتي هذا الفيلم في الوقت المناسب تمامًا.. فالحرية والقانون والديمقراطية.. تلك القيم التي ترمز إلى أمريكا عند الكثيرين- تخضع اليوم لضغوط هائلة في ظل ما حدث من تجاوزات خطيرة بعد مقتل المواطن “جورج فلويد” على يد أحد رجال الشرطة، ثم ما أثير مؤخرا حول انتهاكات صارخة لقواعد العملية في الانتخابات الرئاسية الحالية.
أراد “سوركين” القول أنه “ما أشبه الليلة بالبارحة” وأن شيئا لم يتغير، وأن على الأمريكيين أن يواجهوا الأمر بكل حزم.. وهو ما لخصه بقوله عن النص الذي كتبه قبل عشر سنوات وعمل على تطويره ” أن النص لم يتغير ليعكس الزمن؛ بل إن الزمن تغير ليعكس النص”.
بلا شك يعتبر هذا الفيلم هو أفضل ما قدمته السينما العالمية خلال هذا العام، ومن المؤكد أنه سيحصد العديد من جوائز الأوسكار، وهو بالفعل يستحق.. بقي أن نذكر أن الفيلم يجب أن يكون كاشفا لنا عن تلك الحقائق المتعلقة بتهافت دعاوى الديمقراطية الأمريكية.. فالولايات المتحدة تسوق لبضاعة هي لا تمتلك منها في الحقيقة إلا أردأ الأصناف.. وهي لا تستطيع أن تنفع بها أحدا، فقد كان حري بها أن تنفع نفسها أولا.. وليس أقل من أن نخرج من أسر “البروباجندا” الأمريكية لنتبين أن أهل “مكة” أدرى بشعابها، كما أهل “شيكاغو” أدرى بها وإن عم الظلام كل البقاع بصورة متفاوتة.. فلربما كنا جميعا في انتظار الفجر.