ثقافة

لمحات تربوية في فكر أبي الوليد ابن رشد (2-2)

في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” تعرّض ابن رشد لعدد من القضايا ذات صلةٍ وثيقةٍ بفلسفة التّربية؛ منها واقعية المعرفة، ووجوب النظر العقلي، وحكم تعلّم الفلسفة، وحُكم دراسة علوم غير المسلمين، والقدرة البشرية على الإحاطة بالعلوم، والتأويل، وتصنيف العلوم.

لقد سعى ابن رشد إلى وضع منهج تربوي يداوي به العديد من آفات عصره، والأسقام التي أصابت أمته في مقتل.. وكان تأسيسه لهذا المنهج تأسيسا فلسفيا إسلاميا دون ريب؛ مؤكدا “أنّ المعرفة الإنسانية والعلم البشري أصلهما من الواقع “العلم اليقيني وهو معرفة الشّيء على ما هو عليه. والعلم المخلوق فينا إنما هو أبدا شيء تابع لطبيعة الموجود”.

وقد لاحظ ابن رشد أثناء تشريحه لأسباب الأزمة التي عصفت ببلاده؛ وتجلت في غير جانب من جوانب الحياة؛ خاصة في السياسة والفكر – أن أصل الداء يكمن في تخلي الطبقة الحاكمة المؤلفة من القادة والأئمة والعلماء عن مبادئهم العقلية، واتخاذهم موقفا معاديا للعلم والعقل.. وقد تزامن ذلك مع تراجع التخصص؛ واضطرار الناس إلى الاشتغال بأكثر من عمل، فكان ذلك سببا مباشرا في غياب الإتقان وتراجع الصنائع وندرة أصحاب المهارة في الأعمال.. فكما نقول في المثل الدارج: “صاحب بالين كدّاب”.

فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال

يبدأ ابن رشد وصف الدواء بذكر الصفات الواجبة للمعلم، والتي تؤهله للقيام بهذا الدور الخطير؛ إذ يجب “أن يكون مطَّلِعا على العلوم النّظرية، ومكتسبا حنكة الدهر، هذه الحنكة هي التي تدل على التّمرس بقواعد الصّناعة الفلسفية التّربوية، وتخرج عمله النّظري إلى التّطبيق والتّجربة”. فيستطيع بذلك تحقيق الوظيفة التربوية التي من شأنها “حفظ الناشئة في بدنها حفظًا طبيًّا، وفي عقلها ولسانها حفظًا تربويًّا أخلاقيًّا”.

أما المجتمع الذي تثمر فيه يد الإصلاح تلك؛ فلابد أن يكون مجتمعا منفتحا لا نبذ فيه ولا انعزال؛ تتفاعل أطرافه تفاعلا إيجابيا من خلال علاقات تبادلية تقوم على التكافؤ والعدالة والرحمة.. كما حذّر أبو الوليد من ترك علوم السابقين من علماء الأمم الأخرى؛ اتباعا لفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان؛ فيقول “يجب علينا، إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السّالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق؛ نبهنا عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم”. هذا لأن الانغلاق والانكفاء على الذات والإعجاب بما لدينا من “نظام قيمي” إنما هو ضعف وسبيل إلى الفساد؛ لأن الحياة لا تصلح إلا بالاحتكاك بالمخالف؛ فالاختلاف يكشف عن جوانب إيجابية لا يفصح عن جوهرها غيره.

إن إنسان المدينة الفاضلة الذي سعى ابن رشد إلى إعداده روحيا وقيميا وعقليا وبدنيا ومن كافة الجوانب – هو اللبنة الأهم في تلك المدينة.. فمهما تحقق لتلك المدينة من سبل الراحة والرفاهية والتحضر؛ ومهما امتد عمرانها واتسع؛ فلن تكون بمعزل عن عوامل التأخر والضياع؛ إلا إذا استمرت جذوة الوعي متقدة في عقول أبنائها، وهم يسعون بالحكمة إلى تحقيق العدالة بالوسائل التي تلتزم القانون، ولا تخالف الشريعة.

من أجل ذلك “انتصر ابن رشد للجمال ولكل ما هو جميل في تربية الإنسان؛ فالجميل عنده هو الذي يُختار من أجل نفسه، ويتميز بأنه ممدوحٌ وخيّرٌ ولذيذ، ومن هنا كانت الموسيقى باعتبارها عشقا للحسن بالذات شيئا جميلا، وكان التصوير باعتباره تجسيدا للفضيلة شيئا جميلا، وكانت الفلسفة ذاتها عنده أمرا جميلا”.

ومما انتبه إليه ابن رشد مبكرا؛ مشكلة تعليم قواعد اللغة العربية للناشئة، إذ لاحظ الفقيه الفيلسوف ما يعانيه الأطفال من صعوبات عند دراسة علم النحو العربي بسبب “غموض مصطلحاته وتعقد مسائله وكثرة تأويلاته”؛ فوضع لحل هذه المشكلة كتابا قيما أسماه “الضروري في صناعة النحو” هذا الكتاب الذي تأخّر اكتشافه كثيرا؛ حتّى عُدَّ “حلقة مفقودة في مشروع ابن رشد الفكري” وقد تضمّن هذا الكتاب أفكار ابن رشد التي “تجسِّد مقاربته لتيسير تعليم النحو العربي، وذلك بإعادة بنائه وصياغته على الطريقة الصناعية (المنهج العلمي)، إذ إنه ركّز على مفاتيح علم النحو والأمور الأساسية فيه؛ بعيدا عن الشذوذات والتأويلات، فجاء كتابه إسهاما فعالا في صرح القواعد النحوية”.

بيت شعر باللغة العربية مدون على صخرة أثرية
بيت شعر باللغة العربية مدون على صخرة أثرية

ويرى الباحث التربوي الفلسطيني أحمد صالح أن أفكار ابن رشد ورؤاه التربوية من الممكن أن تشكّل منهجا تربويا مستقلا واضح المعالم يرتكز على ما يلي:

يجب أن تكون تربية النشء على أساس من العقل والمنطق وإدراك العلاقة بين الأسباب والمسببات، بالبحث وفق منهج علمي؛ كما يجب اتباع طريقة الاستقراء، والبرهان في فهم الأمور، وحتى الشّرعية منها، فاذا ما توافق العقل مع الشّرع، فانه لا توجد هناك مشكلة، وإن اختلفا؛ فإنه يجب علينا أن نعيد تفسير الآيات تفسيرا يقبله العقل.. فالحَسَن ما حَسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحَه العقل.

كما أكد ابن رشد على التفكير العقلاني وأن يعرض المرء أفكاره بطريقة منطقية تكشف عن قدرته على كشف أسباب وجواهر الظواهر والأشياء.

وقد شدد فيلسوف الأندلس على ضرورة الابتعاد عن التفكير الخرافي، فللخرافات تأثيرها السيئ والقوي على التكوين النفسي للصبي بحيث يلازمه طيلة حياته، وقد يحول دون توافقه الذاتي السليم، ويعرقل اندماج الفرد في مجتمعه ويمنعه من أداء وظيفته الاجتماعية.

كما أولى تدريس التاريخ والتراث، وعلوم السابقين – أهمية خاصة؛ لأن المعرفة تمثل تراثا إنسانيا عالميا، تثريه التّراكمات الناتجة عن إسهام وعطاء الشعوب المختلفة، فلذلك يصعب استغناء المتأخرين عن أعمال المتقدمين.

رأى ابن رشد أن التربية الذوقية والجمالية والحيوية، وتشمل الفن والموسيقى والرياضة، ليست ترفا ولا سبيلا لتزجية أوقات الفراغ؛ بل هي سبيل تنمية وصقل الذوق السليم والحركة الفاعلة السليمة المنسجمة والمتناسقة.

أبرز أبو الوليد أهمية مبدأ المسئولية الاجتماعية وفق شروط حددها منها حرية احتيار الإنسان، وتلبية حاجاته، واكتشاف ميوله وما يصلح له من نشاط، وتوجيهه من جانب المربين إلى اختيار الوظيفة المناسبة، على أن تكون وظيفة واحدة فقط، مع التأكيد على مبدأ التوازن والاعتدال الذي يضمن للمجتمع دوام السعادة.

كما أكد على أن تقوم التربية على ضرورة الانفتاح على الآخر، وعدم الانعزال والتقوقع على الذات الذي يعتبره ابن رشد انحرافا في السلوك؛ تترتب عليه مساوئ وأضرار اجتماعية كثيرة.

ومن أكثر ما اهتم به الرجل لإنجاح العملية التربوية – مناخ العملية الذي يجب أن يكون في أجواء من السعادة، وبعيدا عن العنف الذي يترتب عليه ضمور القدرة على الانفتاح على الآخر.

تمثال ابن رشد في قرطبة
تمثال ابن رشد في قرطبة

كذلك اكتساب الخبرات المباشرة بالاحتكاك مع الأفكار والرؤى التي تحمل اختلافا واضحا؛ بشرط القدرة على التعاطي مع ذلك وفق نظام قيمي نحكم من خلاله وننطلق من آفاقه الرحبة.

كما شدد على أن التربية يجب أن تخاطب الناس كل حسب قدراته واستعداده، بقصد إفادة السعادة الإنسانية بتعليمهم العلم الحق والعمل الحق مع مراعاة الفروق الفردية.

وأخيرا فقد رأى ابن رشد أن التربية يجب أن تنطلق من هدفين أساسيين هما سلامة النفس، وسلامة الجسد، ما يستلزم ضرورة ممارسة التربية الرياضية، والتربية الموسيقية السليمة منذ الصغر.

نهاية، نأمل أن تتناول الأبحاث التربوية الجادة منهج ابن رشد تناولا يليق بأهميته وراهنيته، حتى نستفيد من هذا الإرث العظيم الذي ما زال مهملا إلى يومنا هذا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock