نال كتابي”متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية” الذي صدرت طبعته الأولى في مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت سنة 2015، والثانية قبل شهور، الكثير من الاهتمام والجدل منذ صدوره، حيث احتفى به كثير من الباحثين، الزملاء والأصدقاء، في مصر والعالم العربي، وكان الجدل مع الكتاب وحوله حاضرا ما كان هناك حضور لابن تيمية أو عمليات الإرهاب التي تستند إلى بعض فتاويه وكتاباته، سواء ذكرته أو لم تذكره، مما يطرح سؤالا مهما- حسب تعبير محمد الوكيل- فيما نشره عن الكتاب في مايو 2020: هل أفكار هذه الجماعات هي أفكار ابن تيمية حقًا؟
كما وجه له بعض الزملاء والأصدقاء ِشأن الصديق العزيز د. محمد يسري أبو هدور الباحث في تاريخ المذاهب الإسلامية بعض الانتقادات الموضوعية والتاريخية المهمة التي استدعت تفاعلي معها، اتفاقا واختلافا، وتوضيحا وتصحيحا، كما جاء في عرضه المميز على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بتاريخ في 28 أكتوبر سنة 2020 حيث نؤمن أن الجدل في مثل هذه القضايا الفكرية الإشكالية ليس انتصارية منتصر ولكنه انتصار الحقيقة والمعرفة ذاتها، ويبقى شكري وتقديري له ولكل زميل ساعدني في المراجعة والتصحيح، حيث أتدين بدين الحق أنى وجدته رجعت إليه كما كان يقول الشافعي رحمه الله.
ربما لا يكون هذا الجدل المثار باستمرار حول الكتاب وموضوعه فرادة وتميزا مني ولكنه لأهمية الموضوع وإشكاليته الكبيرة والمعقدة ” براءة ابن تيمية من ذنب الإرهاب المعاصر أم مسؤوليته عنه وجنايته علينا به” خاصة أنه- كما ذكر الكتاب- الأكثر حضورا وذكرا في أدبيات الجماعات الجهادية قديما وحديثا، في كتبها وبياناتها واستناداتها، وفي تأسيساتها ومراجعاتها المناقضة لها على السواء، مما يزيد الباحث حيرة ويزيده مسؤولية عند دلوه في الموضوع وتفاعله مع تردداته.
من المعتبر عندي ما رآه الدكتور يسري من أن رغم أهمية الكتاب وعمقه وتميزه على ما كتب حول ابن تيمية، إلا أنني ربما تورطت في قصدية الدفاع عن الرجل والحماس له تخليصا له من براثن التطرف العنيف واستنادهم له، أو كما قال الصديق والباحث المغربي المعروف منتصر حمادة في قراءته المميزة للكتاب بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 19 يوليو سنة 2016 محاولة لتحرير ابن تيمية من اختطاف الإرهابيين له واختطاف التراث كذلك، والذي عنونه” متاهة الجماعات المتشددة.. واختطافها للتراث” .
ولكن الحقيقة أنني ربما كنت في الجهة الأخرى قبل خوض غمار البحث، متهما لابن تيمية كغيري، ولكن آليت على نفسي- شأني في غيرها من كتبي ودراساتي- أن أكون موضوعيا متحررا من أي قصدية وإجابة جاهزة، متحليا بالموضوعية في قراءة الرجل، فلم أكن مضطرا للدفاع عنه بل لعل الهجوم عليه رائجة سوقه في ظل التسطيح العربي السائد، ولكن مراعاة للضمير والأمانة العلمية راعيت والتزمت ألا أكون متحاملا عليه أو له كذلك.
سأحاول فيما يلي الرد- أو التفاعل- على بعض الانتقادات الجوهرية التي أوردها الصديق الدكتور محمد يسري في عرضه المشار إليه، حسب أهميتها، وليس حسب ترتيبها في عرضه وقراءته الدقيقة.
أولًا: في موقف ابن تيمية من الإمام على واتهامه بالناصبية:
بعد أن عرض الصديق الدكتور محمد يسري لجزء فرعي في أحد فصول الكتاب التمهيدية” حول الاشتباه في فهم ابن تيمية” وهي فرضية رئيسة في الكتاب، نمذجت فيها بعدد من القضايا المشتبهة، بمعنى التي لا يتضح موقف ابن تيمية فيها ويتعرض بسببها للاتهام، ومنها قضية” الناصبية” والتي تعني معاداة وكراهية الإمام على بن أبي طالب عليه السلام وآل البيت الكرام، وأني حاولت نفي التهمة عن الرجل على عكس الحقيقة حيث قال: ” في الحقيقة، فإنّ محاولة المؤلف للبحث عن أعذار أو تبريرات لأقوال ابن تيمية التي يظهر منها الحطّ من شأن آل البيت والخليفة الرابع، قد جانبها الصواب، ذلك أنّ كتابات شيخ الإسلام طافحة بمحاولات النيل من علي بن أبي طالب، وقد عدّها بعض العلماء في سبعة عشر موضعًا، واعترف بها أكابر علماء السنّة عمومًا، والسلفيّة والحنابلة منهم على وجه الخصوص، ومنهم على سبيل المثال ناصر الدين الألباني، الذي علّق على تضعيف ابن تيمية المستمر لأحاديث فضائل ومناقب علي بن أبي طالب، بقوله:
” فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث، إلّا التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة، غفر الله لنا وله” والألباني ليس استثناء في ذلك، بل سبقه لمثل هذه التهم تاج الدين السبكي، وابن حجر الهيثمي ونقل هذه الاتهامات ابن حجر العسقلاني، ومن المعاصرين استفاض فيها الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمهم الله جميعا وآخرين بعدهم.
هذا، رغم أن ابن تيمية نفسه رفض هذه التهمة ونفاه عن نفسه، ويقر بعض متهميه أن في أقواله لبسا واشتباها، فهو في منهاج السنة، يرفض منهج القواسم والنواصب معا، أي الروافض والخوارج على السواء، محاولا التوسط، فيرفض تقديس الذات من الاتجاهين وكذلك النفي المتبادل للرموز من جهتهما، وهو المنهج الذي وضحه في ” منهاج السنة” ولعل ابن حجر العسقلاني وغيره ذكر هذا اللبس، وهو ما يشبه فرضيتنا أن ثمة اشتباها في فهم ابن تيمية، أما قول الراحل الشيخ الألباني الذي ذكره الأخ العزيز د. محمد يسري فمسبوق إليه كما ذكرنا، وموضوع التحامل في رفض الأحاديث بحث في النوايا، وابن تيمية الذي كان مرتجلا ومكثرا نفسه كثيرا ما ضعف أحاديث في موضع قواها في موضع آخر.
ثانيا: بين غازان واولجانو خدابنده وتحول المغول للتشيع:
يأخذني الصديق العزيز الدكتور محمد يسري لتخصصه ومجاله التاريخي، معلقا على رأيي في موقف ابن تيمية من حرب المغول والدعوة لقتالهم، والتي ربطها بالصحوة الشيعية، وقولي في الكتاب: أنه لولا تحولهم للتشيع ما دعى ابن تيمية لقتالهم” وهو يؤكد أن تحول المغول للتشيع قد وقع في عهد أولجايتو (خدابنده)، وليس في عهد أخيه الأكبر محمود غازان الذي حدث في عهده الهجوم على بلاد الشام، والذي صدرت فتوى شيخ الإسلام في حقه” ولي هنا ملاحظتان هما:
1- أولهما منهجي واصطلاحي: أني لا أقصد بالصحوة الشيعية مجرد تحول خدابنده أو قازان للتشيع، فهي كانت صحوة شاملة وكبيرة، سبقت عصر ابن تيمية في القرنين الرابع والخامس بشكل واضح، فقد عايش الرجل آثار الدولة الفاطمية وصعود الإسماعيلية ثم الإمامية وكذلك النزعات الباطنية والطرقية الصوفية المتأثرة بها والمتماشية معها، وهو ما جعل كثيرا من كتاباته وجهوده ودعواته تركز على الاعتقاد والتوحيد ومنهج السلف وحرب البدع وما شابه، وهو ما كان دائما بإذن وفي إطار شرعية الدولة التي ينتمي إليها.
وكذلك الموقف من المغول الذي آثاره فيه حكمهم ب” الفاسق” كتاب جنكيز خان المقدس عندهم والحاكم لهم، وكذلك تبنيهم ودعمهم للحركة الشيعية التي تحالفت معهم منذ البداية كأي نزوع مضطهد يرحب بحكم الأغلبية.
ثالثًا: قازان تشيع قبل خدابنده أيضا:
كان اهتمامي في الكتاب وفهم ابن تيمية وخطابه في سياق عصره، بالصحوة الشيعية البازغة حينئذ، وليس ذلك إلا من منظور سياقي تحليلي وحاشا أن يكون طائفيا، لتفسير التحفز المضاد منه ومن علماء السنة غيره وهم كثير، ولكن ما ذكره الدكتور يسري مركزا على إشارتي لازدياد قوة هذه الصحوة بتشيع المغول، رغم أن ابن تيمية عاصر غازان وشقيقه خدابنده، وإصراره أن التشيع بدأ مع الأخير في حسم تاريخي وصفه بالحقيقة التاريخية في قراءته..
فلي تعقيب عليه، وهو أن الدكتور يسري وهو المؤرخ وله اهتمامات بالموضوع، يعلم أن بداية التشيع مع خدابنده، رواية من روايات ثلاث، إحداها ترى أنه تشيع مع أخيه غازان المتوفى سنة 703 هجرية، وأن الأخير سبقه للتشيع الذي أغرى الكثيرين من المغول، حتى هولاكو نفسه في بعض الآراء، وقد أورد الثلاث روايات مؤلف كتاب (ذيل جامع التواريخ) للمؤرخ الحافظ آبرو الخوافي، حيث ذكر أن التشيع بدأ مع قازان نفسه وليس مع خدابنده، وأن تشيع غازان محل جدل معروف، نظرا لقربه من مرشده الروحي والديني الذي تحول عبره للإسلام الشيخ إبراهيم بن محمد الحموي الجويني” توفي سنة 722 هجرية” وهو من شيوخ ابن المطهر الحلي، وهناك إجماع على شيعيته، لم يشذ عنه إلا ابن أيبك الصفدي في ” الوافي بالوافيات”، فالمسألة ليست خطأ مني في حقيقة تاريخية ثابتة، بل هي مسألة محل جدل مشهور، والراجح فيها ما ملت إليه في الكتاب، أن غازان كان قوة مضافة للصحوة الشيعية، وهو الجدل الذي لا يخفى على الصديق العزيز د. يسري.
لكن نؤكد أنه رغم ذلك أن الحقيقة التاريخية التي أوردها محل جدل وخلاف مرجوح، ما يعنينا ليس غازان و تشيعه ولكن ما عنانا في الكتاب أنه كانت ثمة صحوة شيعية تعددت ملامحها سياسيا، في دول عديدة من الفاطميين للبويهيين لغيرهم، وثقافيا، في مجالس المناظرات، وفكريا في النزعات الباطنية والحلولية المختلفة، وهو ما استنفر ابن تيمية الحنبلي في وجهها كأولوية له ولخطابه الذي لم تكن أولويته الإمامة – أو الحاكمية بتعبيرنا المعاصر- ولم يكتب فيها شيئا مستقلا أبدا وكان يؤمن بقبول ولاية المتغلب كما يتضح في رسالته ” المظالم المشتركة” التي وددت لو انتبه الصديق لمكنونها في إعلان عدم الخروج أو ما أورده في ” منهاج السنة” من تقرير لذلك.
رابعًا: محمد عبد السلام فرج وتجاهل ضوابط الجهاد عند ابن تيمية:
.في سياق تناولي في كتاب” متاهة الحاكمية” لرسالة محمد عبد السلام فرج “الفريضة الغائبة” أول أدبيات تنظيم الجهاد المصري وأول استدعاء لابن تيمية في الجهادوية المعاصرة، ذكر الأخ العزيز الدكتور محمد يسري ما يلي: ” إنّ نسيرة يتّهم عبد السلام فرج “بغائيّة الإسقاط”، بهدف إسقاط شبهة التكفير على نظام السادات بعد كامب ديفيد “فلم تكن غايته -أي عبد السلام فرج- الفهم أو التأصيل الشرعي المجرّد، فالتوت الأدلة لمصلحة الأحكام والنتائج، وكلاهما مختزل تاريخيّاً ونصيّاً في آنٍ واحد”كما أنّ نسيرة يتّهم فرج بتجاهل تفاصيل جهاد ابن تيمية التي كانت مضبوطة في إطار المشروعيّة الحاكمة تحت راية الدولة المملوكيّة، كما اتهّمه بالتغافل عن الإكراهات الاقتصاديّة وموازين القوى العالميّة التي اضطرت السادات للقبول بالصلح مع إسرائيل.” ثم يسأل يسري سؤالا ذكيا وعميقا وهو: هل كانت تلك الضغوط التي يسوقها لالتماس فهم أسباب الصلح مع إسرائيل لتصمد في وجه العقليّة الشرعيّة الصارمة التي لطالما اعتاد أن يفكّر بها شيخ الإسلام؟ وهل كان الفقيه الذي جنح للدعوة لقتال الفرق والمذاهب والطوائف المبتدعة الضعيفة في زمانه، ليقبل أن تُعقد المعاهدات والمصالحات ما بين السلطة الحاكمة والسلطات التي تنتهج الشرائع الكفريّة؟
نعم إن ضوابط الجهاد والقتال عند ابن تيمية غيرها عند سطحية محمد عبد السلام فرج الذي نقله خطأ ولم يفهمها أيضا، وكان من الممكن لابن تيمية أن يقبل المعاهدات والمصالحات مع الدار المركبة، كما وصف ماردين، وقد تفاوض هو شخصيا للصلح مع غازان والتقاه أكثر من مرة، مفوضا من الحكومة المملوكية الغالبة شرعية في زمنه، كما أن أولوية الاعتقاد والتوحيد على الرجل كانت الأوضح في خطابه ومنظومته، ولم يقاتل يوما أو يخرج يوما لقتال شيعة جبل كسروان أو في حقب قبلها إلا بإذن ولي الأمر، وكان هذا الخضوع وعدم الجنوح للفتن مذهبا عنده اتضح نظريا في كثير من إشاراته ومقولاته التي أوردتها في الكتاب، كما اتضح في سيرته قريبا من السلطة أو بعيدا عنها.
خامسًا: ابن تيمية وجهاد الدفع:
رأى الدكتور محمد يسري خطأي بقولي إن ابن تيمية كان مع جهاد الدفع وليس جهاد الطلب، وهو ما توضحه بعض النصوص أوردتها في الكتاب” متاهة الحاكمية” ومنها النص الذي أورده ونص فيه ابن تيمية على أن” القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار ديننا” ويقول ابن تيمية أيضا في الفتاوى” “وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه”
وأحيل الدكتور يسري أيضا في سياق هذا الرد على رسالة ابن تيمية” قتال الكفار ومهادنتهم، وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم” والتي كان البعض يشكك فيها في نسبتها له، ولكن انتصر لها الشيخ عبد الله آل محمود مفتى قطر، وحققها الشيخ الدكتور عبدالعزيز الزير آل حمد وأعاد طباعتها عام 2004، يؤكد فيها ابن تيمية على أنه لا يجوز مقاتلة من لم يقاتلنا، وأن القتال ليس للكفر ولكن للمقاتلة وغير هذا من أمور.
أخيرا- أحب أن أتناول تعليق د. محمد يسري على موقفي من فتوى داعش بحرق الكساسبة، والذي رأى أن ربطي له بأحكام الأسير والمثلة النكال به، معيب حيث إن الأمر متعلق بالمثلة، والصحيح برأيي حسب فتوى داعش نفسها ونصها واقتباسها أنها كانت تتكلم عن أسير حربي أو مرتد، والأحكام معه وليس فقط مع المثلة، وهو الرأي الذي كان فيه ابن تيمية ضده وأقر عدم قبوله به حتى ولو من باب رد الاعتداء بالمثل..أما جدله حول تمثيل أو حرق أبي بكر للمرتدين في حروب الردة أو حرق على لبعض المغالين فيه، فهذا أمر آخر غير أحكام الأسير..
وختاما أرجو أن أكون أضأت بعض الأمور وناقشت بموضوعية الانتقادات الموضوعية والمشكورة التي وجهها للكتاب الصديق العزيز والذي تزيد الكتاب بلا شك إضاءات وإضافات مهمة لا شك أن على تناولها في طبعاته القادمة اتفاقا أو اختلافا.