بقلم صلاح سالم .. نقلًا عن صحيفة الأهرام
من دون طبقة وسطى عريضة تضم شرائحها أغلبية المجتمع، تملك طرائق عيش متجانسة، وأنماط تنظيم فعالة تمكنها من فرض حضورها السياسي، لا يمكن لمجتمع أن يتطور أو لأمة أن تصلب عودها، كونها الطبقة التى تنطوى رؤيتها للعالم على الأمل والإرادة والتفاؤل معا، ويشعر أعضاؤها دوما بالمسئولية عن المصير التاريخى والشخصية القومية لبلدهم. إنها الطبقة البرجوازية التى خرجت أوروبا الحديثة من رحمها تأسيسا على قاعدة الثورات الصناعية والسوق الرأسمالية. وهى الطبقة الثالثة، حسب أدبيات الثورة الفرنسية ، التى احتضنت التنوير وحمت فلاسفته الكبار من عسف الإقطاع والكنيسة. وهى نفسها الطبقة التى اجتهد ناصر فى نحتها، فما إن رحل حتى أخذت تتمزق بين شرائحها، وتتخلى عن قيمها، حتى جاء من بينها من يدين عصر الرجل الذى رهن حياته بالدفاع عنها.
ثمة من يكرهون ناصر وهذا أمر طبيعي، فالبشر لم يجمعوا أصلا على الذات الإلهية. ولكن تبقى كراهية بعضهم مشروعة كأولئك الإقطاعيين الذين أعطى أرضهم للإصلاح الزراعي، أو الرأسماليين الكبار الذين أمم مصانعهم لصالح القطاع العام، أو الساسة القدماء الذين فقدوا أدوارهم القيادية فى ظل نظامه. أو حتى بعض المفكرين ذوى الحساسية الخاصة كعبد الرحمن بدوى الذى كره ثورة يوليو لأنها أخذت بعض الأفدنة من عائلته، رغم استفادته منها بالعمل ملحقا ثقافيا لمصر فى الخارج لسنوات، ما لا يمكن تفسيره إلا بمزاج الرجل الناري، وعجزه عن التفكير خارج إطار نرجسيته. أما كراهية البعض الآخر له فتبدو غير مشروعة، كونهم ينحدرون من أصول عادية ريفية أو مدينية، نشأوا فى كنف مشروعه الاجتماعي، وترقوا طبقيا بفضل التعليم المجانى والتوظيف العادل، حتى احتلوا مراكزهم المحترمة، لكنهم بالتدريج نسوا أصولهم، وخانوا قيمهم الكفاحية واصطنعوا لأنفسهم وضعية طبقية متعالية، ثم أخذوا يذرفون الدموع حنينا إلى نمط الحياة الارستقراطي، الذى اتسم بجودة عالية قياسا إلى نمط الحياة الاشتراكي، خصوصا وقد تراجعت جودته مع التقدم فى عمر الجمهورية. هؤلاء ليسوا إلا هاربين طبقيين، أفقدتهم عقد نقصهم القدرة على إدراك حقيقتين أساسيتين:
الأولى أن استمرار الملكية كان مستحيلا، ولو لم يقتطفها ناصر لسقطت فى يد الإخوان غالبا. وأن استمرارها، لو كان ممكنا، لم يكن ليسمح لهم بحجز مكان فى عالمها المخملي. ولو افترضنا أن النابهين من البسطاء فى العلم والفن والفكر كانت لديهم فرصة الدخول إليه من باب الهبات والمنح، تبقى المشكلة قائمة لأن أغلب المشمئزين من الجمهورية ليسوا بين هؤلاء، بل مجرد « مديوكر »، بلغت خفتهم حدا لم يدركوا معه أنهم عندما يربطون حالهم الذى بلغوه الآن بعالم الملكية المخملي، يصبحون كأرباب الإسلام السياسى الذين يستدعون زمن الفاروق عمر إلى عالمنا، متصورين أن الخير سيتدفق فى طرقات المدن وأزقة الأرياف، وأننا سنسود العالم لو أنشأنا الدولة الدينية، وكأن دولة الملالى فى إيران أو داعش فى العراق أمثلة تُحتذي.
والثانية إن هؤلاء المشمئزين من نمط الحياة الاشتراكى هم الذين أصابوه بالعشوائية عبر اضطلاعهم بالأدوار القيادية التى أتاحها لهم ناصر. كان المفترض أن يحفظوا إرثه فى العدالة الاجتماعية، لكنهم خانوه من مواقع شتى عندما استسلموا للفساد والرشوة والمحسوبية، ولنا هنا أن نتساءل: من الذى بدأ سياسة توريث المناصب غير أبناء الطبقة الوسطى، الذين ركلوا السلم بعد صعودهم عليه ليحرموا القادمين الجدد من بلوغ الأدوار العليا ويقصروها على أبنائهم وربما أحفادهم. حدث ذلك فى كل المهن بلا استثناء، حتى بلغ الأمر ذروته مع الرئيس مبارك، فإذا كان الجميع يورثون أبناءهم فلماذا لا يورث هو مصر كلها متنكرا لفكرة الجمهورية نفسها؟. أما المفارقة الكاملة فتتجسد فى بعض الذين تعلموا فى المدارس والجامعات الوطنية، وبعثوا إلى الخارج للحصول على شهادات عليا واكتساب خبرات مفيدة، فإذا بفريق منهم يستحسن الإقامة فى الغرب تلبية لطموحاتهم العلمية والمالية دون أدنى شعور بالمسئولية الوطنية. أما العائدون منهم فأخذوا يهجون سلطوية ناصر قياسا إلى ما عرفوه ولامسوه من أفكار ليبرالية ونظم ديمقراطية. لهم الحق، قطعا، فى نقد التجربة من داخلها بغية تصويبها والإضافة إليها، وإلا فما معنى ابتعاثهم أصلا؟ ولكن ليس لهم أدنى حق فى إدانتها كليا، حيث بات التعليم المجانى لديهم كابوسا أفسد النظام المعرفي، والسد العالى مجرد حائط حرم الأرض من الطمى الذى يخصبها، ولا تزيد الكهرباء المتولدة منه عن محطة حرارية متوسطة.
أما قوانين الإصلاح الزراعى التى منحت الفلاحين حق الحياة كبشر فصارت تفتيتا للملكية أجهز على قدرات مصر الزراعية. وأخيرا صار تأميم قناة السويس والانتصار السياسى والأخلاقى على العدوان الثلاثى وتدشين مصر قائدا لحركة التحرر القومي، كانت القوى الكبرى تدرس ردود فعله قبل اتخاذ أى قرارات حيوية بشأن المنطقة، مجرد سلوكيات عبثية لإرضاء نرجسية الزعيم. أما ثالثة الأسافى فهو أن بعض هؤلاء ( الليبراليين ) الذين عابوا على ناصر كل شىء وليس فقط سلطويته عادوا ليخدموا ورثته الذين افتقدوا جل ميزاته كالعدالة والتصنيع والمكانة الإقليمية ولم يتبق لديهم سوى السلطوية العارية، بل أبدوا استعدادهم لدعم الوريث الذى حاول خطف الجمهورية، متفاخرين أحيانا بالقرب منه. لا تفسير لهذا التناقض إلا بانتهازية أناس رموا عقولهم خلف ظهورهم، ووضعوا ليبراليتهم تحت أقدامهم، وساروا خلف مصالحهم على جثة الوطن. هكذا توالت وقائع الخيانة الكبرى التى ارتكبها الجميع فى حق ناصر، داعية التحديث والتحرر والعدالة، الذى رحل عنا قبل نصف قرن، ولم يكن هذا حالنا من الفوضى والعشوائية، ويجب ألا نحاسبه على ما فعلنا بمشروعه بعد رحيله، تلك التجربة الكبيرة، التى وقعت فى سلبيات عدة كأى تجربة إنسانية حية، ولكن يبقى لها فضل السبق فى تحرير مصريين كثيرين من أسر الإقطاع، وتكوين طبقة وسطى عريضة، أنهت حقبة الانقطاع فى تاريخنا ووضعت المدماك الأخير فى جدار الوطنية المصرية، ما يفرض علينا جميعا أن نترحم على صاحبها العظيم بهمس ضمائرنا وخفقات قلوبنا. انتهى.