في أحد مشاهد فيلم “جانغو الحر” للمخرج الأمريكي كوينتن تارانتينو٫ يتمكن العبد جانغو (جايمي فوكس) الذي نال حريته للتو من الوصول إلى جلاده الذي طالما أذاقه ألوانًا مختلفة من التعذيب.
يتعرف جانغو على جلاده السابق الذي يحمل بيد الكتاب المقدس وباليد الأخرى سوطًا يستخدمه لجلد جارية سوداء٫ وهنا يستل جانغو غدارته التي بات يجيد استخدامها ويطلق النار على جلاده مستهدفًا ثيابه التي يزينها هذا الأخير بنصوص من الكتاب المقدس.
لا تخفى الرمزية هنا على المشاهد٫ فجانغو٫ العبد السابق والثائر الحالي٫ لا يستهدف الجلاد فحسب وإنما يستهدف هذا الاستخدام من قبل البيض للعقيدة المسيحية لتبرير ظاهرة هي أبعد ما تكون عن تعاليم السيد المسيح وهي العبودية والاسترقاق.
وحين يحاول أبيض آخر قتل جانغو٫ يسرع الأخير لالتقاط السوط ليبدأ واحد من أهم مشاهد الفيلم في رأيي٫ حيث يعكس جانغو الغرض من السوط وهو “تاديب” العبد المارق من قبل السيد الأبيض وينهال بالسوط ضربًا على رجل أبيض وسط ذهول بني جلدته من السود الذين لم يروا مشهدًا كهذا من قبل.
في نفس السياق٫ يمكن فهم الرمزية في فيلم آخر هو “جيت أوت” أو “اخرج” الذي قدمه الممثل والمخرج غوردن بيل وكان باكورة أعماله كمخرج بعد سنوات من التألق في أعمال تلفزيونية كوميدية.
يكتشف بطل الفيلم٫ وهو شاب أمريكي أسود اللون٫ أن أسرة محبوبته البيضاء قد غدرت به وأنهم يبقونه حبيسًا في منزلهم مقيدًا إلى مقعد متهالك٫ لكنه يلاحظ أيضًا أن المقعد الذي ربط فيه محشو بالقطن٫ وهنا تاتيه فكرة٫ حيث يستخدم القطن للتحرر من أسره.
هنا أيضًا يعكس بطل الفيلم٫ شأنه شأن جانغو٫ دلالة الرمز٫ فالقطن بالنسبة لأغلب الأمريكيين السود هو السلعة التي أجبر أجدادهم على العمل ليل نهار في الحقول لحصدها لصالح ملاكهم من البيض٫ الأمر الذي حقق لهؤلاء الملاك أرباحًا خيالية وجعل من الجنوب الأمريكي في القرن التاسع عشر الميلادي أكبر مصدر للقطن في العالم.
لكن غوردن بيل وعبر بطله يعكس ما حدث لأسلافه٫ فيجعل القطن أداة للتحرر لا للاستعباد.
ما فعله كل من جانغو وبطل “جيت أوت” ليس بمعزل عن الواقع المعاش٫ فحين يقرر الضحية ان ينهض ويواجه جلاده وينفض عن نفسه غبار سنوات من الذل والاستعباد فإنه يستعير – في الأغلب- الرموز التي سخرها المستعمر أو الناهب أو المستعبِد (بكسر الباء) لقهره ويعيد إنتاجها في سياق تحرري.
في ثورة الجزائر التحريرية التي دامت نحو ثمان سنوات (١٩٥٤- ١٩٦٢) أعاد الجزائريون الاعتبار عبر نضالهم المسلح ضد المستعمر الفرنسي إلى أقدس الأسماء لديهم وهو اسم “محمد” الذي حوله المستعمرون في إهانة متعمدة لمعتقدات أهل البلاد إلى لفظ يقصد به الخادم.
فإذا بثورة الجزائر تعكس دلالة اللفظ تمامًا عما أراده المستعمر وترفع شعار “الجزائر تعود إليك يا محمد” بعد ١٣٠ عامًا من الاستعمار الفرنسي.
كما استخدم الثوار الرمزية في مجال آخر٫ فكما اعتبرت فرنسا الجزائر مقاطعة فرنسية تحت شعار “الجزائر فرنسية” الذي بات جوهر سياسة كافة الحكومات الفرنسية المتعاقبة تجاه هذا البلد العربي٫ لجأ الثوار إلى تقسيم عثماني سابق على الاستعمار الفرنسي وهو تقسيم الجزائر إلى ولايات مختلفة وتحديدًا ست ولايات حٌدد لكل منها قيادة وبرنامج نضالي.
وبلغت السخرية من الرمز ذروتها حين اسمت ثورة الجزائر فرعها في قلب فرنسا بال”ولاية السابعة” والذي نقل الثورة إلى ضواحي باريس.
وفي مصر٫ ومع انطلاق حركة الكفاح المسلح في منطقة قناة السويس مطلع الخمسينيات٫ لم يغب الرمز عن أذهان الفدائيين المصريين فاختاروا منطقة التل الكبير مسرحًا لواحد من أبرز معاركهم مع قوات الاحتلال البريطاني٫ ولم يكن الاختيار عبثيًا٫ حيث إن التل الكبير كان بداية دخول هذه القوات إلى القاهرة بعد أن تمكنت بفعل سلاح الخيانة والغدر من النيل من القوات المصرية بقيادة أحمد عرابي٫ فإذا بأحفاد عرابي – إذا صح التعبير- يحولون هذا المكان إلى موقع انتصار لهم.
وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة٫ كان الرمز حاضرًا في الانتفاضتين الأولى والثانية٫ ففي كليهما حول أطفال الحجارة الصورة التوراتية التي جسدها “داوود” اليهودي وهو يحمل مقلاعًا بيده ويستخدمه لقتل العملاق الفلسطيني “جالوت” إلى النقيض التام.
فحامل المقلاع صار طفلًا فلسطينيا يواجه “جالوت” الصهيوني المدجج بالسلاح الحديث والذي – رغم ذلك- يبدو عاجزًا أمام شعب أعزل مصمم على نيل حريته واستعادة مقدساته.