في شهرنا هذا (يناير 2021) تحل الذكرى المئوية الأولى لصدور كتاب ” الديوان في الأدب والنقد ” لمؤلفيه الأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني.
صدر الجزء الأول منه في قرابة الستين صفحة في يناير من العام1921 وصدر الجزء الثاني، وكان قريبًا من حجم الجزء الأول، في فبراير من العام نفسه، وقد أحدث الكتاب ضجة عظيمة لم تقترب منها سوى الضجة التي أحدثها كتاب الدكتور طه حسين ” في الشعر الجاهلي ” الذي صدر بعد الديوان بقرابة الست سنوات.
نفدت الطبعة الأولى بعد مرور شهر على ظهورها فصدرت طبعته الثانية في مارس من العام 1921، وإلى يوم الناس هذا تتوالى الطبعات، وسأعتمد في مقالي على طبعة صدرت عن مشروع القراءة للجميع بمقدمة طيبة جدًا كتبها الناقد الأستاذ الدكتور ماهر فريد شفيق.
الكتاب يعد التطبيق العملي لنظرة مدرسة الديوان للأدب العربي.
المدرسة ضمت في بدء أمرها الثلاثي الشهير، الشاعر عبد الرحمن شكري ومعه صديقيه إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد.
كثرة من الباحثين قطعت بأن شكري كان هو رأس حربة المدرسة ومُنظّرها الأول وصاحب المبادئ الاساسية للمدرسة، وكان شكري في الأصل صديقًا صدوقًا للمازني فقد تزاملا في الدراسة، وتشاركا الأفكار نفسها، وعندما سافر شكري إلى لندن لاستكمال الدراسة، لم تنقطع علاقته بصديقة المازني، وعندما عاد إلى أرض الوطن لم تفرق بينه وبين صديقه مشاغل الحياة، فقام المازني بتقديم شكري إلى العقاد ومن هنا بدأت ملامح مدرسة الديوان في الظهور.
الذين بحثوا أمر المدرسة وبيانها العملي أعني كتاب ” الديوان في الأدب والنقد انقسموا إلى أربع فرق.
الأولى: سيئة الرأي في المدرسة وروادها، تلقي بكل ما صدر عنها وعنهم إلى الجحيم، ويقف على رأس هذه الفرقة الكاتب إدوار الخراط الذي قال عن كاتب المدرسة الأول عباس محمود العقاد:” العقاد فشل في الرواية، وقدم شعرًا متوسطًا، لأنه ليس مفكرًا حقيقيًا، وكان يردد نظريات النقاد الإنجليز المعروفين على أيامه، وهو ناقد سيء ومفكر ضعيف “.
وقد كفنا الدكتور ماهر فريد شفيق عناء الرد على الخراط عندما عقب على كلام الخراط قائلًا:” وهذا كله هراء من جانب عميد الحداثيين، أهون، في ميزان النقد الصحيح والقسطاس المستقيم، من أن يستحق حتى عناء الرد عليه”.
الفرقة الثانية: تصعد بالكتاب وبمدرسة الديوان وبروادها إلى أعلى عليين، ولا رأس يقود تلك الفرقة لأن المنتسبين إليها كثرة فوق الحصر.
الفرقة الثالثة: تعاملت مع الكتاب بعيدًا عن فخاخ التهويل أو التهوين، هو عندها كتاب رائد ألقى حجرًا ضخمًا في بحيرة الأدب، فتحركت مياهه التي كانت ذاهبة إلى الركود، وخير ممثل لتلك الفرقة هو الدكتور ماهر فريد شفيق الذي قال:” الكتاب لا يخلو من تطرف وإجحاف وتحامل، ولكنه لا يخلو أيضًا من نظرات صادقة وملاحظات نقدية رهيفة، وبصيرة سبقت عصرها، كان العقاد والمازني رجلين فيهما ما في سائر الرجال من قوة وضعف وحيدة وهوى وصواب وخطأ”.
أما الفرقة الرابعة والأخيرة: فهى ترى أن الكتاب لم يكن أكثر من قنبلة صوتية، والقنابل الصوتية تنجح في إحداث ضجيج يصم الأذان، وأنت متى قذفت بها إنسان فأنك تفقده تركيزه فلا يعرف ماذا يقال على وجه الحقيقة لأنه مأخوذ بالدوي الهائل الذي نتج عن القنبلة، وككل قنابل الصوت نجح الكتاب في تحطيم زجاج النوافذ ولكنه لم يربح أرضًا.
وتلك الفرقة عندما تحسن الظن بالكتاب تقول عنه ما قاله الأصمعي عن شعر أبي العتاهية:” إنه كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب، والتراب والخزف”.
ماكس .. كلمة السر
ونحن إذ نحتفل بمئوية الكتاب الأولى لن نتعرض لقيمته وجدواه، فما أكثر الذين تناولوه بالنقد، يهمنا الآن أن نبحث عن إجابة على سؤالين متعلقين بأصل الكتاب ونسبه.
السؤال الأول: من أي نبع تدفقت صفحات الكتاب بلغته التي كانت في بعض الأحيان غاية في العنف؟
أما السؤال الثاني فهو: لماذا غاب عبد الرحمن شكري المٌنظّر الأول لمدرسة الديوان عن كتابها الأول؟ بل كيف سجل حضورًا سلبيًا لأنه أحد الذين تناولهم الكتاب بنقد بلغ الغاية من القسوة والعنف.
يخطئ الذي يتعامل مع الكتاب وفي ذهنه صورة الشيخين الجليلين العقاد والمازني، فهما عندما كتبا الذي كتباه كانا في أول شبابهما، فقد ولدا في العام 1889 وظهرت الطبعة الأولى من الكتاب في مطلع العام 1921 وهذا يعني أن المؤلفين كانا في الثانية والثلاثين!
فكيف لشابين أن يشنا حملة نقد كاسحة تنال من شوقي (ولد في العام 1870) والرافعي (ولد في العام 1870) والمنفلوطي (ولدا في العام 1880)؟
هل لو قلت إن نقدهما كان يستهدف هذه الأسماء أولًا وقبل أي شيء أكون مخطئًا؟
في المقدمة الوجيزة التي كتبها العقاد للكتاب قال: إنه سيظهر في عشرة أجزاء.
ثم لم يظهر سوى الجزء الأول والثاني، وعدد صفحاتهما معًا لا يزيد على المئة صفحة إلا بقليل، فأين ذهب الوعد؟
هل من حقنا أن نقول إن الكتاب الصغير كان قد حقق لمؤلفيه ما كانا يريدانه فكفا أيديهما عن كتابة الأجزاء التي وعدا بها؟
هناك كلمة سر في القصة كلها، وبين أيدينا شهادة مهمة صاحبها هو العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكي، أدلى بها أثناء كتابته لمقدمة طبعة مكتبة الآداب لكتاب الرافعي الشهير ” على السفود”.
كان الطاهر مكي يتحدث عن الخصومات الأدبية التي شهدها القرن الماضي، وكيف كانت غير مسبوقة في التاريخ الأدبى الغربي كله فقال:” وأحسب أن أسبابها ودوافعها توجد فيما وفد إلينا من أفكار أجنبية، كأشياء أخرى كثيرة فرضت نفسها على الواقع الثقافي، بفعل الاستعمار أو الغربة في التجديد، أو لمجرد الإعجاب بكل ما هو أجنبي. ومن قراءتي لتراث العقاد نفسه وقعت على هذا النموذج الذي احتذوه، كان كاتبًا يهوديًا صهيونيًا يدعى ماكس نورداو.
العقاد أول من قدمه للقارئ العربي، وأورد العقاد أفكار ماركس نورداو معجبًا ـ لكنه ـ كعادته ـ لم يتردد في مناقشتها، ورد عليه مارآه منها باطلًا، ولم يكن وحده في هذا الإعجاب، وإنما شاركه فيه صديقه ورفيق دربه، إبراهيم عبد القادر المازني”.
ثم يصيب الطاهر هدفه فيقول: ما الذي كان يدعو إليه ماكس نورداو؟
إجمالًا: شن حملة شعواء على النابهين من أدباء عصره وغيرهم ممن وقع في طريقه ، وقضى عليهم جميعًا بالمسخ والخداع وانتكاس الذوق والعقل وأضرم نارًا من النقد الجائر كنيران محاكم التفتيش، جعل يُلقي فيها ما بقى من كتبهم ودواوينهم ، وكان من نصائح ماكس نورداو لتلميذه: ” إن سواد الناس بلداء الإحساس ثقال السمع فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى ، هم لا يفهمون التورية، والمزاح ، ولا يتأولون الحروف والألفاظ ، فكن لهم واضحًا في مخاطبتك ، سهلًا في عبارتك، عدّد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها، كل ما هو شين في أعدائك وكل ما هو حسن فيك، وإن سواد الناس ضعاف الذاكرة فاهتبل هذه الغرة فيهم ، ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك ، فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه”.
ثم يقول الدكتور الطاهر تعليقًا على الفقرة السابقة:” أحسب أن اليهودي ماكس نورداو كان بأفكاره وراء الكثير من خصومات تلك الفترة، فهو الذي هدى ذلك الجيل إلى أن الأديب المغمور بوسعه أن يختلق معركة وأن يتعلق بأذيال أديب كبير يهجوه، ويصير حوله الزوابع والأعاصير، بالحق أو بالباطل ليس مهمًا، لأن هذا يفتح أمامه أبواب الشهرة واسعة، ويشد إليه انتباه القراء والنقاد، أفليس هذا ما صنع العقاد مع شوقي والمازني مع حافظ وطه حسين مع المنفلوطي، مع تفاوت في العنف واللغة يلائم مزاج كل مهم وثقافته ودوافعه؟
وهي صراعات وإن عنفت لغة استمر بعضها وتوقف البعض الآخر”.
هل بهذه الشهادة التي نقلتها عن الطاهر مكي أكون قد كشفت عن النبع الذي تدفقت منه صفحات كتاب الديوان؟
أقول :نعم.
أين ذهب شكري؟
يضم كتاب الديوان، سبع عشرة مقالة، وكل مقالة تحتها توقيع كاتبها، تولى العقاد الكتابة عن شوقي فخصه بتسع مقالات نارية، ما بها من التجني فوق ما بها من الإنصاف بكثير، وكتب مقالة واحدة عن عدوه التاريخي مصطفى صادق الرافعي يكفي أن تقرأ هذا المقطع لتعرف رأي العقاد في الرافعي:”إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا، أغثي الله نفوسكم، لا هوادة بعد اليوم، السوط في أيدينا، وظهوركم لم تخلق إلا لهذا السوط، وسنفرغ لكم أيها الثقلان”.
وكتب المازني ضد المنفلوطي خمسة مقالات.
كان الثلاثة، شوقي والمنفلوطي والرافعي من الذين يتربعون على قمة الادب العربي في ذاك الزمان، وكان التعرض لهم بالنقد سيحقق للكتاب ما يريده مؤلفاه، فلماذا أضاف إليهم المازني صديقه القديم عبد الرحمن شكري؟
تناول المازني عبد الرحمن شكري في مقالتين نشرهما تحت نفس العنوان” صنم الألاعيب”.
يكفي العنوان لتعرف ماذا قال المازني.
كان يجب أن يكون شكري مشاركًا في الكتاب، ولكنه غاب عنه وعندما حضر كان هدفًا لسهام المازني، فكيف كان ذلك؟
يأخذنا الكاتب الأستاذ محمد ولد محمد سالم إلى بداية أمر الرجلين فيقول:” نسجت بين الشاعرين عبد الرحمن شكري (1886-1958) وإبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949) صداقة عميقة تأسست على رؤى ثقافية وأدبية ووطنية مشتركة، كانا التقيا حولها أثناء صحبتهما في مدرسة المعلمين في القاهرة، فتوثقت صلتهما، وقد اكتشفا طريقاً جديدة في الأدب وقرض الشعر، واشتركا في مشاعر الوطنية التي كانت متقدة في تلك الفترة، وعلى بساط هذه الصداقة، انهمكا في القراءة والبحث عن الجديد، وتأليف الشعر الذي يغاير الطريقة السائدة، ما أرهص بحركة أدبية جديدة سيكون لها فيما بعد صدى كبير، وأثر واضح في تطور الشعر العربي.
تعلم عبد الرحمن شكري في الكتاتيب ثم التحق بالمدرسة النظامية في مدينة بورسعيد، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1904 والتحق بمدرسة الحقوق في القاهرة، ولكنه فصل منها لاشتراكه في المظاهرات التي نظمها الحزب الوطني غضباً من حادثة دنشواي التي قتل فيها مصريون، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، التي سيلتقي فيها بصديقه إبراهيم المازني، وأثناء ذلك كان شكري قد تمكّن من اللغة الإنجليزية، وأخذ يقرأ بها الأدب، ففتحت له قراءاته تلك عالما كان غائبا عنه، ومجالات من الرؤى والتخيل لم يكن شعراء العربية قد ارتادوها، وكان يطلع صديقه المازني ذلك الفتى المتقد الذهن المولع بالجديد على تلك الأفكار، فيطرب لها، وتستهويه بشدة، ويأخذان في تطبيق تلك الرؤى في شعرهما، وهما على وعي بما يقدمان عليه من تجديد، ونقد الشعر المصري السائد في تلك الفترة على أساسها، وتكون حصيلة تلك الفترة ديوان عبد الرحمن شكري «عند الفجر» الذي أصدره وهو طالب عام 1909، وهو الديوان الذي حمل بذور حركة التجديد في الشعر العربي، وجعل من شكري الرائد الأول لها، حمل شكري لواء المدرسة الرومانسية وأعانه عليها صديقاه العقاد والمازني، وفي نفس السنة التي صدر فيها الديوان يتخرج الصديقان من مدرسة المعلمين، فيحصل عبد الرحمن شكري على منحة دراسية لمدة ثلاث سنوات إلى جامعة شيفلد بإنجلترا، حيث سيدرس الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة إلى جانب اللغة الإنجليزية، أما المازني فيذهب للتدريس.
عاد عبد الرحمن شكري من بعثته الدراسية، وعاد الصديقان إلى علاقتهما، وعرّف المازني شكري على العقاد الذي انضم إليهما في أفكارهما النقدية ورؤاهما الشعرية التي بدأت تنضج، وقد اتخذت من أطروحات المدرسة الرومانسية الغربية أسسها، وظهر أن شكري القادم من إنجلترا يحمل في جعبته الكثير من المعارف الأدبية والثقافية الإنجليزية التي سيعرّف صديقيه عليها، لتكون المبادئ الأولى لأفكار كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي سيصدره المازني والعقاد لاحقا”.
انتهى كلام الأستاذ ولد سالم عن بدايات علاقة شكري والمازني، وفي تلك الفترة الوردية من العلاقة، نشر المازني كتابه ” شعر حافظ” وكان ذلك في العام 1915 أي قبل نشر الديوان بست سنوات فقط ( التواريخ مهمة فكن على بينة) يقول ناشر الطبعة الإلكترونية من كتاب المازني :” تناول الكاتب قضية الشاعرية عند حافظ بالنقد والتحليل، وتناول الأغراض التي تناولها في أشعاره، وتعرَّض لعددٍ من سرقاته الشعرية، والمآخذ اللغوية والأسلوبية التي أُخِذَتْ عليه، كما خصَّ بالذكر قضيةً مهمةً؛ وهي قضية المذهب القديم والمذهب الجديد، ورأى أنَّ السبيل الأمثل لتأصيلِ هذه القضية يتجسد في عرض موازنة بين شاعرٍ مطبوعٍ مثل شكري، وشاعرٍ مصنوع مثل حافظ”.
لقد خشي ناشر الطبعة الإليكترونية من أن يقول” إن هدف الكتاب هو نسف حافظ لصالح شكري”.
وتلك كانت الحقيقة، فالمازني بقلمه كتب:” لا نجد في إظهار فضل شكري وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن من الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري وآخر ممن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك.
وبعدُ فإن حافظا إذا قيس إلى شكري لكالبركة الآجنة إلى جانب البحر العميق، شكري أسمح خاطرا، وأخصب ذهنا، وأوسع خيالا”
ويقول المازني: ” هاتوا قصيدة لحافظ حقيقية بهذا الاسم، نأتكم ببيت واحد من شكري يفضل كل ما قاله حافظ وأضرابه”.
الكلام واضح صريح، بيت واحد من شكري ـ عند المازني ـ هو خير من كل شعر حافظ وأمثال حافظ!
الحق أن الكتاب كله هو مقارنة بين شاعر يكتب بالصنعة هو حافظ وبين شاعر يكتب بالموهبة الجبارة هو شكري.
على ما سبق فأنت ترى عظيم تقدير ومحبة المازني لشكري، فما الذي وقع بين الرجلين ليصبح الاحترام إهانة ويرحل الحب ويأتي البغض وتلتهم نيران الكراهية أعظم مشاعر الصداقة؟
نجيب في الجزء الثاني بإذن الله.