عامفن

بين (نهضة مصر) و(مصر تنهض)… التماثيل بين (التشويه) و(التحريم)

 لم  يتوقف الأمر عند حدود تحريم التماثيل والمنحوتات أو انكار كونها  أحد أهم الفنون الجميلة وما خلقه من ثقافة مجتمعية لا مبالية بفن النحت والتماثيل بل كان تشويهها حاضرًا ايضا .

والتشويه هاهنا ليس المراد به التشويه المتعمَّد بالتحطيم والتدمير، إنما هو التشويه باسم الفنّ، كما حدث مؤخرا مع تمثال «مصر تنهض»، وهو التمثال الذي أثار ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي ينجزه أحد أساتذة النحت بالتعاون مع كلية الفنون التطبيقية، لكن الأمر تطور بعد نشر صور لهذا التمثال فاستحال إلى مادة خصبة للسخرية والتندُّر على  ما ال اليه حال فن النحت المصري حاليا

 

 

تمثال مصر تنهض

أول فيديو لـ أحمد عبدالكريم صاحب تمثال مصر تنهض

يُعدُّ فن النحت من أقدم الفنون ظهورًا وانتشارًا؛ إذ ترجع أقدم محاولات النحت الأولى الموجودة اليوم إلى العصر الحجري الأول، فيزيد عمرها على ثلاثين ألف سنة، وقد اقترن فن النحت في كثير من الأحيان بالأديان، فاستُخدمت المنحوتات والتماثيل كمحاولة لتجسيد عالم الآلهة وتصويره واستحضاره في الدنيا، وكان للحضارة المصرية القديمة نصيب الأسد في فن النحت، يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (رحابة الإنسانية والإيمان)، نقلا عن علي عزت بيجوفيتش، «يبدو أنه من الضروري أن نرجع إلى عصور ما قبل التاريخ، لكي نفهم جذور الفن في الدين، وكيف أن الدين والأخلاق البُدائية جميعا ذات مصدر واحد؛ هو شوق الإنسان إلى عالم مجهول».

الدكتور عبدالوهاب المسيري

 

تمثال رمسيس في الأقصر

وقد حرّم كثير من  الفقهاء والمحدّثين، في مدوّناتهم الفقهية والحديثية، المنحوتات والتماثيل تحريما قاطعا، واستشهدوا بمروية اتخاذ قوم نوح طائفة من الأصنام التي ذكرها القرآن بأسماء: ودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، كدليل لتحريم التصوير حتى وإن لم يكن الغرض منه العبادة، فهذا ابن كثير، يؤكد في تفسيره أنّ بداية الشرك عند قوم نوح كانت بصناعة تماثيل لهؤلاء الرجال الصالحين لتخليد ذكرهم، ثم استحالت مع مرور السنين إلى أصنام تعبد من دون الله، كما نسبوا الي النبيّ (ص) طائفة من الأحاديث تنهى وتحذر من اتخاذ المجسمات ونحتها، كقول: «إن أشدّ الناسِ عذابا عند الله يوم القيامة المصورون»، وقول: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة»، وكانت العلّة الظاهرة، كما ذهب كثير من الفقهاء، هي تجنّب كل المظاهر المتصلة بالوثنية، الأمر الذي جعل الوعي الجمعي يعتقد بأن أي منحوتات أو تماثيل إنما هي أصنام ووثنيات  محرمة ينبغي ألا تُحترَم، وامتد التحريم ليشمل كل أنواع الفنون الأخرى من تمثيل، ورسم ،وموسيقي ،وغناء.

http://https://www.youtube.com/watch?v=g6AbE2IDxCE

حلقة مع علي جمعة عن تحطيم الأصنام

 

لكن الامر لم يتوقف عند حدود تحريم التماثيل والمنحوتات أو انكار كونها  أحد أهم الفنون الجميلة، بل كان تشويهها حاضرًا كذلك، والتشويه ها هنا ليس المراد به التشويه المتعمَّد بالتحطيم والتدمير، إنما هو التشويه باسم الفنّ، كما حدث مؤخرا مع تمثال «مصر تنهض»، وهو التمثال الذي أثار ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي ينجزه أحد أساتذة النحت بالتعاون مع كلية الفنون التطبيقية، لكن الأمر تطور بعد نشر صور لهذا التمثال فاستحال إلى مادة خصبة للسخرية والتندُّر على  ما ال اليه حال فن النحت المصري حاليا، فعُقدَت مقارَنات بينه وبين تمثال «نهضة مصر» الشهير للنحات العظيم محمود مختار، الذي يقف شامخا قبالة جامعة القاهرة، وفي الوقت نفسه نشرت مواقع التواصل الاجتماعي صورا لأعمال فنية ومنحوتات رائعة لعدد من طلبة كليات الفنون الجميلة والتطبيقية، كمشاريع تخرُّج، ولاقَت استحسان كثيرين؛ خصوصا أعمال الفنانين: ماريا يوسف، وهاني جمال، وبركات حمزة، ومينا إسحاق الذي أبدع تمثالا كمشروع تخرُّج له يصلح بالفعل لأن يكون تحت عنوان «مصر تنهض».

 

 

ماريان يوسف

نحت للفنان هاني جمال 

نحت الفنان مينا إسحاق

الأمر الذي يثير تساؤلا حول أسباب عدم الاستعانة بأمثال تلك المنحوتات الرائعة في تجميل ميادين مصر، في الوقت الذي يُستعان فيه بمنحوتات لا تمت إلى الفن بصلة، وتثير موجات من السخرية قبل أن تثير موجات من الجدل؟!

الجواب علي هذا  التساؤل في نظري هو عبارة

واحدة ( البيروقراطية المصرية )

اذ تُعدُّ البيروقراطية التنفيذية  المحلية في مؤسسات الدولة المصرية أحد الأسباب الرئيسة لتشويه الثروة الفنية، فجميع حالات التشويه تمت تحت إشراف أجهزة المحليات (البلديات) وموظفيها، على الرغم من وجود قرار من وزارة الثقافة يحظر على المحافظين ومن تحت أيديهم من الموظفين المساس بأي تمثال أو مجسّم فني دون الرجوع إلى الوزارة؛ لأنها وحدها هي التي تستطيع التعامل الفني المتخصص مع تلك الثروة الفنية وتحول دون ان يطالها التشويه والقُبح!

 

 

وتأتي فتاوى التحريم والأمر بتحطيم التماثيل كسبب مباشر في  خلق ثقافة عامة في المجتمع تجعل معظم افراده لا يكادون يكترثون لما يحدث من تشويه متعمد وغير متعمد للتماثيل في ميادين وشوارع مصر.

ولعلنا نتذكر ما فعله بعض السلفيين، في مدينة الإسكندرية، في أعقاب الاحداث  التي شهدتها البلاد بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، عندما غطوا بعض التماثيل الفرعونية بالشمع، وفي سوهاج حطم المتشددون الاسلاميون  رأس تمثال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كما أحرقوا تمثال المخرج السينمائي محمد كريم، وحاولوا تحطيم تمثال الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، مستندين  في ذلك لفتوى الشيخ السلفي يوسف البدري .

 

وليس السلفيون وحدهم هم أصحاب هذا الانحراف الفكري والذوقي، ففي العام 2017 خرج شيخ الفضائيات الأزهري الموصوف بالاعتدال والوسطية، خالد الجندي، على فضائية مصرية، فأفتى بتحريم التماثيل المنحوتة، التي تثير الغرائز، ردًّا على الدكتور خالد منتصر، عندما نشر صورا، على صفحته في الفيسبوك، لمنحوتة رخامية إيطالية، هي منحوتة اغتصاب «بروزربينا»، كان قد أبدعها الفنان الإيطالي جيان لورينزو.

 

عمليات تشويه التماثيل في مصر لفتت انتباه الصحف والمجلات العالمية؛ ففي تقرير لها استعرضت مجلة The Economist البريطانية كيف يفخر المصريون بثقافتهم الغنية، وكيف تجذب التماثيل والنقوش الحجرية المنحوتة في العصور القديمة ملايين السياح، وتقول المجلة إن مصر أنتجت في القرن العشرين أيقونات ثقافية مثل نجيب محفوظ، الأديب الحائز على جائزة نوبل، وأم كلثوم كوكب الشرق، وبعد ثورة عام 2011، أخرجت مجموعة جديدة من الفنانين أعمالها إلى الجماهير، إذ قدّمت عدة فرق مسرحية أعمالها في الساحات العامة، وانتشرت الجداريات الملونة عبر شوارع القاهرة، غير أن البيروقراطية التنفيذية في مؤسسات الدولة تعد السبب الرئيس لتشويه تلك الثروة الفنية.

 

-ولعلَّنا نتذكر واقعة تعرُّض تمثال الخديوي إسماعيل، بشارع الثلاثيني بمحافظة الإسماعيلية للتشويه، بعدما طُلي باللونين الأبيض والأسود.

تمثال الخديوي إسماعيل

-وتعرض كذلك، عام 2016، تمثال الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الموجود بمنطقة باب الشعرية للتشويه من جانب طالبات مدرسة باب الشعرية الثانوية (بنات) بدافع ترميمه، فتغير لونه بطلاء وجهه واليدين باللون الذهبي، وطُلي الجسد باللون البني، ليظهر التمثال بشكل غير لائق، ليثير، وقتذاك، حالة كبيرة من الجدل والسخرية في منصات التواصل الاجتماعي.

 

تمثال الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب

-الأمر نفسه تكرر في تمثال الأديب الكبير عباس محمود العقاد في أسوان، وما إن أُزيح الستار عن التمثال النصفي للأديب الكبير بعد إعادة ترميمه حتى انهالت التعليقات الساخرة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي .

تمثال الأديب الكبير عباس محمود العقاد في أسوان

-وفي أغسطس 2016، طُلي وجه تمثال أم كلثوم الموجود بمنطقة أبو الفدا بحي الزمالك وسط القاهرة باللون البني،  فيما بقي جسد التمثال باللون الذهبي.

تمثال أم كلثوم بعد تغير لونه

كذلك تعرض تمثال  أحمد عرابي الموجود في مسقط رأسه بقرية هرية رزنة التابعة لمدينة الزقازيق بالشرقية، في العام نفسه للانتهاك، بعدما شوّهه مسؤولو التجميل بالمحافظة بألوان غريبة لا تمُت للفن والذوق بصلة.

تمثال أحمد عرابي

بينما تعد واقعة تشويه تمثال نفرتيتي الموجود بمدينة سمالوط في المنيا بصعيد مصر، المنحوت في نحو العام 1345 قبل الميلاد، هي  الكارثة الأشهر، بعدما خضع لتشويه واضح عقب عملية نسخ له في عام 2015؛ فخرجت النسخة المقلدة للتمثال غريبة على نحوٍ مثير للسخرية، إذ جاءت بشرة الملكة صفراء باهتة، فيما العينان مغلقتان، والوجه غير متناسق.

 

تمثال نفرتيتي الموجود بمدينة سمالوط

التماثيل والمنحوتات التي أبدعها الفنانون المصريون والأجانب، الموجودة في ميادين وشوارع مصر، ليست حجارة وأوثانا، بل هي شاهدة على التاريخ، والحضارة، وناطقة بقدرة الإنسان على البناء والفن، وتهذيب الروح والوجدان، كما أنها تخليدٌ للشخصيات ذات المآثر العظيمة المؤثرة في حياتنا، وليست معبودات من دون الله كما تعتقد الأخيلة المريضة المشبّعةاما  بالتكلس والجمود الذهني والفقهي او المشبعة بانعدام الذوق والتحضر!

نماذج جيدة من للنحاتين الشباب

 

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock