مشهد نهاري خارجي
1-
تضبط شيماء الكادر علي وسط المدينة في القائد إبراهيم، وتلتقط صورا كثيفة لكل وجوه الثوار المرهقة من مشقة السفر بحلم الثورة خارج نطاق المعقول.. ثم تستدير الكاميرا باتجاه الاحتجاجات العمالية، وتقفز في وسط الهتافات وترفع يدها عالية فيرتفع صوت الهتاف من أجل الحقوق.. تستريح قليلا على مقهى الوطنية بفنجان قهوة وكوب من المشاغبات التي كانت تبدع فيها..
2-
تسافر إلى القاهرة صباح يوم 24 يناير 2015، مع مجموعة من الرفاق، على وعد بلقاء فور عودتها، وتمسك باقة ورد وتتجه بها نحو الميدان لكي تحيي شهداء يناير، ولكن المسافة بين مقر حزب التحالف وميدان التحرير أطول مما كانت تتصور، كانت تعتقد أنه في خلال دقائق ستنتهي المهمة، وتعود إلى بلال ورمال البحر.. وفجأة توقف الزمن.. تجمدت الدماء في شرايين القلب.. سقط ستار الوهم.. وواجهت الحقيقة.. انطلق الخرطوش نحوها بالقرب من القلب.. قاومت لحظات.. قبل أن تسقط على الأرض ليرفعها سواعد الرفاق إلى أقرب مكان للإنقاذ.. وما بين الصمود والسقوط.. تُعلق أرواحنا على مشانق الرهبة..ونُدخِل أمانينا في ثلاجات الصبر التي لا تعمل بكفاءة.. يأتي الخبر: شيماء ماتت..!! كل ما في الحلق من مرارة يأبي على الابتلاع..وكل ما في الحسرة من صراخ يرفض أن يترك حناجرنا.. لعل في الأمر خطأ ما !! لعل النزيف حاد ولكن الروح لم تزل في الجسد …لعل كل ما يحدث كابوس مزعج !! بعد دقائق انتشر الخبر في كل جهات العالم الأربع.. قُتِلت شيماء .. وقضي الأمر..في لحظة.. صرنا رفاق الشهيدة.. وصار بلال ابن الشهيدة.. وصار أسامة زوج الشهيدة.. وصارت أمها أم الشهيدة..
3-
في الجنازة.. الصمت سقف خيمة الوداع .. نتبادل النظرات في عتاب.. رفاق يفترشون الأرض، وبعضهم يتكئ علي حائط.. ومنهم من يضع رأسه بين ركبتيه.. ومن يبكي في صمت وجلال.. يخرج الجسد مرفوعا فوق خشبة من المسجد فترتفع الأيادي إليه لتحمله، أيادٍ يتلهم الدعاء معصمها، وترتعش الأصابع من فرط شوقها إلي حمل جسد نحيف وروح مثابرة استطاعت أن تصمد في هذه الحياة 31 سنة.. يتحرك المشهد.. كاميرا الوطن تتحرك أمامه لتسجل لحظة من لحظات الفداء، خطوات الأقدام ليس لها صوت.. وكأننا نزحف علي بطوننا..لا أحد يبحث عن أحد.. العيون مصلوبة صوب الجسد المسجي.. إن القلوب تعرف الحياة ولكنها لم تعرف الموت.. فقط أدركته الآن..نقترب من المقابر.. ومع كل خطوة للأمام نشعر وكأننا نرجع خطوات للخلف، لماذا لا يدور الزمان للوراء .. لماذا لم يصرخ المخرج بكلمة Cut حتي الآن.. لعل المشهد العام يعجبه ويريد أن يستكمل التصوير حتي يدفن عروس السماء في قبو صغير ويغلق عليها أبواب الدنيا إلى ما لا نهاية.. أيها المخرج تكلم.. انطق .. قل كلمتك وأوقف هذه المهزلة..والمخرج يبدو أنه غير موجود أصلا.. يبدو أنه تركنا نكمل نحن مشهد النهاية..
4-
اجتمعنا.. جميعا… إلا هي.. عاد من دخل معها المقابر.. وهي لم تعد..وتفرقنا من جديد.. رحلت وبقي عطرها يتقاسم معنا الحزن، ويشاطرنا المواجع.. وتبقى ذكرى.. قصيدة شعر نتلوها في كل عام.. تموت شيماء عشية ميلاد الثورة.. وكأنها اختارت موعد موتها .. رحلت وتركت لنا روحا معلقة على حبل سري بيننا وبين أحلام الفجر الطازج..ماتت ولكنها لم تكن هي بطلة المشهد.. إنه هناك يجلس في انتظار أمه ..سوف تأتي.. نعم سوف تأتي.. لقد تأخرت كثيرا ولكنها سوف تأتي………