السنة هي الطريقة، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي”، وفي تفسير الجماعة قالوا إنها السواد الأعظم، أي عامة المسلمين، وهنا أتذكر قول فخر الدين الرازي ( 544- 606) ليتني مت على عقيدة عجائز نيسابور، تلك العقيدة الفطرية التي تؤمن بالله بلا تفلسف فارغ ولا تعمق لا طائل من ورائه.
هنا إيمان الفطرة وإيمان عوام المسلمين وطريقتهم القائمة على الفطرة وليست تلك الناتجة عن تشقيق الكلام وتفريعاته الطويلة وفلسفته التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم يكن مصطلح أهل السنة والجماعة معروفا في تاريخ الخبرة الإسلامية وإنما جرى إطلاقه على عامة المسلمين وسوادهم وغالبيتهم بعد أن ظهرت العديد من الفرق تجادل حول قضايا الإيمان والقدر والتفلسف وعلم الكلام وخلق القرآن والقدم والحدوث وغيرها من القضايا العويصة والعميقة والمغرقة في الإلغاز والغموض.
كان المصطلح يريد أن يوسع من المنتسبين لأهل القبلة وأهل الإسلام ويؤكد على أنهم من المسلمين بكافة تنويعاتهم مثل الأشاعرة والماتريدية والمتصوفة والمتكلمين وحتى الفرق الأخرى كالخوارج وغيرهم اعتبروا داخلين في عموم الدائرة الكبرى التي تشمل المسلمين وتوجب حقوقا وواجبات فيما بينهم منها مثلا “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم”، وإيمان أهل السنة والجماعة شائع داخل عموم المسلمين وعامتهم وعوامهم وسوادهم الكبير، وظني أن الحق لا يخرج عن هذه الجموع أبدا.
والفقهاء الذين نعرفهم وارتضت الأمة مذاهبهم واتخذتها طرائق للعبادة والسيرة الحياتية كما أقول دائما – كانوا يجتهدون للأمة ولا يجتهدون في مواجهتها، فهم يوسعون التأويل والتفسير والفهم للنصوص حتى تظل الشريعة ويظل القرآن والسنة حاكمين في واقع الناس وحياتهم، فمع مستجدات الحياة وأسئلة العصر المتجددة تُطرح أسئلة تحتاج إلى تأويل النصوص وتوسيع طاقاتها لتجيب على تلك الأسئلة، هذا ما فعله الأئمة الأربعة أبو حنيفة الذي انتشر فقهه في القضاء، واعتمد القياس والتأويل الواسع وقياس الفروع على الأصول، والإمام مالك بن أنس إمام أهل المدينة وواضع الموطأ الذي زاوج فيه بين أطراف المسائل والقضايا االمتشددة وتلك المتساهلة، والإمام الشافعي الذي وضع كتابه الرسالة “ليكون أول من أسس لأصول الفقه وطريقة فهم القرآن والسنة وعلاقتهما معا، والإمام أحمد بن حنبل الذي وضع المسند وهو شيخ أئمة السنة الكبار كالبخاري الذي جمع صحيح البخاري.
كان الأئمة وعلماء الأمة يوسعون معنى المسلم ويدخلون فيه كل المسلمين كما فعل أبو الحسن الأشعري في كتابه “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين” واعتبر أن المصلين كلهم يدخلون في معني المسلم.
أما الجماعات الحديثة التي أطلت على العالم الإسلامي عقب إعلان سقوط الخلافة الإسلامية فإنها طرحت نفسها كما لو كانت “جماعة المسلمين” وطابقت بين الإسلام وبين أتباعها الداخلين في معنى فهمها الخاص للدين، كما جعلت الإسلام الواسع الكبير محصورا محاصرا في تنظيم اخترعته تلك الجماعة واعتبرته أداتها في مواجهة المسلمين وليس لصالحهم، فهي تجتهد عبر تنظيمها لتخرج من الإسلام ومما تعتبره جنة أرضية تستحوذ عليها وتملك مفاتيحها بقية المسلمين ممن لا ينتسبون لذلك التنظيم ولا يرضون أن يكونوا ضمن تلك الجماعة التي تستبطن أنها جماعة المسلمين وحدها دون بقية المسلمين جميعا.
فكرة السنة والجماعة التي رسخ لها كل علماء الإسلام قبل ظهور الجماعات الحديثة بدأت تتراجع بل وتختفي لصالح مفهوم “جماعة المسلمين” التي تملك الحق ويملك المنستبون إليها الحقيقة والاستعلاء الإيماني على بقية المسلمين الذين لا يحسنون الجدال الكلامي ولا التفلسف المتقعر حول قضايا الحاكمية وحكم الديار وحكم الذبائح والعذر بالجهل والجماعة والبيعة والإمارة والتنظيم والعمل الحركي والجماعة، ولايعرف عامة المسلمين مصطلحات كالعزلة الشعورية ولا التوقف والتبين ولا الطائفة الممتنعة ولا جدالات المعتزلة والأشاعرة.
أصبح أهل التنظيمات والجماعات الإسلامية الحديثة كلهم جميعا يرون أنفسهم هم “جماعة المسلمين” حتى لو قالوا إنهم جماعة من المسلمين، وظهرت فوضى هائلة جعلت من الإسلام أيديولوجية تستخدمها تلك الجماعات في مواجهة بقية المسلمين وأهل السنة والجماعة الذين يشيع الإسلام بينهم جميعا ويكمن داخل حياتهم ووجدانهم فلا يخرج الحق غالبا عنهم، وحملت تلك الجماعات مشاريع تكفيرية في مواجهة الأمة كما هو حال جماعة التكفير والهجرة التي كانت تُطلق علي نفسها “جماعة المسلمين” وحمل آخرون مشاريع سياسية تطلب الحكم والسلطة ودخلت في مواجهات غير محسوبة وعنيفة مع نظمها السياسية وهو مابدد طاقتها وطاقة الأمة أجمعين لصالح أعدائها.
يبدو لنا أن العودة إلى البدايات واتخاذ سبيل المؤمنين باعتماد مسار أهل السنة والجماعة الذي ينفتح لكل المسلمين بكل اجتهاداتهم وآرائهم ويعتبر أن المسلمين جميعا داخلين في هذا المعني، ذلك هو الطريق الصحيح وأن على الشباب المسلم الذي يريد أن يعمل لدينه أن يعمل وفق المعني الشائع لأهل السنة والجماعة بين أهل بلدته وأن يتخذ من المؤسسات المملوكة للأمة جميعا فضاءات لأنشطته وفعله وطاقته حتى يكون مردودها نافعا للأمة كلها، بعيدا عن منطق جماعة المسلمين والتنظيمات الخاصة التي تبدد طاقة جزء من شبابنا في مواجهات عقيمة مع مجتمعه ودولته بلا طائل ولا معني.. اجعلوا طاقاتكم لأمتكم جميعا، واعملوا داخل المعنى العام للأمة جميعا بلا تمزيق ولا تشتيت ولا تفريق، هذا هو السبيل نحو بداية جديدة تحفظ للأمة قوتها وتحفظ لأبنائها حيويتهم بعيدا عن الصراعات العدمية والعبثية.