الخلاف الذي نشب بين الخديوي توفيق وحكومة محمود باشا سامي البارودي، إثر صدور حكم العسكري على عدد من ضباط الجيش الأتراك الذين ثبتت ضدهم تهمة محاولة اغتيال أحمد باشا عرابي وزير الجهازية بالنفي والعزل، تم حسمه في 15 مايو 1882 بقبول الحكومة المرسوم الخديوي بتخفيف تلك الأحكام.
لم يرض الحل الذي أخمد نار الفتنة بين الخديوي والحكومة بريطانيا وفرنسا، فممثلا الدولتان في القاهرة أكملا ما بدآه في زرع الفتن، وأوغرا صدر توفيق الذي لم ينس أن العرابيين حاصروا قصره وفرضوا عليه عزل وزارة رياض باشا وأرغموه على إجراء انتخابات نيابية حرة والتصديق على أول دستور للبلاد «اللائحة الأساسية» ينتقص من صلاحياته.
ويبدو أن توفيق كان في انتظار أن تمر العاصفة ليستعيد زمام الأمور، فالرجل كان يضمر الانتقام في نفسه حينما تواتيه الفرصة، وليس أنسب من فرصة وصول الأسطولين البريطاني والفرنسي إلى مياه الإسكندرية ليبدأ في تنفيذ انقلابه على كل ما جرى، وليطيح بالمكتسبات التي تحققت وكان لها أن تضع مصر على خريطة العالم كدولة حديثة.
أعلنا قادة الأسطولين الذين وصلا الإسكندرية في البداية أن وصول بوراجهم إجراء ليس فيه أي نوع من التعدي على السيادة المصرية وأن وصولها سيكون «بصفة ودية وبطريق مسالمة»، بحسب ما أخطر كل من السير إداورد مالت قنصل انجلترا العام والمسيو سنكفكس قنصل فرنسا الخديوي توفيق ورئيس الحكومة في 15 مايو.
بدأت البوارج الحربية تصل مياه الإسكندرية صباح يوم الجمعة 19 مايو 1882، وكانت قطع الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال السير بوشان سيمور، أما القطع الفرنسية فكانت بقيادة الأميرال كونراد، وأطلقت المدافع التحية لقدومها باعتبارها جاءت «بصفة ودية». وفي اليوم التالي نزل القائدان إلى البر مرتديين ملابسهما الرسمية، وزارا محافظ الإسكندرية في مكتبه، فرد لهما الزيارة تبعا للتقاليد.
مذكرة إنجلترا وفرنسا
لم يكد يحضر الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى مياه الإسكندرية حتى أخذت الدولتان تخاطبان مصر بلغة التهديد، وبدأتا بطلب استقالة وزراة البارودي، وخروج عرابي من القطر المصر، وحاول مسيو سنكفكس قنصل فرنسا إقناع زعماء العربيين بطريقة ودية بقبول شروط الإذعان عن طريق سلطان باشا رئيس مجلس النواب.
عرض سلطان شروط الإنجليز والفرنسيين باعتبارها مقترحاته الخاصة التي تعفي البلاد من التدخل المسلح. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «الاحتلال الإنجليزي والثورة العربية»، أن سلطان فقد ثقة العربيين منذ تلك الواقعة، وبدأ انحيازه إلى صف الخديوي.
الرافعي المعروف بمواقفه المنحازة ضد عرابي ورفاقه، حمل الحكومة وقادة العرابيين مسئولية ما جرى بعد ذلك من أحداث وقال في كتابه: «لو أن عرابي قبل هذه المقترحات وغادر البلاد لكان ذلك تضحية منه في سبيل مفادتها للتدخل الأجنبي المسلح، ولتركها على الأقل في ظروف أسعد حالا وأشرف من رحيله عنها بعد هزيمة التل الكبير».
كلام الرافعي فنده العديد من المؤرخين المنصفين الذين أثبتوا أن الإنجليز كانوا قد حسموا أمرهم باحتلال مصر، وأن وزارة البارودي لم يكن أمامها حفاظا على كرامة الدولة المصرية في هذا الوقت إلا رفض شروط الإذلال التي حاول القنصلان فرضها.
في 25 من مايو تلقت الحكومة المصرية، وتلقى الخديوي المذكرة المشتركة الرسمية وفيها تطلب الدولتان: «أن يخرج عرابي باشا من مصر مع احتفاظه بلقبه وراتبه، وأن يبتعد كلٌّ من عبد العال باشا وعلي فهمي باشا إلى داخل القطر مع احتفاظهما كذلك بلقبيهما وراتبيهما وأن تستقيل الوزارة الحالية من الحكم …».
الدكتور محمود الخفيف وهو من أول المؤرخين الذين أنصفوا الثورة العربية وتتبعوا أحداثها أحداثها من خلال وثائق ومذكرات معاصريها سواء كانوا أجانب أو مصريين قال في كتابه «أحمد عربي.. الزعيم المفترى عليه»، أن الوزارة قررت في غير تردد رفض هذه المذكرة المشتركة الثانية، وأُبلغ هذا الرفض إلى ممثلي الدولتين.
وزارة البارودي قالت في مذكرة ردها: «إن سعادة سلطان باشا صرّح أمام الوزراء عند انعقاد مجلسهم بأن أعاد على رئيس مجلس الوزراء ذكر محادثة جرت بينه وبين قنصل فرنسا، وأنه لم يبدأ بذكر مقترحات أو إشارات لا يعنيه أن يقدمها ولا يبديها باسمه الشخصي، ولا بصفة كونه رئيس مجلس النواب فإن هذا المجلس غير ملتئم الآن، أما الطلبات المدونة في اللائحة التي قدمها قنصلا إنجلترا وفرنسا فتتعلق بمسائل داخلية تختص بالأمور الإدارية التي اعترفت الدول الكبرى دائمًا بأن حرية العمل فيها من خصائص الحكومة المصرية، ولا يمكن لحكومة الجناب الخديوي أن تولج في باب المناظرات والمباحثات في هذه القضايا بدون التعدي على الفرمانات السلطانية والمعاهدات الدولية التي حددت مقام مصر الخصوصي وبدون نقض القوانين الشورية لهذه البلاد التي هي أعظم كفالة تتكفل ببقاء الحال على ما هو عليه.»
«أصر الوزراء وفي مقدمتهم عرابي على موقفهم، وأيَّدهم كبار الضباط وأعلنوا أنهم معهم ولو أدى الأمر إلى القتال.. ولكن ماذا عسى أن يغني عن الوزارة جلال موقفها في هذه الأزمة العصيبة، ولم يمض يوم واحد حتى قبل توفيق مذكرة الدولتين، وأعلن ذلك في غير تحرُّج من هذا الفعل على شناعته البالغة؟»، يستكمل الخفيف روايته.
استقالة حكومة البارودي
بعد إعلان توفيق قبول مذكرة الدولتين، لم يجد البارودي بعد ذلك مناصًا من الاستقالة، فكتب استقالة الوزارة في 26 مايو 1882، وجاءت على النحو التالي: «إن جنابكم العالي قد بلغنا عند وصول الدوننمتين: الإنجليزية، والفرنسية بأنكم حررتم إلى الآستانة بطلب التعليمات، ولما كنا منتظرين ورود خطاب من الباب العالي وإذا بقنصلي فرنسا وبريطانيا الكبرى قدما لحضرة رئيس مجلس نظاركم لائحتهما بتاريخ ٢٥ مايو، وبناءً على أوامر جنابكم العالي اجتمعنا والتأم مجلسنا وقرر هذا الخطاب المرفق مع هذا، وعندما توجّهنا إلى جنابكم العالي لاستشارتكم أخبرتموننا بأنكم قبلتم لائحة وكيلي فرنسا وبريطانيا العظمى، وهذا القبول مباين لما أجمع عليه رأي كل النظار إجماعًا كليًّا، فإن قبول تدخُّل الدول الأجنبية في هذه القضية يمسُّ بحقوق الحضرة السلطانية، وبناءً على ذلك نتشرف بأن نقدم لجنابكم استعفاءنا جميعًا …».
قبل الخديوي استقالة الوزارة، بل اغتبط بها، إذا كان يبغي التخلص منها، «ولا غرابة في ذلك فتلك الوزارة التي نازعته الحكم، وجعلت مركزه مهددا، وقد كان توفيق يكره البارودي قبل توليه رئاسة الوزراة، وذلك منذ بدت منه ميوله نحو العرابيين في واقعة قصر النيل، وحين رفع إلى الخديوي تقرير عبد العال حلمي، وما فيه من الاعتراض على تصرفات الخديوي»، يضيف الرافعي في كتابه.
تنفَّس توفيق الصعداء، ظانًّا أن الأمر انتهى إلى غايته، ولم يعلم أن صنيعه هذا كان معجلًا بالكارثة، بل لقد كان هذا الصنيع في ذاته هو الكارثة، فلولا ما كان من ركونه على هذه الصورة إلى الأجانب، ما أقدمت إنجلترا على تنفيذ ما بيتته طويلًا من غدر بالبلاد.
ويلخص الخفيف الحالة التي مرت بها مصر في تلك الفترة ويقول: إن القضية كلها يمكن تلخيصها وقد قرب دويّ العاصفة في كلمة قصيرة، هي أن خلافًا داخليًّا وقع في مصر بين الخديوي المتمسك بالحكم المطلق وبين زعماء الشعب المتمسِّكين بالحكم الدستوري، فانتهز الإنجليز هذه الفرصة لتحقيق نياتهم المبيَّتة من قبل هذا الخلاف، ولم يشأ الخديوي أن يتنازل عن مبدأ الاستبداد، فركن إلى الأجانب ليتخلَّص من الوطنيين، وعمل هؤلاء الثعالب على زيادة الخلاف وعلى رأسهم مالت كبير شياطينهم، حتى كانت المذكرة المشتركة الثانية وهي الضربة التي تصيب الحركة القومية في مقتل، فلم يجد عرابي وأعوانه بدًّا من دفع هذا العدوان الفاجر عن البلاد أَنَفَةً وحفاظًا ولو ذهبت أرواحهم في سبيل ذلك.
تسبب قبول الخديوي لاستقالة الوزراة في حالة من السخط العام، خاصة في صفوف الضباط، لانهم رأوا في استقالة الوزارة ومن بينها وزير الحربية أحمد عرابي، إقصاء لهم ولهم، وإضعافا لنفوذه وتنحية له عن العمل.
ويقول عرابي في مذكراته عن سقوط الوزراة «وما طير البرق خبر استعفاء الوزارة واحتجاجها على قبول الخديو للائحة إنجلترا وفرنسا حتى بلغ الاضطراب في جميع بلاد القطر مبلغًا عظيمًا، وأخذ القلق من النفوس مأخذًا جسيمًا، فكثر اللَّغَط وزادت بواعث الإيجاس والخوف، ثم حضر إلى العاصمة جميع أعيان البلاد ومستخدمي الحكومة، وقدموا لنا مئات العرائض بواسطة مديريهم محتجِّين فيها على عمل الخديو هذا وطالبين أحد أمرين: إما رفض اللائحة المشتركة المذكورة، وإما عزل الخديو الذي قَبِلَ تدخل الأجانب في أحوال البلاد الداخلية.»
وبالرغم من استقالة الوزراة بقى عرابي على اتصال دائم بضباط الجيش لكي يضمن ألا يتم إغواء الجيش الذي خرج للمطالبة بحقوق الأمة، وأرسل عرابي في 27 مايو إلى أنصاره من الضباط رسالة تلغرافية يخبرهم فيها بأنه مع استقالته من وزراة الحربية، فأنه لم يستقل من رئاسة الحزب الوطني وطلب منهم أن يأتمروا بأوامره، وأن يحافظوا على الأمن.
ورغم رفض عدد كبير من المرشحين لرئاسة الحكومة الجديدة ومنهم شريف باشا ومصطفى فهمي باشا وغيرهم، إلا أن توفيق أصر على المضي قدما فيما عزم، وحاول تسهيل مهمة المحتل بأن يقطع طرق الإمداد إلى الإسكندرية، فبادر بإرسال أمر منه إلى المديرين قال فيه: «بما أن هيئة النظار الحاضرة استعفت وصار قبول استعفائها فليكن معلومًا ذلك لديكم لتصرفوا جهودكم وقدرتكم في المحافظة التامة منكم ومن مأموري المديرية الموكلة لإدارتهم والدقة والانتباه لحسن سير الأشغال والمصالح المتعلقة بكم، كما أنه من حيث إن السفن الحربية الأجنبية التي حضرت إلى الإسكندرية لم يكن حضورها إلا بوجه سلمي فقط، ولم يكن هناك شيء آخر خلاف ذلك، فليس هناك لزوم لإرسال أحد من عساكر الإمدادية الذين صار طلبهم أخيرًا بمعرفة الجهادية، بل إن الموجود منهم تحت الحضور لهذا الطرف يصير إعادته لبلده، والذي تحت الحضور من البلاد يتنبه بصرف النظر عن حضوره، وإعلان المراكز والأقسام بالتنبيه على مشايخ وعمد البلاد بهذا المضمون للعلم بعدم الاقتضاء لجمع عساكر، وانتباه كل لأشغاله وزراعته بدون اشتغاله في غير ذلك، هذا وإن الأمور المهمة التي كان قد جرى العرض عنها لنظارة الداخلية يجب أن يعرض عنها من الآن لمعيتنا إلى أن تشكّل هيئة نظارة جديدة كما هو مطلوبنا.»
كانت وزارة البارودي قد أصدرت قرارا قبل استقالتها باستدعاء الاحتياطي حتى تكون مستعدة لأي طارئ، وهو ما انتبه إليه توفيق وعمم على مديريي المديريات قراره ليعزل الإسكندرية ويفتح الطريق أمام القوات الأجنبية المحتلة.
ويعقب الخفيف على تلك الواقعة فيقول: «إنما يريد توفيق أن يعترض طريق ثورة مشروعة في مصر مبعثها تدخل الأجانب في شئونها الداخلية توطئة لالتهامها، وأن يُظهر عرابيًّا ومن معه بمظهر العصاة المتمرِّدين، الذين يعمل هو ومن يعضده من الأجانب على قمعهم والقضاء عليهم، وليس أكثر من هذا الذي يفعل ممالأة للعدو واندماجًا في سياسته».
أزمة حقيبة الحربية
في صباح السبت 27 مايو، عقد توفيق في سراي الإسماعيلية اجتماعا كبيرا، حضره النواب والعلماء والأعيان وأصحاب المناصب والرتب، وهو الاجتماع الذي اعتذر فيه شريف باشا عن تكليفه بتشكيل وزارة جديدة، وبعد ظهر ذات اليوم، عقد توفيق اجتماعا آخر، وأخبر الحضور بأن السياسة اقتضت استعفاء الوزراة وقبول لائحة الدولتين، وأنه سيشكل الوزراة الجديدة برئاسته هو مع تقلده نظارة الجهادية، وأخبرهم بأنه عفا وصفح عما مضى، لكن من يخالف في المستقبل عوقب أشد العقاب، وأعلن أن حضور البوارج الحربية الأجنبية لم يكن إلا لمقاصد سلمية.
فرد عليه طلبة باشا عصمت وقال: «إننا مطيعون جميعًا للجناب السلطاني الشاهاني وللجناب الخديو، ولكن هذه اللائحة يستحيل علينا تنفيذها، ولا حق للدولتين في طلب تنفيذها، فهي تتعلق بمسائل من اختصاص الباب العالي أن ينظر فيها، ويستحيل علينا قبول أحد رئيسًا للجهادية خلاف رئيسنا أحمد عرابي باشا.».
وصادق على قول طلبة باشا الشيخ عليش وعدد من علماء الأزهر، وأخرج طلبة عدد من التلغرفات التي وصلت إليه من آليات الجيش تطالب ببقاء عرابي وزيرا للجهادية، ولما انتهى من كلامه خرج من الاجتماع دون أن يستأذن من الخديوي وتبعه الضباط والعلماء، فبدا من هذه الحركة أن الضباط لن يقبلون مذكرة الدولتين ولا يرضون بقبول استقالة الوزراة ولا بإبعاد عرابي عن «الحربية».
وقبل أن ينفض المجلس ورد إلى الخديوي تلغراف من ضباط الجيش والبوليس بالإسكندرية يقولون فيه: إنهم لا يرضون البتة غير عرابي وزيرا للجهادية، وينذرون بأنه إذا مضت أثنتا عشرة ساعة ولم يرجع إلى منصبه كانوا غير مسئولين عما يحدث من الخلل.
ويذكر كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: إن سلطان باشا وبعض النواب أخبروا الخديوي في حضور القنصلين الفرنسي والإنجليزي أنه ما لم يوافق على إعادة عرابي وزيرًا للجهادية فإن حياته يحفُّ بها الخطر.
ماذا جرى وكيف تعامل الخديوي توفيق مع تمرد الضباط والعلماء، وإصرارهم على الإبقاء على عرابي وزيرا للحربية؟، هذا ما سنعرضه الحلقة القادمة في سلسلة «الطريق إلى الاحتلال الإنجليزي».
المراجع:
«الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي» – عبد الرحمن الرافعي
«أحمد عرابي الزعيم المُفْتَرَى عليه» – محمود الخفيف
«التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر» – المستشرف الإنجليزي مستر ألفريد سكاون بلنت
«مصر الحديثة»- اللورد إيرل كرومر