هناك خبر متداول أن كتاب ” العمامة المستنيرة: تجديد الخطاب الديني عند عبد المتعال الصعيدي” قد نفدت طبعته الأولى، خلال أسبوع من تاريخ صدوره، الكتاب صادر في يناير ٢٠٢١م عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ومؤلفه هو الدكتور أحمد محمد سالم.
يمثل كتاب “العمامة المستنيرة” نموذجا للعمل العلمي الذي يقترب به صاحبه من القارئ العام يكسبه في صفه ويأخذ بيده نحو المعرفة والوعي، ثم هو لا يعاظل ولا يعقد المسائل المطروحة للبحث، وفي ذات الوقت لا يتساهل ولا يسطح القضايا محل النقاش في الكتاب.
يقع كتاب “العمامة المستنيرة” في ١٧٣ صفحة من القطع الكبير، قسمه المؤلف إلى مقدمة وأربعة فصول.
توقف المؤلف الدكتور أحمد سالم في مقدمته أمام معضلة “العلماني والديني” في الفكر المصري والعربي المعاصر فقال ” نحن أمام نخبة علمانية تريد للمجتمع أن يعيش في حاضره، وأن يتمتع بمنجزات الحضارة الحديثة، وأن يتخلى عن موروثه القديم، ذلك الموروث الديني، الذي يرونه سببا للجمود والتخلف” (ص ٧) ثم يصف المؤلف موقف الفريق المقابل وهم أصحاب التوجه الديني الإسلامي، فيقول “بدت لغة أصحاب التوجهات الإسلامية تجاه العلمانيين في منتهى الحدة والتطاول، فجعلوا يسبونهم بأقبح الألفاظ، ويسخرون منهم لأنهم عملاء الغرب المتآمر على العالم الإسلامي… ونجح الإسلاميون في سجن (إسلام البحيري) و (الشيخ محمد عبد الله نصر) وغيرهم.. حيث أصبحت مواد قانون ازدراء الأديان سيفا مسلطا على رقاب أصحاب التوجه العلماني” (ص ١٠ و١١)
الشيخ الذي يتناول كتاب “العمامة المستنيرة هو عبد المتعال عبد الوهاب الصعيدي، المولود في قرية كفر النُّجَبا مركز أجا دقهلية عام ١٨٩٤ وتوفي عام ١٩٦٦ فعاش نحو ٧٢ سنة خاض فيها معارك فكرية عدة، ظهر بعضها في عناوين كتب ألْفها ونشرها، منها كتاب “من أين نبدأ” اشتبك به مع الشيخ خالد محمد خالد (١٩٢٠- ١٩٩٦) حينما نشر كتابه عن المرأة بعنوان “من هنا نبدأ” الذي نشر عام ١٩٥١. كما ألف الشيخ عبد المتعال كتابا بعنوان “الرد على كتاب في الشعر الجاهلي” اشتبك به مع الدكتور طه حسين الذي أصدر كتابه عام ١٩٢٦.
تعلم الشيخ عبد المتعال في مسجد السيد البدوي في طنطا، وفي عام ١٩١٨ حاز درجة “العالمية” من الأزهر، وعين مدرسا في المسجد الأحمدي، ثم نقل للعمل بكلية اللغة العربية في القاهرة، وكان منتميا لجيل من مدرسة الإمام محمد عبده (١٨٤٩- ١٩٠٥) وأظهر أعلام هذا التيار هو الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت (١٨٩٣- ١٩٦٤) وتولى مشيخة الأزهر من ١٩٥٨ وحتى وفاته ١٩٦٣، وفي عهده صدر قانون تطوير الأزهر عام ١٩٦١.
كان عبد المتعال الصعيدي لُغويا، كتب في البلاغة والأدب، وبعض الشروح النحوية، لكنه اجتهد فأسهم في الفكر، وفي الدعوة أيضا، فله كتابان في الرد على أصحاب دعاوى التنصير والإلحاد. ومع أنه لم يكن فقيها مثل معاصره شلتوت فإنه كان جريئا في آرائه فقال في الحدود برأي لا نقبله في مجتمعنا حتى الآن.
كان عبد المتعال الصعيدي غزير الإنتاج، حتى زعم مؤرخون لحياته أنه ترك سبعين كتابا بين مطبوع ومخطوط، وربما كانت بعض هذه الكتب محاضرات أو مقالات، وقد رصد الدكتور أحمد سالم مؤلف كتاب “العمامة المستنيرة” ثَبَتا بثلاثة وعشرين كتابا منها أربع مخطوطات محفوظة بمكتبة الأزهر الشريف بالقاهرة.
نلاحظ أن بعض مؤلفات عبد المتعال الصعيدي قد أعيد طبعها مؤخرا، فقد طبعت سبعة من كتبه، في الفترة من عام ١٩٩٣ حتى ٢٠١١م، أهمها كتابه “حرية الفكر في الإسلام” الذي طبعته مكتبة الإسكندرية، ثم أعادت هيئة الكتاب طبعه ضمن مكتبة الأسرة عام ٢٠٠٩. قدم لهذا الكتاب الدكتور عصمت نصار الذي سبق له تأليف كتاب بعنوان “حقيقة الأصولية الإسلامية في فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي” نشره عام ٢٠٠٤. كذلك قام الباحث الأردني صالح سهيل حمودة بجمع مقالات الشيخ الصعيدي من مجلات “الرسالة” و”رسالة الإسلام” و”المنار” فرتبها ونشرها في نسخة إلكترونية. وإذا فمؤلف هذا الكتاب هو الباحث الثالث الذي أراد أن يحيي فكر عبد المتعال الصعيدي بالنقاش والجدل حول آرائه التجديدية. ويقول الدكتور أحمد سالم “كان هدف الصعيدي أن يكون الدين من أجل الدنيا، من أجل حياة الناس ونهوضهم وتقدمهم، وليس الدين من أجل العبادة فقط، ولا يمكن اختزال الدين من أجل خلاص الفرد فقط، ولكن أيضا من أجل صلاح الدين والمجتمع” (ص ٦١)
مؤلف الكتاب الدكتور أحمد سالم يعمل أستاذا للفلسفة والفكر العربي في كلية الآداب بجامعة طنطا، نشر عديدا من المؤلفات منها كتب متخصصة في العقيدة والفلسفة مثل “نقد الفقهاء لعلم الكلام، بين حراسة العقيدة وحركة التاريخ” وكذلك “تجديد علم الكلام، قراءة في فكر بديع الزمان النورسي” و “الإسلام العقلاني، تجديد الفكر الديني عند أمين الخولي” وكذلك “إقصاء الآخر، قراءة في فكر أهل السنة” و”إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، دراسة نقدية مقارنة بين حسن حنفي وعابد الجابري”. أما المؤلفات التي توجه بها للقارئ العام، أبعد من الإطار الأكاديمي الضيق، فمنها “التنوير” و “المرأة في الفكر العربي الحديث، قراءة في معارك عصر التنوير”
خصص المؤلف الفصل الأول لقضية إصلاح التعليم الديني فقال في مقدمته إن الشيخ عبد المتعال الصعيدي كان الأكثر اهتماما بمسألة إصلاح الأزهر بعد الإمام محمد عبده، فقد ألف الصعيدي ثلاثة كتب في هذا الموضوع أولها “تاريخ إصلاح الأزهر” والثاني “نقد نظام التعليم للأزهر الشريف” والثالث مخطوط بعنوان “مع الأزهر التقدمي من الشيخ السبكي إلى فولتير” بل هناك أجزاء أخرى متناثرة من كتب عالج فيها قضية الإصلاح بما يؤكد مركزية هذه القضية في فكره. وقد سرد الشيخ تاريخ الإصلاح مع تاريخ الجمود، وفي تشخيصه لأسباب الجمود رأى أن المذهب الأشعري في العقيدة الذي أسسه أبو الحسن الأشعري (عاش بين ٢٦٠ ٣٢٤ هجرية) قد تأثر به التعليم الأزهري فكان أحد أسباب ذلك الجمود، بسبب ما ترسخ في كتب الأشاعرة من جمود، بل تعصب مذهبي بلغ حد تكفير بقية المذاهب العقدية. فأخذتهم كتب التوحيد إلى التعصب لها، وقد يصل بها التعصب إلى حد أن يدرك بعض المؤلفين ضعفا في بعض مذاهبها، ثم يصرُّ عليه، فيقول:
وما أنا إلا منْ غَزيَّة إنْ غوتْ غوَيتُ وإن ترشُدْ أرشُد
فكان بعض الأزهريين في ذلك العصر لا يطيقون أن يروا مخالفا لهم. ثم ينتقد الشيخ تقيد الأزهر بالمذاهب الفقهية الأربعة، فدعا إلى العمل بمذاهب الفرق الأخرى، كمذهب الزيدية في اليمن ومذهب الإمامية في إيران. كما انتقد الشيخ تقديس آراء السلف وعلومهم.(ص٣٨)
وعالج المؤلف قضية التجديد أيضا في الفصل الثاني من الكتاب بعنوان “من الغيبي إلى الاجتماعي” فقال في مقدمة هذا الفصل: “كان الصعيدي حريصا على ربط الدين بحركة المجتمع وعلاقة الروحي بالزمني وعلاقة العقل بالنقل وعلاقة الإنسان بالله، في ضوء مراعاة تطور حركة الاجتماع، بما يمنح الدين عبر الفكر الديني الجديد مسايرة مشكلات المجتمع” (ص٥٣)
التجديد الذي يدعو إليه الشيخ الصعيدي يشمل “علم التفسير” وعلم “أصول الدين” الذي يشرح أصول الاعتقاد أي التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والإيمان، كذلك “أصول الفقه” الذي يقعّد لإنتاج الأحكام الدينية في الجانب القانوني أي الشريعة، وأخيرا علم الفقه أو الفروع قياسا على “أصول الدين” والفقه ومدوناته هو مناط الاجتهاد الذي يؤثر في الحياة اليومية للناس، وبما أن أحكام الشرع الإسلامي أحكام كُلّية فيمكن الاجتهاد معها فتتسع دائرتها وتتشعب فروعها، لذلك فإن تلك الأحكام ينبغي ألا تتقيد بمذهب واحد سواء من المذاهب الفقهية أو المذاهب العَقَدية. ويرى الصعيدي أن فساد الأساس لا يحقق صلاح البناء، لذلك دعا إلى ضرورة إصلاح البناء الثقافي والديني. كذلك حمّل الشيخُ الصعيدي المستعمرَ البريطاني شطرا من مسؤولية إعاقة حركة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي. وأشار المؤلف إلى أن الشيخ كان يرى فصل الدين عن العلم، مؤكدا أن الدين لا يعادي العلم فقال “إن العلم الصحيح لا يعادي الدين، كما أن الدين الصحيح لا يعادي العلم، لأن الغاية منهما واحدة في هذه الحياة” وكان هذا النمط من الفصل الواضح بين الديني والدنيوي هو ما دفع المؤلف لأن يصف الشيخ بأنه صاحب “روح علمانية واضحة” (ص٧٨)
وفي الفصل الثالث عالج المؤلف جهود الشيخ الصعيدي في تجديد العلوم الإسلامية تحت عنوان “من التاريخي إلى العصري” يرصد المؤلف آراء الشيخ في نشأة علم الكلام أو التوحيد حيث لعبت السياسة الدور الأهم في نشأة هذا العلم في العصر العباسي، ومن هنا تأججت الكراهية بين الفرق الإسلامية، وكانت الاشعرية تالية لغيرها من الفرق، إلا أن كتبهم حوت هذا النزاع المذهبي حتى ظهر مذهبهم وطغى، وخطورة هذا الأمر من وجهة نظر الصعيدي أن كتب الأشعرية هي السائدة في تدريس العقيدة في الأزهر. (ص ٨٨) ولقد أخذ الصعيدي على علم الكلام “خلط المسائل الدينية العقائدية بالخلافات السياسية الأمر الذي استحالت معه المناظرات والمصاولات إلى معارك دامية فرقت المجتمع المسلم من ناحية، وقضت على حرية الاجتهاد من جهة ثانية” (ص ٨٩ و٩٠) وهذا ما دفعه لوضع قواعد لمنهج عصري نجدد به علم الكلام. وكذلك دعوته لتجديد علم أصول الفقه.
أما في الفقه فقد أسهم الشيخ في تجديده بالدعوة إلى فقه جديد في مجالات معاصرة مثل “أهل الذمة” و “قضايا المرأة” و”الرّق” فدعا إلى تقييد تعدد الزوجات وإلى تقييد الطلاق والاجتهاد في قضايا التصوير والنحت وأموال البنوك (ص١٠٤) ومن الطريف أن يجد المؤلف في مخطوطة للصعيدي بعنوان “في ميدان التجديد” دعوة لإجازة تمثيل قصص الأنبياء، وهو ما يذكرنا بما ورد في رواية نجيب محفوظ “رحلة ابن فطومة”
الفصل الرابع، وهو آخر فصول كتاب “العمامة المستنيرة” عالج فيه المؤلف آراء الشيخ في قضية من أخطر القضايا التي تشغل فكرنا وحياتنا المعاصرة وهي قضية علاقة الدين بالسياسة، وقد عرض المؤلف للنقاش الذي دار حول الخلافة ونظام الحكم في الإسلام في الربع الأول من القرن العشرين وحوله، ثم سأل هذه الأسئلة : ما حدود موقف الصعيدي من قضية علاقة الديني بالسياسي؟ وما موقفه من الخلافة، وشكل الحكم في الإسلام؟ وأخيرا هل آمن الصعيدي بوجود نظرية سياسية في الإسلام؟ (ص ١٣٣)
كتب الشيخ خالد محمد خالد يفند مبدأ الكهانة ويرغّب عن مذهب الإخوان المسلمين وإرهابهم الذي مارسوه قبل ثورة ١٩٥٢ وبعدها، فأخذ عبد المتعال الصعيدي يرد عليه منكرا مبدأ الكهانة أن يكون في الإسلام مثله، فالإسلام لا يرضى بشيء من أحوال الأحبار والرهبان والكهانة، فعلماء الإسلام ليس لهم سلطة استبدادية على النفوس. (ص ١٣٥) وقد كشف المؤلف عما في حجج الشيخ الصعيدي من تناقض، وقال لا يمكن أن نوافق الصعيدي في أن رجال الدين ليس لهم سلطة على العوام، وأنهم لم يكونوا مؤثرين في مسار الحكم والدولة. (ص ١٣٨) ولكن الشيخ قد أكد في كتبه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مات ولم يعين شكلا للحكم لأنه في ذلك حجر على تغير الظروف. وقد استنتج المؤلف من مجمل آراء الشيخ أنه يدعو إلى حكومة دينية دستورية ولكنه أقر بأن الخلافة ليست من ضرورات الدين. (ص١٥٠)
كان الصعيدي وفدي الانتماء وقد توصل المؤلف إلى أن خلاصة فكره السياسي إنما كان يتوافق مع شعار الوفد أن الدين لله والوطن للجميع. (ص١٥٠) وقد كال الشيخ محمد الغزالي الاتهام للشيخ الصعيدي بأنه من المناوئين للإسلام. (ص١٥٦) والخلاصة أن الشيخ الصعيدي كان يفصل نفسه عن النخب العلمانية ويرى أن الحكم في الإسلام أقرب بروحه إلى النظام الجمهوري النيابي. (ص١٦٣)
أرجو أن يسمح لي المؤلف الصديق الدكتور أحمد سالم بأن أنتقد جانبا هينا من كتابه فأقول أنه قد تجاهل حياة الشيخ عبد المتعال الصعيدي تجاهلا تاما، فلم يذكر حتى تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته، وقد شمل هذا التجاهل ذكر بعض التواريخ والتنبيه على السياق التاريخي للأحداث حيث عاش الصعيدي في عصر الاستعمار من ناحية، وفي ظل الحكم المَلَكيّ من ناحية أخرى، وأخيرا عاش آخر عشر سنوات من حياته في ظل الحكم الجديد بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، كما تجاهل المؤلف مسألة في غاية الأهمية، هي تفسير وضبط المصطلحات التي جرت على قلمه عبر صفحات الكتاب ومنها مصطلح “الإصلاح الديني” ومصطلح “التنوير” ومصطلح “الحداثة” وكذلك مصطلح “العلمانية”
وفي نهاية هذا العرض الموجز للكتاب لابد أن نشكر للمؤلف محاولته إحياء فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي صاحب العمامة المستنيرة كما وصفه، فقد نجح في إثراء النقاش حول القضايا التي كتب فيها الشيخ الجليل، وقام بتمهيد نظري عميق، كما قدم مقارنات من فكر الإمام المجدد محمد عبده الذي سار الشيخ على خطاه وزاد عليها، كما احتوى الكتاب على آراء طائفة من المفكرين مثل فرح أنطون وإسماعيل مظهر وسلامة موسى وخالد محمد خالد من الذين ردّ عليهم الصعيدي أو أكمل فكرتهم في حقل التجديد، كما يُشكر للمؤلف محاولته أن يجعل الفكر الفلسفي يمشي في الأسواق وينزل إلى الناس، يشاركهم همومهم وقضاياهم، من أجل الإصلاح ونشر المعرفة والوعي.