رؤى

مُقاربة قرآنية: نقد مقولة “إلغاء الأحكام”.. في آيات “التنزيل الحكيم”

ضمن اِلأمثلة المتعددة التي ذكرها من يقولون بالنسخ، بمعنى المحو والإلغاء، والحذف، من فقهاء القرون الوسطى، في التاريخ الإسلامي، والتي ما تزال مؤثرة في حياتنا الراهنة حتى الآن.. تأتي مسألة “إلغاء الأحكام”، عبر أحكام وردت في آيات أخرى. وينبغي التأكيد هنا، بأن تعبير “فقهاء القرون الوسطى” ليس المقصود به ـ لا سمح الله ـ السخرية؛ بل على العكس، هو مجرد وصف زمني تاريخي، لمقولات ما تزال العقلية التاريخية التي أفرزتها تسيطر على الفهم السائد لآيات التنزيل الحكيم.

والواقع، أن مفهوم النسخ في التنزيل الحكيم لا يعني، ولا يمكن أن يعني، إبطالًا لبعض الآيات أو إسقاطا لها؛ ولكنه -كما قلنا من قبل ونُعيد ونُكررـ مفهوم يؤشر إلى “تدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل من أصل الشيء”.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكان الشيء الأصلي”؛ وهو ما يعني أن مصطلح “النسخ” في التنزيل الحكيم، يُشير إلى المماثلة أو المطابقة، كما نستعملها في وقتنا المعاصر.

لذا، لابد لنا من الاحتكام إلى كتاب الله سبحانه وتعالى.. لنرى، هل من الصحيح أن هناك إلغاء للأحكام، عبر أحكام أخرى؟.

وليكن مدخلنا إلى الإجابة عن هذه التساؤلات، هو تبيان الخطأ الغريب والعجيب، في عدم فهم دلالات ألفاظ القرآن الكريم، لدى هؤلاء الفقهاء، الذين يأخذ البعض عنهم دون تدبر لآيات الله البينات. وسوف نستدل على ذلك، بمحاولة تبيان عدم فهم الكثيرين منهم للفارق بين الإنفاق “التطوعي” وبين الصدقة “الواجبة”، في التنزيل الحكيم من جانب، وبين ما ورد ذكره عن “أموال اليتامى” في القرآن.. من جانب آخر.

أموال اليتامى

يقول البعض بأن الآية [10] من سورة النساء، قد ألغت الحُكم الذي أوردته الآية [6] من نفس السورة؛ ويقولون أن قوله سبحانه “فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ”، قد ألغاه التحذير من أكل أموال اليتامى ظُلمًا.

وبالعودة إلى التنزيل الحكيم، نلاحظ أن الآيتين معًا تؤديان حُكمًا تشريعيًا مترابطًا.. وليس هناك أي إلغاء للحُكم الوارد في الآية [6] بل هو يتكامل مع الحُكم الوارد في الآية [10].

يقول سبحانه: “وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا” [النساء: 6].. ويقول تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا” [النساء: 10].

هنا، لنا أن نلاحظ مدى “الحُمق” في التفكير لدى أولئك القائلين بـ”إلغاء الحُكم”؛ فالآية الأولى [النساء: 6] أباحت “الأكل بالمعروف” للفقير، الذي يكون وصيًا على مال اليتيم: “وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ”؛ بدليل، أن هذا المقطع من الآية قد سبقه مقطع آخر، يأمر من كان “غنيًا” بأن يستعفف: “وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ”.

أما الآية الأخرى [النساء: 10] فقد أضافت حُكمًا تشريعيًا، هو “التحذير” من أكل “أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا”. والآيتان معًا تؤديان حُكمًا تشريعيًا مترابطًا، هو أن الوصي على أموال اليتامى، إن كان غنيًا “فَلْيَسْتَعْفِفْ”، وإن كان فقيرًا فله أن يأكل من هذا المال “بِالْمَعْرُوفِ”، مع التحذير من أكل أموال اليتامى “ظُلْمًا”.

إذن، لا تعارض بين الآيتين.. ولا مجال لادعاء أن إحداهما تلغي حُكم الأخرى.

الصدقة والإنفاق

ويقولون إن الآية [60] من سورة التوبة، قد ألغي حُكمها من خلال آيات متعددة.. مثل: [التوبة: 34]، و[البقرة: 215]، و[المنافقون: 10]، و[الذاريات: 19].

وبالعودة إلى آيات الله البينات، نجد أن القائلين بهكذا رأي، لا يعرفون الفرق الجوهري بين الإنفاق “التطوعي” وبين الصدقة “الواجبة”؛ من حيث المعنى والدلالة، في كتاب الله الكريم..

يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [التوبة: 60].. وهذه الآية -كما يبدو- لا تتحدث عن الصدقة “الطوعية”، أو الإنفاق “التطوعي”، بل هي تتحدث عن “الصدقة الواجبة” بدليل: “التأكيد” في بداية الآية من خلال “إِنَّمَا” هذا فضلًا عن التأكيد القرآني على أن هذه الصدقة “الواجبة” إنما هي “فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ” أي إن ذلك التوزيع المُحدد في الآية لمصارف هذه الصدقة هو “فَرِيضَةً” من الله جل جلاله.. فكيف بالله على أي عاقل أن يتصور، حتى مجرد التصور، أن الحكم الوارد في الآية قد ألغِيّ.

والمفترض، أن هذه الصدقة “الواجبة”، هي تلك التي تجمعها الدولة “المُسلمة”، ويتم إنفاقها في مصارفها المُحددة في الآية؛ فـ”الدولة” هي التي تُحدد المستوى الاقتصادي “لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ”، وهي التي تُنفق على الموظفين “الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا”، أي القائمين على جمعها.. وهي، أيضًا، التي تُقيم أماكن الإيواء لـ”اِبْنِ السَّبِيلِ”.. وغير ذلك، من ما أوردته الآية.

أما الآيات الأخرى، التي قالوا ـ جهلًا وخطأً ـ أنها ألغت الحُكم الوارد في الآية [60] من سورة البقرة، فهي تلك التي تتحدث عن الإنفاق “التطوعي”..

في سورة البقرة، يقول سبحانه وتعالى: “… وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” [البقرة: 219]. ويبدو، من سياق الآية، أن المقصود هنا هو الإنفاق التطوعي، وأن مقدار هذا الإنفاق هو “الْعَفْوَ”، أي الزائد عن الحاجة؛ بما يعني “الاعتدال” في الإنفاق دونما إسراف أو تقتير.. يقول سبحانه: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا” [الفرقان: 67].

وفي سورة البقرة، أيضًا، يقول سبحانه وتعالى: “يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” [البقرة: 215]. ويبدو من سياق الآية أن المقصود هنا هو الإنفاق التطوعي، بدليل “قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ…  وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ…”؛ وأن أحق الناس بهذا الـ”خَيْرٍ”، هم من ذَكَرَتْهُم الآية: “فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ”. ولا يفوتنا هنا، ملاحظة دلالة لفظ “خَيْرٍ” الوارد في سياق الآية، حيث يُرد الـ”خَيْرٍ” الأول إلى الإنفاق “التطوعي”، أما الـ”خَيْرٍ” الثاني فيُرد إلى الفعل “الإنساني” الذي يكون “اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ”.

أما في سورة المنافقون، فيقول سبحانه وتعالى: “وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ” [المنافقون: 10]؛ وهنا، يبدو الحديث عن الإنفاق الطوعي “وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ”، وذلك في أثناء الحياة الدنيا “مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ”.. ثم، يأتي التحذير الإلهي للإنسان، الذي لا يقوم بهذا الإنفاق الطوعي؛ حينئذ “فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ”، وفي هذه اللحظة سيتمنى أن يؤدي الصدقة الواجبة “فَأَصَّدَّقَ”، لكي يكون من الصالحين “وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ”.

وماذا بعد؟..

وبعد.. وباختصار، إن كل الآيات التي تتحدث عن الصدقة الواجبة، والإنفاق الطوعي، يُكمل بعضها بعضًا ولا يُناقض بعضها بعضًا؛ بل، وليس هناك إلغاء لأي حُكم وارد في إحداها عن طريق آية أخرى.. إذ، ليس هناك “عوج” في كتاب الله تعالى، هذا لمن يريدون أن يفهموا ويتدبروا آيات التنزيل الحكيم، حيث يقول سبحانه وتعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا” [الكهف: 1].

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock