منذ منتصف سبعينات القرن العشرين تقريباً ومع التغيير الجوهري الذي شهدته سياسات مصر الخارجية وتراجع دعاوى القومية العربية التي كانت مصر٫ حتى تلك اللحظة على الأقل٫ أبرز دعاتها٫ بدأ يظهر تدريجياً ما يمكن اعتباره تيارًا فكرياً ضد فكرة العروبة من أساسها ويرى أن المصريين “ليسوا عرباً” على الإطلاق.
وفي مقابل دعاوى العروبة الجامعة٫ يطرح هذا التيار فكره “الفرعونية” باعتبارها “هوية مصرية مفتقدة” منذ دخول العرب بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر عام ٦٤٢ ميلاديه وهو الدخول الذي لا يرى فيه هذا التيار سوى “غزواً” ممتداً حتى يومنا هذا.
مصر .. والعروبة
وبعيداً عن أن لفظ “الفرعونية” المزعوم في حد ذاته غير دقيق من الناحية التاريخية، حيث أن المصريين القدماء لم يستخدموا لفظ “فرعون” لوصف حاكمهم، فهذا اللفظ هو تحريف للفظة هيروغليفية “بار- عا” والتي تعني حرفيا “البيت الكبير”، فهي تشير إلى مقر الحكم وليس إلى من يسكنه، وهي أشبه بالإشارة في عصرنا هذا الى البيت الأبيض أو الكرملين أو قصر الإليزيه٫ فإن السؤال الأهم في هذا المجال وفي مواجهة ما يطرحه هذا التيار هو : هل كانت العروبة حقاً امراً مستجداً على مصر؟ هل كانت مجرد دعوة سياسة انتهجها النظام المصري في الستينات؟ وهل كان العرب الذي دخلوا الى مصر مع ابن العاص مجرد غرباء لا يمتون بصلة إلى أرض الكنانة كما يرى هؤلاء؟
من المدهش حقاً أنه وقبل تصاعد نغمة “الفرعونية” هذه في السبعينات٫ تنبه الكاتب مصطفى كامل الشريف الى مدى خطورتها وأشار في كتابه “عروبة مصر من قبائلها” الذي أصدره عام ١٩٦٥ الى هذه النوعية من الدعاوى باعتبارها تهدف الى “عزل مصر عن الوطن العربي” ووصف من يرددون هذه الدعاوى بأنهم “يتجنون على التاريخ ويقلبون الحقائق” وأنهم “دعاة هزيمة وأبواق تفرقة” لأن “عزل مصر ضربة للعرب في كل مكان”.
ويصف الشريف في كتابه عروبة مصر بأنها حقيقة “متألقة كنور الشمس في كبد السماء” موكداً أن مصر عرفت العروبة قبل دخول الاسلام اليها.
وينقل عن عالم التشريح والمصريات الانجليزي جرافتون اليوت سميث قوله إن “العرب المحدثين” يتفقون في ملامحهم مع سكان مصر في عصر ما قبل الأسرات.
أما الكاتب الراحل محمد عزة دروزة فقد اختار “عروبة مصر قبل الإسلام” عنواناً لأحد كتبه ويؤكد فيه ان للعروبة في مصر جذوراً قديمه قبل الاسلام بقرون بل ويذهب الى القول ان عروبه مصر اصفى من عروبة الشام والعراق لأنه لا يوجد في مصر كتل أعجمية العنصر واللغة.
وفي كتابه “العقد الثمين” يرى العالم الأثري المصري الراحل أحمد باشا كمال٫ الذي يذكره التاريخ لاكتشافه خبيئة الدير البحري عام ١٨٨١ أن المصريين القدماء كانوا يطلقون على بلاد اليمن اسم “بون” وكانوا يعتقدون ان اصولهم تعود الى تلك البلاد.
أما نجله الدكتور حسن كمال فذهب في كتابه عن “تاريخ السودان القديم” إلى أن المصريين والسودانيين على حد سواء اصلهم واحد وأنهم حضروا إلى وادي النيل من بلاد العرب عن طريق الصومال.
ويشير كمال إلى ما ذكره المؤرخ ديودور الصقلي من ان اصل المصريين يعود الى “بلاد العرب الجنوبية” وأنهم نزلوا في بداية الأمر شواطئ القارة الافريقية عن طريق إثيوبيا ثم تقدموا نحو شمال القارة ودخلوا مصر.
ويذكر المؤرخ اللبناني- الأمريكي فيليب حتى ان موجة الهجرات السامية الى مصر تعود الى ٣٥٠٠ عام قبل ميلاد السيد المسيح حين انزاحت أقوام من شبه الجزيرة العربية الى شواطئ أفريقيا الشرقية ثم استقرت في مصر.
ويؤكد حتى ايضاً ان هناك تشابهاً بين اللغتين العربيه و المصريه القديمه يسوغ معه ردها إلى اصل واحد.
وهي النتيجة ذاتها التي وصل اليها احمد باشا كمال الذي وضع معجماً ضخماً للغة المصرية القديمة في ٢٢ مجلداً حيث أوضح في محاضرة ألقاها عام ١٩١٤ “إن كثرة مطالعتي في اللغة المصرية القديمة منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري إلى أن بلغت الستين مهّدت لي سبيل الوصول إلى اكتشاف غريب مفيد، ألا وهو أن اللغة العربية واللغة المصرية القديمة من أصل واحد، إن لم يكونا لغة واحدة افترقتا بما دخلهما من القلب والإبدال، كما حصل في كل اللغات القديمة”.
ومن أمثلة الكلمات المصرية القديمة ومرادفاتها من العربية وفقاً لكمال كلمة: حنت، وهي الحنطة، وترا: ذرة، زت: زيت، زدتو: الزيتون.
حقائق تاريخية
وتشير كتابات الرحالة الأجانب إلى ان العرب كانوا يسكنون مصر قبل ظهور الدين الإسلامي٫ حيث ذكر المؤرخ اليوناني استرابون الذي زار مصر في القرن الرابع الميلادي أن مدينة قفط (الواقعة في محافظة قنا حالياً) هي مدينة عربية خالصة لأن نصف سكانها على الاقل يتحدثون اللغه العربية.
ويذكر عباس عمار في كتابه “المدخل الشرقي لمصر” أن الإسلام أتى الى مصر وعلى حدود سيناء وفي نواحيها الشرقيه قبائل عربية مسيحية من “غسان” و”لخم” و”جذام” وأن جيش عمرو بن العاص وجد في حصون سيناء مثل العريش ورفح قوما من العرب المسيحيين كانوا يؤدون حتى تلك اللحظة المال إلى المقوقس حاكم مصر.
وخلاصة القول٫ أن العروبة لم تكن يوماً بالغريبة على أرض مصر٫ فكما يؤكد الجغرافي المصري الجليل الراحل جمال حمدان “لا تعارض ولا استقطاب بين المصرية والعربية، وإنما هما اللُّحمَة والسٌداة في نسيج قومي واحد”.