رؤى

زهرة المدائن (21): القدس.. المستقبل في المنظور الأمريكي

تُرى.. هل نغالي إذا قلنا إننا – نحن العرب – ما زلنا نتعامل مع قضية القدس، في سياق من ردود الأفعال الموسمية، بما يجري داخل مؤسسات صنع القرار الإسرائيلي أو الأمريكي(؟!).

لا نعتقد أن في الأمر أية مغالاة.

لننظر –كمثال– تدليلًا على ذلك، إلى ما حدث بالنسبة إلى صدور أخطر قرارين في ما يخص القدس، عن الكونغرس: أولهما، القرار الذي صدر في أكتوبر 1995، بشأن بقاء القدس مدينة موحدة والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل؛ والثاني، القرار الذي صدر في أكتوبر 2002، بشأن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

بل، إن الأغرب من التعامل بمنطق ردود الأفعال الموسمية؛ أن القرار الأول قد أثار مظاهر الاستنكار والرفض وبيانات الإدانة العربية التي لم تدم طويلا. وعلى العكس من ذلك، فقد مر القرار الثاني مرور الكرام، وهو بمثابة الخطوة الأكثر أهمية في أسلوب تنفيذ القرار الأول.

قرارات الكونغرس

وإذا كان القرار الأخير قد صدر متأخرا عن موعده بما يزيد عن ثلاث سنوات، إذ إن القرار الأول كان قد ألزم الحكومة الأمريكية، في موعد أقصاه 31 مايو 1999.. إلا أنه رغم كل شيء، قد صدر في وقت نعلم جميعا كم تمثل لنا –نحن العرب– المرحلة التي تشمله، من احتمالات شتى.

ولأن هذه الاحتمالات تتعلق بالمستقبل، ذلك الغائب من زمن، القادم بعد حين؛ ولأن قرار الكونغرس إياه، بشأن “بقاء القدس مدينة موحدة والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل”، يتعلق بمستقبل واحدة من أهم القضايا، التي لابد وأن تؤثر على العرب ومستقبلهم.. لذا فإن قراءة في النص الكامل لهذا القرار يمكن أن تشير إلى مستقبل المدينة المقدسة، أو ملامح هذا المستقبل، في المنظور الأمريكي، على الأقل.

ولعل قولنا الأخير هذا يعود في ما يعود إليه، إلى الأهمية والمكانة التي يتمتع بها الكونغرس في الحياة السياسية الأمريكية، بل وفي صنع التأثير على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية. يتبدى ذلك بوضوح، إذا لاحظنا أن مكانة الكونغرس وأهمية قراراته، إنما ترجع إلى أن سلطاته آخذة في التزايد؛ بل إن أي قرار أو قانون يصدر عن الكونغرس، يصبح قانونا واجب النفاذ في كل الولايات المتحدة، وملزما للسلطة التنفيذية، وعلى رأسها الرئيس.

في هذا السياق يمكن مقاربة قرار الكونغرس المشار إليه.

مغالطات تاريخية

إن أول ما يواجهنا في هذه المقاربة، هو تلك المزاعم والمغالطات التي لا سند لها من التاريخ أو من الواقع؛ كي  يكون هناك مبررا لصدور القانون.

لقد جاءت هذه المغالطات وتلك المزاعم، في ديباجة القانون، في ستة عشرة  نقطة، وجاءت تحت عنوان: “نتائج توصل إليها الكونغرس”.. أهمها ما يلي:

ـ إن لكل دولة ذات سيادة وطبقا للقانون الدولي، أن تحدد عاصمتها.

ـ إن مدينة القدس هي المركز الروحي لليهودية.

ـ إنه ومنذ العام 1948، وحتى العام 1967، كانت القدس مدينة مقسمة، وكان المواطنون الإسرائيليون من كل المعتقدات، بالإضافة إلى المواطنين اليهود من كل الدول، لا يسمح لهم الدخول إلى الأماكن المقدسة التي كانت تحت سيطرة الأردن.

ـ إنه في عام 1967، تم إعادة توحيد مدينة القدس أثناء صراع ما عرف بحرب الأيام الستة.

ـ إن هذا العام (1995)، يعتبر العام الثامن والعشرين على التوالي، والذي يشهد أن القدس كانت ولا تزال تدار كمدينة موحدة، وتحترم وتؤمن فيها حرية الجميع من الأديان المختلفة.

ـ أنه في العام 1990، تبنى الكونغرس وبالإجماع قرار مجلس الشيوخ رقم “106” الذي يعلن أن الكونغرس “يؤمن بشدة أن القدس ينبغي أن تبقى غير مقسمة”.

ـ إن الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بسفارة لها في العاصمة الفعلية لكل دولة، فيما عدا حالة هذه الدولة الصديقة التي تتمتع بالديمقراطية، والتي تعد الحليف الاستراتيجي وهي دولة إسرائيل.

ـ إنه في عام 1996، ستحتفل إسرائيل بمرور ثلاثة آلاف عام على الوجود اليهودي في القدس، أي منذ دخول الملك داود القدس.

هذه هي أهم النقاط الستة عشر الواردة في ديباجة قرار الكونغرس..

وأمام مثل هذه المغالطات التاريخية والقانونية والسياسية، لا يسع المرء إلا الرد عليها.

القانون الدولي

ويكفينا هنا أن نشير إلى المغالطة الكبرى، التي يستهل بها القرار ديباجته.

إذ، كيف ينبني قرار مثل قرار الكونغرس هذا على مغالطة مفادها “أن إسرائيل لها أن تحدد عاصمتها بحكم القانون الدولي والأعراف الدولية”.. في حين أن أية دولة أيا كانت بحكم القانون الدولي والأعراف الدولية أيضا لا تملك أن تقيم عاصمة لها على أرض محتلة، تخضع لقانون الاحتلال العسكري.

أضف إلى ذلك، أنه إذا كان الاعتراف الدولي بالعاصمة، هو الذي يضفي المشروعية عليها.. فإن القدس كـ”عاصمة لإسرائيل”، لم تنل سوى اعتراف دولتين فقط من بين “190” دولة في عالمنا المعاصر، وهما: كوستاريكا والسفادور، اللتان أقدمتا علي هذه الخطوة (في عام 1985)، في ظروف غامضة ومبهمة.

مغالطة عقائدية

ثم، يأتي المثال الآخر، على ما تتضمنه ديباجة قرار الكونغرس بنقاطها الستة عشر..

هذا المثال، هو المغالطة العقائدية التي مفادها أن القدس هي المركز الروحي لليهود. وهكذا، ارتأى الكونغرس أن يقصر دور المدينة المقدسة، كـ”مركز روحي”، على اليهودية وحدها، دون سواها من الأديان السماوية؛ وأن يجعل من إسرائيل دون سواها، حامية الأماكن المقدسة، وحامية معتنقي الأديان المختلفة الذين يودون الدخول إلى مدينة القدس.

والواقع، أن وقائع وأحداث أكثر من خمسة عقود، من الاحتلال الإسرائيلي للقدس، وإن كانت كافية وتزيد، للرد على مغالطات الكونغرس التي أوردها في ديباجة قراره، وكأنها نتائج مسلمٌ بها؛ فإن الحقائق التي جرت على أرض القدس، تلك التي تكتسب مرجعيتها من مختلف المواثيق والقرارات الدولية، لهي أكثر من كافية في الرد المطلوب.

ولا عجب، والحال هذه، أن يعجز الكونغرس الأمريكي عن الإشارة إلى أية وثيقة دولية تعزز ـ من قريب أو بعيد ـ من المزاعم والادعاءات الإسرائيلية التي سجلها بكل “أمانة” في ديباجة ومتن قراره.

وهنا، لابد من الإشارة إلى مدى الخطورة في قرار الكونغرس هذا، تلك التي لا تتوقف عند حدود المغالطات والمزاعم إياها؛ كما لا تتوقف أيضا عند حدود ما يمثله من دعوة أمريكية، واضحة وصريحة، لكافة الدول التي لها سفارات في تل أبيب بنقلها إلى القدس، سواء بمبادرة من هذه الدول، أو نتيجة للضغوط الأمريكية عليها.. ولكن إضافة إلى هذا وذاك، تنبع خطورة مثل هذا القرار في كونه قد أصبح قانونا واجب التنفيذ من قبل السلطة التنفيذية (الرئيس)، في الولايات المتحدة الأمريكية… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock