رؤى

من لم يتمصر تكلثم أو تأزهر في حب النداهة.. المتمصرون (1) ماسبيرو الذي تكلم

من لم يتمصر (تكلثم أي عشق صوت كوكب الشرق أم كلثوم ) أو (تأزهر أي تعلم في الأزهر) مصر هذا الكائن الحي الذي ليس له مثيل ، وصفها يوسف أدريس بالنداهه، علي تلة المقطم وقف محمد بك الألفي يبكي بقصيدة عشق تذيب القلوب سنتعرض لها في حلقة خاصة عنه ، ثم إبراهيم باشا قائد الجيش المصري الذي كتب قصيدة حب في المصريين هي وثيقة خالدة سنعرضها في حلقة عنه ، تسير في شوارع مصر تحب نيللي الفتاة الأرمنية  شديدة المصرية ، تري سعيد حامد المخرج القدير السوداني المصري ،   وربما يبرز في هذا الصدد  العالم  الفرنسي «ماسبيرو» كأحد أبرز المغرمين   بحب علم المصريات .. ها هو ماسبيرو يثور ويعترض علي قرار فرنسا بـ«فرض الرقابة علي المكتبات العامة» ما أدى إلى تعليق تعيينه ورفاقه إلي أن يتراجعوا عن مواقفهم، لكن «ماسبيرو» رفض التراجع حتى وإن كان الثمن ألا يحصل علي شهادة بارزة قائلا: «لن أبدأ حياتي بمثل هذا الموقف الجبان»،في 1869،  وكان عشق مصر طريق خلاص  له ـ،،،،،، فتم اختياره من قبل بروفيسور الأركيولوجي واللغة المصرية القديمة، إيمانويل روجيه، ليكون معيدا في المدرسة العملية للدراسات العليا، وأوكل إليه «مارييت» مناقشة أول رسالة دكتوراه في فرنسا بجامعة «السوربون» الفرنسية، في علم المصريات «إيجبتولوجي»

تعذيب لصوص الآثار بداية مجد ماسبيرو

 ثم جاء  ماسبيرو  إلى مصر ويكون أول من فرض مقابلا لمشاهدة المناطق الأثرية  لمواجهة النفقات التي يحتاجها للتنقيب وأعمال الصيانة في عام 1881، ثم  قبض «ماسبيرو» على عائلة عبد الرسول، وهم أشهر تجار الآثارفي ذلك الزمن ، وأجبرهم بعد التعذيب على الاعتراف بالسرقات، وحصل منهم على معلومات عن أحد أهم اكتشافات ماسبيرو وهى مكان لا يعرفه أحد في الدير البحري عثر فيها على مومياوات الملوك سقنن رع، وأحمس الأول، وتحتمس الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، وأطلق اسم ماسبيرو على مبنى الإذاعة والتلفزيون بالقاهرة، تكريما لأعماله الجليلة ومساهماته في البحث والمحافظة على الآثار المصرية القديمة، وسُجل وجوده في السينما المصرية في فيلم  «المومياء» للمخرج شادي عبد السلام. هكذا دخل التاريخ بفضل عشقه مصر التي ردت له الحب بحب ، عالم الآثار الذي كان يعمل تحت إمرته خمسون  ألف موظف منذ 5 يناير 1881، وكان ذلك قبل وفاة «مارييت» بعدة أيام ، وتولى منصب مدير دار الآثار القديمة «الأنتكخانة»، وأقام فيها أول مطبعة هيروغليفية، وعربية، بمرتب ألف جنيه سنويا، وعمل أيضا أميناً للمتحف المصري للآثار ببولاق، وكان عمره حينها خمسة وثلاثين  عاما.

المتحف المصري للأثار في بولاق
المتحف المصري للأثار في بولاق

أسرار كشف كنوز مصر

جاء في كتاب  ماجدة الجندي  “زوجتي الغالية.. الصغيرة” رسائل ماسبيرو لزوجته، يعرض لنا لأول مرة جوانب من الحياة الثقافية والعاطفية لعالم الآثار الشهير جاستون ماسبيرو والذي قضي في مصر عشرين عاما, أزاح خلالها الغبار عن الكثير من آثارنا في سقارة, وتولي إدارة متحف بولاق في أوائل القرن الماضي والذي كان القاعدة التي اعتمد عليها انشاء المتحف المصري الحالي, ثم انشأ المعهد الفرنسي للآثار بالقاهرة، وكما كان عاشقا محبا لزوجته فقد كان مسكونا بحبه لمصر ونيلها وآثارها. وقد أبدعت ماجدة الجندي في سرد قصة عاشق لمصر ولو لم يكن مصرياً فهو متمصر جميل معه  مفتاح لكنز من تاريخ مصر.

حضر ماسبيرو للعمل في مصر فأقام فيها نحو عشرين عاما ولكن علي فترتين.. الفترة الاولي من1881 إلي1886 والثانية من1899 الي1914 وكان من الطبيعي أن ترافقه زوجته- وهي الزوجة الثانية له بعد وفاة زوجته الاولي-

وبالفعل كانت لويز اليستورنال- وهذا هو اسمها- تقيم معه باستثناء اشهر محدودة. كان هو يبدأ ما يشبه الاجازة التي يقضيها في فرنسا مع بداية شهر يوليو ويعود مع أول اكتوبر, لكن الزوجة كانت تسبقه بشهر فتسافر مع اول يونيو ولا تعود إلا مع أواخر نوفمبر. فإذا اضفنا للاشهر الثلاثة التي لا يكونان معا فيها اضطرارها في احيان متفرقة الي مد إقامتها في فرنسا لاسباب تتعلق بالصحة او انتظار ميلاد طفل, عثرنا علي الدوافع التي ادت الي تبادل الرسائل بين الزوجين بمعدل مرتين إلي ثلاث مرات أسبوعيا.

ماسبيرو أمام أحد المومياوات
ماسبيرو أمام أحد المومياوات

خطابات الزوج, تم جمعها واصدارها في كتاب حققته اليزابث ديفيد وقدم له روبير سوليه وصدر عن دار السوي الفرنسية لنكون أمام شهادة تكشف ما كان يدور في كواليس حفريات الآثار في تلك الحقبة, وثنايا البلاط الخديوي, والنزاع الفرنسي/ الانجليزي علي الكعكة المصرية والحياة اليومية كما يراها شاهد فرنسي وايضا الحياة اليومية لفرنسي يعيش في القاهرة.

أول خطاب أرسله  ماسبيروالي لويز كان مؤرخا في26 نوفمبر1883 والأخير كان في3 اغسطس1914 وما بين الخطابين مزيج فريد من حميمية زوج.. وتاريخ بلد, تفاصيل صغيرة من الحزن والفرح حتي ليتعجب القاريء من أين يأتي بكل هذا الصبر علي المداومة والكتابة ثلاث مرات اسبوعيا بمنتهي النظام والانتظام فإن تخلف فإما لأن المركب التي يسافر الخطاب عليها قد تعطلت أو أن ظرفا قاهرا منعه.

الخطاب الغامض

 أمور مهمة وعلامات استفهام  كثيرة حول كثير من خطابات ماسبيرو ..  ، علي كل حال جاء في أحد خطاباته: وصلت الاربعاء في السابعة صباحا إلي ميناء الاسكندرية وفي العاشرة اتجهت للقاهرة.. وفي الثالثة كان احمد افندي كمال في انتظاري مع خورشيد افندي.. وهيرفيه ( أخ غير شقيق لماسبيرو لحق به في مصر واشتغل ايضا في الآثار) الذي اعد لنا غذاء فاخرا…. لم التق بعد الخديو..الخديوي مشغول للغاية في مشاكل السودان (المقصود الخديوي توفيق) وسوف يعلمونني بموعدي معه..والآن كيف حالك في وحدتك..؟ لم أحظ بلحظة سكينة واحدة منذ افترقنا.. اعتمدي علي الاصدقاء المشتركين في التسرية عنك وفي ان تصبح امسياتك اكثر بهجة. أحمل هم قضائك الليل وحيدة, العوامة غير مبهجة بدون قبطانها.. يقصد العوامة المنشية التي سكنها مع زوجته لسنوات.

هنا يؤمن ماسبيرو أن مصر منحته  المجد فهو لاينسي تاريخ ميلاده  في باريس لأب غير معروف, لكن المؤكد أن ماركو كاميللو مارسوزي تولي تربيته وتعليمه, وها هو  الفتي ماسبيرو سوف يكلل رأسه بالفخر المصري ، ولسوف تبقي تلك السلوي ادمانا مصاحبا لماسبيرو حتي وفاته, فهو رجل لا يهدأ ما بين الدرس والوظيفة والكشف الأثري والإدارة, وحتي حين يسترق السمع لنبضات قلبه أو يفتحه من جديد, يفعل ذلك في ظل ذلك الكد المستمر والعمل… يمكننا  ان ماسبيرو  صعد كأستاذ كرسي الآثار المصرية وهو بعد لم يتجاوز السادسة والعشرين.

https://www.youtube.com/watch?v=ehIh_lsFQ9w&

فيلم وثائقي عن جاستون ماسبيرو

إكتشاف مصر الدم واللحم والحضارة

في تلك الفترة كان الحضور الفرنسي في مصر ملحوظا سواء في القاهرة أو الاسكندرية, وكان من السهل أن يأتي فرنسيون, ويقيمون أو يزورون القاهرة أو الاسكندرية لوجود رحلات بحرية منظمة فماذا كان يحول دون زيارة مصر بالنسبة لماسبيرو وهو الذي قرر نذر نفسه لتاريخها وحضارتها.

الحقيقة أن ماسبيرو لم يكن عالم المصريات الوحيد الذي عشق مصر وتخصص فيها قبل أن تطأ قدماه أرضها، فعلماء الايجبتولوجي من جيله كانوا علي نفس المنوال أو علي الأقل أغلبهم، بالنسبة لماسبيرو كان حادث وفاة زوجته  الأولى وتركها لطفلين في رعايته, إضافة لولعه بالعمل عائقا حقيقيا يحول دون سفره, كما أن انشغاله بتأليف واحد من أهم كتبه “التاريخ القديم لشعوب الشرق” مبررا معقولا لتأخر سفره.

لم يكتشف ماسبيرو مصر اللحم والدم إلا عام1881, وجاء ذلك تحت وطأة ملحة وبطلب من الحكومة الفرنسية .. فأوجست مارييت أول رئيس لإدارة الآثار أو لهيئة الآثار يعاني من مرض الموت, وإذا لم تعد فرنسا عدتها وترتب من سوف يخلفه, فإن فرنسا سوف تفقد مساحة من نفوذها في مصر, في لحظة شديدة التوتر والحساسية بل والتنازع بينها وبين انجلترا علي مصر, من هنا ولدت استراتيجية فرنسية جديدة, تضمن استمرار اليد الطولي لفرنسا في قطاع الآثار.. لماذا لا تنشئ فرنسا مدرسة أثرية للحفريات يكون مقرها القاهرة علي غرار مدرسة روما الموجودة في أثينا. في حال حدوث ذلك سوف تضمن فرنسا إعداد جيل من علماء المصريات لا يكتفي فقط بالعلم النظري, لكنه سوف يمارس ما يتعلمه عمليا, وبدا ماسبيرو أستاذ الكولاج دي فرانس الأكثر ملاءمة لمثل هذه المهمة, فمن بإمكانه تأسيس مثل هذه المدرسة غير ماسبيرو.

وهكذا وجد ماسبيرو نفسه أمام فرصة كبيرة، فلم يكن بإمكانه أبدا أن يتردد أمام: السفر إلي مصر واستلام مهمة إدارة الآثار المصرية من أوجست مارييت قبل أن يُسلم روحه فيسلب الإنجليز الكرسي من فرنسا, و إدارة متحف بولاق( الذي هو نواة المتحف المصري) وثالثا البدء في انشاء مدرسة الحفريات والآثار المصرية والتي سوف تصبح فيما بعد معهد الآثار الفرنسية الذي تعرفه ومقره منطقة المنيرة حاليا.

جاستون ماسبيرو بالملابس المصرية
جاستون ماسبيرو بالملابس المصرية

أما في البداية عندما جاء ماسبيرو للقاهرة فقد كان أول مقار هذا المعهد الفرنسي مبني تملكه الداية التي كانت مسئولة عن الولادات في الأسرة أو حريم الخديوية.. أما ماسبيرو نفسه فقد اختار الحياة فوق عوامة علي حافة النيل وهي المعروفة باسم المنشية وهي إحدي ممتلكات ادارة خدمة الآثار, ونفس هذه العوامة التي وصفها إرنست رينان الايجبتولوجي بأنها جنة الله علي الأرض. وكما تقول الحكمة «لكل قادم دهشة»‏..‏ ودهشة «ماسبيرو» بكل ما هو مصري قديم  جعلته يُفني نفسه في ترابها، ليخلد اسمه واسم مصر قبله بما حققه من اكتشافات سجلها له التاريخ.

خطاب العشق من ماسبيرو للمصريين

كأنه  يخطب ويقول أيها المصريون: أنا “جاستون ماسبيرو..وها هي حكايتي مع الأبصار والعقول وقد التصقت بى أحداث جسام وأسماء لشخصيات دخلت التاريخ عن استحقاق، لم يدر بخلدى- عندما جئت إلى مصر فى القرن التاسع عشر لأعمل فى مجال عشقى “المصريات” أن يطلقوا اسمى “ماسبيرو” على مبنى الإذاعة والتليفزيون، أنا العاشق  الأديب الصغير الذى فاز فى المسابقة العامة للأدب وأنا فى الثالثة عشر من عمرى- لم يدر بخلدى أن الإنسانيات التى يتضمنها الأدب فى كل زمان ومكان قد تنهار أحياناً- بفعل اللا إنسانيين- ونحن اليوم فى ملء الزمان،

 صدقونى قد تسطر صفحة سوداء فى تاريخ الشعوب بفعل الهدم الكاره لأى بناء إنسانى وحضارى، أيها المصريون: أنا “جاستون ماسبيرو”- أعلم علم اليقين أنكم لازلتم شعباً خيراً طيب القلب، فقد عشت بينكم  سنين كثيرة أدركت فيها من هو المصرى بحق والذي يحب مصر الحبيبة.

عالم الآثار جاستون ماسبيرو في حجرة الدفن بهرم سقارة التابعة للملك أوناس في
عالم الآثار جاستون ماسبيرو في حجرة الدفن بهرم سقارة التابعة للملك أوناس في

واصل ماسبيرو حفائر مارييت في معبدى إدفو وأبيدوس، كما استكمل أعمال مارييت في إزالة الرمال عن أبو الهول بالجيزة حيث أزال عنه أكثر من عشرين  مترا من الرمال محاولا إيجاد مقابر تحته ولكن لم يجد ولكن حديثا عثر على عدد من المقابر في أماكن الحفر التي كان ينقب فيها ماسبيرو، وقام بإعادة ترتيب المتحف المصري ببولاق ونقل محتوياته إلى متحف القاهرة الحالى، كما اكتشفت في عهده خبيئة بالكرنك تحتوى على مئات التماثيل المنتمية لعصور مختلفة ونشر دراسات أثرية عديدة .

قام ماسبيرو بنشاط كبير لمواجهة السرقات التي كانت تحدث للآثار المصرية القديمة، وقام بمساعدة العالم المصري أحمد كمال بك بنقل المئات من الموميات والآثار المنهوبة إلى المتحف المصري بالقاهرة، واستطاع أن يسن قانوناً جديداً صدر عام 1912م ينص على أن لا يسمح للأشخاص بالتنقيب ويقتصر التنقيب فقط على البعثات العلمية بعد الموافقة على مشروعها، ولم يصبح من حق الحفارين الحصول على نصف ما يعثرون عليه لكنهم يحصلون فقط على القطع التي لها مثيل مكرر بمتحف القاهرة، ولا يمنح القائم على الحفائر تأشيرة خروج من مصر إلا في حالة تركه الموقع الأثرى في صورة مُرضية، مما أثار عليه غيظ وحقد المهربين الأجانب وتجار الآثار، وكانت هناك أحتكاكات ومنافسات بين الإنجليز الذين كانوا يحتلون مصر وبين الفرنسيين الذين كانوا يهيمنوا على إدارة الآثار المصرية فكانت نتيجة هذه الأحتكاكات الأنجليزية أن قدم ماسبيرو استقالته  ولكن ممثل فرنسا في مصر طالب بعودته وعاد فعلا إلى مصر ،وبعد عودته قام  بتعيين هوارد كارتر كبير مفتشي الآثار في مصر العليا،

عاد ماسبيرو إلى باريس عام 1914 ، لكنه ترك كنزه كتاب  “تاريخ أمم الشرق” القديم .

تاريخ المشرقدرر حكايات الغناء في الصعيد

 قال ماسبيرو  في كتاب آخر نادر له حول الأغاني الشعبية في مصر يثبت فيه أن عشقه للمحبوبه بهيه مختلفاً فقال: يغني الشعب كثيرا في مصر ، في المنزل و في الاحتفالات الخاصة، في الحقول و على ضفاف نهر النيل والاحتفالات العامة ، ولقد حاولت أن أجمع بعض هذه الأغنيات التي كنت قد سمعتها إبان إقامتي الأولى في مصر ما بين عامي ( 1881 – 1886 م ) ، و لكني أخفقت ؛ فليس هناك أصعب بالنسبة للأجنبي من أن يفهم تلك الكلمات التي يطلقها- في عنان الفضاء – الفلاحون على الشادوف أو على السواقي ، أو التي ترسلها حناجر المغنين المحترفين في قوة ، أو في رتابة حينا ، و بصوت كأنه صادر من الأنف أحيانا أخرى ، و منذ أول رحلة تفتيشية قمت بها بعد عودتي في يناير عام 1900 م عدت إلى فكرتي السابقة ، واستعنت بخدمات سكرتيري المصري الذي اصطحبته معي ، ولكنني واجهت مصاعب لم تكن في الحسبان ، فقد كان الرجل يفهم ما يسمعه جيدا و وافق أن يعيده على مسامعي ، إلا أنه رفض أن يكتبه وكنت إذا اضطررته إلى كتابته شوهه وكان من الأسباب التي رفض من أجلها إعطائي النص الصحيح هو استخدام العامية المطلقة لبعض الكلمات ، و عدم تمكنه من قواعد النحو ، و بذاءة بعض الأفكار بالإضافة إلى الأخطاء الموجودة في الأبيات أو في وزنها فاستغنيت عن خدماته بعد تجربة أو تجربتين .

و من ناحية أخرى ؛ فلقد كان من المستحيل عليّ لقصر المدة التي كنت أمكثها في ناحية من النواحي أن أقنع الفلاحين أنفسهم أو المغنين المحترفين بإملائي – أو على الأقل – بترديد كلمات أغنياتهم أمامي ببطء ؛ إذ رفض البعض ذلك بدافع من بلاهة ! أو خجل لاعتقادهم أني سوف أهزأ بهم ، أما البعض الآخر فقد كانوا يخشون أن أتخلى عن مساعدتهم أو أن أتوقف عن مدهم بالمال عندما أحصل على ما أريد ،

وهكذا مرت أربع سنوات دون أن أتوصل إلى نتائج ذات قيمة، وفي عام 1903 م حصلت على سكرتير جديد من أصل سوري يدعى نصري نصر كان قد تعلم في مدارس اليسوعيين و أظهر استعدادا أكثر – من سابقه – على تفهم أهمية دراستي و على مساعدتي في متابعتها و كان علينا أن نستخدم لقيادة ” الدهبية ” التي تقلنا أحد ” المراكبية ” المعروفين بإجادتهم للغناء و معرفتهم لعدد كبير من الأغاني – دون أن يكون الرجل محترفا – وذلك لكي يرفه عن المجموعة و ليخفف من ملل الساعات الطويلة التي كان علينا أن نقضيها كل يوم فوق سطح الماء .

الأغاني الشعبية في صعيد مصروقد رجوت السيد” نصري ” في أن يدون كل ما يردده المغني لمدة عام 1903- 1904 م ، وقد كان في بادئ الأمر يتردد في كتابة بعض المقاطع المحتوية على أخطاء لغوية أو يحاول تصحيح بعض الألفاظ أو أوزان الأشعار ، ولكن بعد أن أفهمته وجهة نظري جعل من واجبه أن يتوخى منتهى الدقة في تدوين ما يسمعه كما هو و بنفس اللهجة التي ينطق بها.

وكان أن قدم إليّ نصوص أكثر من مائتي مقطع ( أغنية ) وهو يعد – على ما أعتقد – مجموع ما يغنيه ” المراكبية ” في النيل.

وفي أثناء متابعتي لأغاني النيل كان هناك اثنان من المفتشين المحليين يجمعون لي الأغاني من المناطق المختلفة ، و أذكر على سبيل الذكر السيد / محمود ( أفندي ) رشدي ؛ الذي جمع لي مجموعة كبيرة من الأغاني التي يغنيها المسلمون ليس في أسفل” طيبة” فحسب ؛ ولكن في مناطق رئيسية من الصعيد حتى البلينا .

والسيد / توفيق بولس ، مفتش آثار المنيا و أسيوط الذي جمع بعض الأغاني من مدينة أسيوط و أضاف إليها بعض الأغاني الخاصة بالمسيحيين ، و كانت حصيلته لا تتعدى عشرين قطعة وهو عدد أعتقد انه لا يفي بإعطاء صورة كاملة لهذه المناطق التي تعد من أغنى المناطق في الصعيد و أكثرها سكاناً .

و إنني أرجو أن يأتي بعدي من يحاول أن يكمل هذا العمل الذي بدأته و أن ينفذ ولو جزءا صغيرا من هذا الأدب الشعبي المهمل حتى ذلك الحين .

ولقد كان عليَّ أن أسرع في تلك المحاولة فمصر تتطور بسرعة كبيرة و كثير من العادات التي كانت منتشرة أثناء زيارتي الأولى قد اختفت أو هي في سبيلها إلى الاختفاء بأغانيها المصاحبة لها.

جاستون ماسبيرو أمام احد المعابد المصرية
جاستون ماسبيرو أمام احد المعابد المصرية

و يجب أن أذكر السيد / Baraize و هو فرنسي يعمل بمصلحة الآثار ، فقد تكرم بكتابة بعض الأغنيات التي كان يرددها العمال أثناء قيامهم بالحفر أو بترميم بعض المعابد وهي تعد من أهم ما قدمته في هذه المجموعة من الأغاني ..و كثير من الأغاني التي أقدمها في هذه المجموعة ألفها شعراء المدن ولم تكن شعبية في نشأتها ولكنها أصبحت كذلك بواسطة المغنين المحترفين ، وهذا حال كثير من الأغاني التي جمعها السيد / نصري .

أما الأغاني الأخرى ؛ وهي أغاني الأفراح والحج و ألعاب الأطفال و أغاني العمل في الحقل و البكائيات فهي جميعا نابعة من الشعب نفسه ؛ فنحن نلاحظ أنه بمقارنة هذه الأغاني بغيرها فإننا سنجد أن المجموعة الثانية تتميز بألفاظها الخشنة و وزنها العنيف .

عاد ماسبيرو إلى باريس عام 1914م وعين في منصب المستشار الدائم لأكاديمية الفنون والآداب ورحل جاستون ماسبيرو في 30 يونيو عام 1916 ودفن في فرنسا ومازل قلبه في مصر مثل سوزان طه حسين وتلك قصة آخري تستحق النشر عن المتمصرين عشاق مصر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock