عرض وترجمة: أحمد بركات
أظهر المنع المتكرر لبيان مجلس الأمن بالأمم المتحدة حول القصف الإسرائيلي لغزة أن الدعم الأميركي للتعددية لا يتعدى تلك المجالات التي يكون فيها بقية العالم مستعدا للاصطفاف مع المصالح والامتيازات الأميركية.
ويشير الموقف الأميركي من أفغانستان وإسرائيل، ومن القوى المنافسة، مثل الصين وروسيا، والقوة المتصارعة مثل إيران وكوريا الشمالية، إلى أن مزاعم تبني الولايات المتحدة توجها جديدا في السياسة الخارجية في عهد إدارة الرئيس جو بايدن، لا يتعدى العبارات الرنانة والدعاوى الجوفاء.
لقد مارست الأصوات التقدمية ضغوطا هائلة على بايدن على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية، وقامت جماعات، مثل “حياة السود مهمة” و”الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا” و”التحالف الشعبي للعدالة العالمية” وغيرها، بربط أجنداتها بالداخل والخارج على السواء.
كما استنكر نشطاء العدالة العرقية السلطة الشرطية والممارسات التمييزية للدولة ليس فقط في المدن الأميركية، وإنما أيضا في الخارج، وضمًنوا إسرائيل صراحة في انتقاداتهم.
إلى جانب ذلك، ركز النشطاء على قضايا مثل التغير المناخي وكبح جماح الشركات، وغيرها من القضايا التي تقدر بشكل ملحوظ البعد العالمي في هذه التحديات.
ولكن، بينما حازت الإدارة الأميركية الإشادة بشأن تعاملها مع القضايا العرقية والاقتصادية من رموز اليسار، مثل النائب جمال بومان وروبرت رايش، إلا أنه عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية فإن الوضع يختلف تماما، حيث لم تبد قيادة الحزب، في صورتها الحالية، سوى قليل من الاهتمام في إعادة التفكير، ناهيك عن تغيير فرضيات السياسة الخارجية بشكل جذري.
يعود ذلك جزئيا إلى أن الرئيس بايدن أحاط نفسه برموز مؤسسية، فوزير خارجيته، أنتوني بلينكن، كان ضمن فريق العمل في وزارة الخارجية في إدارتي كلينتون وأوباما. وفي ولاية الرئيس بوش، عمل بلينكن كمدير ديمقراطي للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، التي كانت تشرف على مصادقة الكونغرس على حرب العراق.
من جانبه، عمل جاك سوليفان، مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس بايدن، وضمن فريق البيت الأبيض في ولاية أوباما، وكان أحد العناصر المحورية في حملة هيلاري كلينتون الانتخابية في انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016.
كما لعب الرجلان، بلينكن وسوليفان، دورا محوريا في تشكيل مقاربة ديمقراطية تدخلية معيبة تجاه الشرق الأوسط.
على الجانب الآخر، بينما مارس بيرني ساندرز تأثيرا حقيقيا في القضايا المحلية، ورحب بايدن بموظفي حملة إليزابيث وارين في إدارته، بما في ذلك كثير من النساء والملونين، افتقد صعيد السياسة الخارجية هذا التغيير الذي اقتصر فقط على الحرس الداخلي.
هناك، لا شك، مجموعة كبيرة من خبراء العلاقات الإقليمية والخارجية اليساريين، ويكتب هؤلاء لمجلة “فورين أفيرز”، ولصحيفة “نيويورك تايمز”، لكنهم يظلون منتسبين إلى الوسط الأكاديمي، وبعيدين عن دولاب العمل في مجال السياسة الخارجية، الذي يظل العمل فيه قاصرا بدرجة كبيرة على دوائر الوسط.
وقد فشلت في واقع الأمر جميع الضغوط لتعيين النسبة القليلة التي حصلت على اعتراف من قبل “بلتواي”، وتمكنت من تمييز نفسها عن كتلة الكُتاب الأكاديميين، مثل مات دوس، مستشار ساندرز، ما أفضى في نهاية المطاف إلى مستوى متوقع من التفكير الجماعي.
والحقيقة أن نقص أصوات السياسة الخارجية التقدمية في إدارة الرئيس بايدن يمثل علامة دامغة على مشكلة أعمق تواجهها الولايات المتحدة، وهي مشكلة واضحة تماما في مقاربة ’البقاء على الطريق‘ التي ينتهجها الرئيس بايدن تجاه إسرائيل.
ومثلما يُنظر اليوم ـ على نحو صائب ـ إلى الافتراضات المحلية الماضية القائمة على التقشف والسجن الجماعي على أنها مفلسة، فإنه يُتوقع أيضا أن تواجه الحكمة التقليدية في السياسة الخارجية المصير ذاته.
لقد ساعدت حالة الإرهاق الشعبي على تأجيج صعود ترمب إلى سدة الحكم الأميركي. وإذا اتبعت إدارة بايدن تحولات تكتيكية، أو ركزت على أولويات جديدة، مثل التغير المناخي، فقد تغير بعض الديناميات. رغم ذلك، لن يؤدي هذا وحده إلى تغيير الإجماع القديم.
يثير هذا تساؤلا حول الأسباب التي جعلت الأميركيون يرون مزيدا من الحراك على الصعيد المحلي، وحول احتمالية التغيير في السياسة الخارجية.
على المستوى المحلي، جعل صعود ترمب، واستجاباته لحركات العدالة العرقية، إنكار التمييز المستمر والهيكلي أمرا مستحيلا، حتى على الديمقراطيين الوسطيين. وآمن الديمقراطيون أيضا بأن استجابة أوباما للأزمة المالية العالمية كانت قاصرة، خاصة وأن الوباء جعل اتباع نهج أكثر قوة ضرورة وجودية.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، فإن الجدل المحتدم بشأن عنف الدولة الإسرائيلية يمكن أن يفرض بالمثل معادلة جديدة حول الطريقة التي تعمل بها الولايات المتحدة في العالم. وسواء غيرت إدارة بايدن من مقاربتها تجاه إسرائيل أم لم تغيرها فسيظل السلوك الإسرائيلي جاذبا للنقاد المتشككين ـ سواء من داخل الحكومة أو خارجها ـ فيما كان يوما تحيطه هالة من القدسية.
وفي النهاية فإن المصالح الأميركية لا تتحقق على نحو جيد من خلال الشراكات الجيوسياسية القائمة حاليا، أو شبكة القواعد العسكرية الممتدة، أو السعي الدائم للهيمنة المسلحة، وإنما تتطلب مراجعة جوهر عقائد التفوق الأميركي تحولات ديمقراطية قريبة مما بدأ الأميركيون معاينته على صعيد الجبهة الداخلية.
وما لم يتم الاستعانة بمفكرين جدد في مؤسسة السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي، فسوف يظل بايدن وخلفاؤه يروجون لنموذج القيادة الأميركية العالق في القرن العشرين، والذي لا يتناسب على الإطلاق مع التحديات العالمية للقرن الحادي والعشرين.
(انتهى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا