في قصته الطويلة “سره الباتع” يرسم الأديب المصري الراحل الدكتور يوسف إدريس صورة لجنود الحملة الفرنسية على مصر كمجموعة من الغزاة المرتعدين٫ الخائفين باستمرار من أهل البلاد وخاصة من فلاح ثائر يقود مقاومتهم ويدعى حامد.
ولا يخفف استشهاد حامد في احدى المعارك من هذا الخوف لدى الغزاة٫ خاصة وأن اهل البلاد يحولون حامد الى ولي ويقيمون له مقاماً ويسبغون عليه ألقاباً من نوعية “السلطان حامد”.
يتفتق ذهن الغزاة عن فكرة تتناقض مع كل ما يدعونه من تحضر وتمدن وهي اقتحام المقام وتمزيق جثة الشهيد وذر أطرافها في كافة أنحاء البلاد حتى لا تصبح رمزاً يتحلق حوله الناس.
لا تفلح خطة الفرنسيين٫ بل يتحول كل موضع القوا فيه ببعض من جسد الشهيد إلى مقام له ويكثر أتباعه ومريدوه ومحبوه وينتهجون مثله نهج المقاومة ضد المحتل.
واقع كالخيال
لم يبتعد ما تخيله الدكتور ادريس عما اتبعه المستعمرون على أرض الواقع على مدار قرون٫ فالمحتل لا يكتفي بقتل رموز المقاومة ضده بل يخشى من كل ما يُذكِّر بها وبالقيمة التي تجسدها.
أتذكر قصة الدكتور ادريس وأنا أتامل خبراً مفاده أن بلجيكا أعادت إلى مستعمرتها السابقة الكونغو ما تبقى من جثة أول رئيس وزراء منتخب لذلك البلد الأفريقي مطلع الستينات باتريس لومومبا والذي قُتل غدراً وغيلة عقب إقصائه من السلطة على يد عملاء لبلجيكا، وكان مما تبقى من الجثة “سن” من أسنان لومومبا
فكما تغاضى الفرنسيون في قصة إدريس عن كافة دعاويهم عن رغبتهم في “تحرير” المصريين من المماليك ونشر المدنية الحديثة في ربوع المحروسة٫ لم يجد البلجيكيون حرجاً في أن يتنكروا لكافة دعاويهم عن الديمقراطية وضرورة احترام النتائج التي تأتي بها صناديق الاقتراع٫ حيث أطاحت بلجيكا بمعاونة الولايات المتحدة وعبر كل من عميلها الانفصالي تشومبي و قائد المؤسسة العسكرية موبوتو بحكومة لومومبا المنتخبة حين بات ذلك المناضل الكبير يهدد مصالحها في مستعمرتها السابقة التي سخرت شعبها بأكمله على مدار خمسة و سبعين عاماً (١٨٨٥-١٩٦٠) لزراعة المطاط في عملية استعباد طويلة راح ضحيتها عشرة ملايين كونغولي.
لم يكتف المستعمرون ووكلاؤهم باغتيال لومومبا وإنما تم التمثيل بجثة فقيد افريقيا حيث قام الانفصاليون المدعومون من بلجيكا بإذابة جسد لومومبا باستخدام حمض قوي وهو ما اعترف به ضابط بلجيكي ساهم في جريمة الاغتيال.
كلهم .. هذا المستعمِر
لا يعد ما فعله البلجيكيون بلومومبا -على بشاعته- أمراً فريداً في تاريخ الاستعمار في دول الجنوب٫ إذ دأبت فرنسا ايضاً على جمع رؤوس من يقاومونها في مستعمراتها لا سيما في الجزائر.
وحتى يومنا هذا مازالت فرنسا تحتفظ بثمانية عشر ألف جمجمة جمعتها من مستعمراتها السابقة٫ بل وتعرض بعضاً منها في متاحفها مثل متحف الإنسان في قصر “شايوه” في باريس.
وفي عام ٢٠١٨ ردت ألمانيا إلى مستعمرتها الافريقية السابقة ناميبيا بقايا بشرية لسكان أصليين من قبيلتي “هيريرو وناما” قتلوا في انتفاضة مناهضة للاستعمار الألماني لبلادهم.
وبمنطق المستعمرين٫ كانت هذه الانتفاضة مبرراً كافياً لكي يقرر الحاكم العسكري الألماني في ١٩٠٤ إبادة السكان الأصليين.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد من قتلوا في حملة الإبادة تلك يصل إلى مائة ألف قتيل٫ ولم يكتف المستعمرون الألمان بهذه الإبادة بل جمعوا جماجم عدد كبير من الضحايا وارسلوها الى برلين.
كان الهدف من جمع الجماجم لا يقل عنصرية عن الاباده ذاتها وهو ان تكون موضوعاً يدرسه علماء الأنثروبولوجيا ليس بهدف تحقيق اكتشاف علمي ما بل لاستخدامها كدليل علمي يدعم نظرية تفوق العرق الأبيض٫ تلك النظرية التي استخدمها الاستعمار منذ فجر القرن السادس عشر الميلادي لتبرير كافة جرائمه بحق شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
ان سن لومومبا المٌعاد إلى بلاده على صغر حجمه هو دليل إدانة للاستعمار والعنصرية وهو ايضاً تذكير للمستعمر السابق بجريمته واغلب الظن ان هذا السن الصغير سيظل يورق القتلة بسبب رمزيته٫ او كما قال الشاعر محمود درويش “جسدي هو الأسرار”.