تتميز كتابات المفكر العراقي علي الوردي (1913-1995) بالكثير من السمات المهمة، فهي في طبيعتها سلسة وغير معقدة، متدفقة تعتمد على مناقشة المسألة من عدة جوانب، وهو يرفض الانطلاق من مقولة “الحقيقة المطلقة” ليفسح المجال لـ”النسبية” وقبول الآخر، وإمكانية تجاور الآراء المتعارضة وتفاعلها فيما بينها بشكل حضاري دون اللجوء للتعصب أو الصراع الدموي.
ناقش “الوردي” عدة قضايا متعلقة بأزمة الوعي، أبرزها هجومه على القياس الأرسطي أو ما أسماه بالمنطق القديم، لكونه ينطلق من “مقدمات كبرى” توصف بالبديهيات، وهي مجرد عادات فكرية مألوفة قابلة للهدم والتشكيك، ومن المدهش التقاط هذه المقدمات من أقوال الشعراء أو الأمثال الدارجة، مع ملاحظة أن المناطقة القدماء حوَّلوا القياس إلى مطية لأغراضهم، بعدما باتوا قادرين على برهنة صحة الشيء وخطأه في نفس الوقت، لدرجة أنهم إذا استحسنوا أمرًا بحثوا له عن مقدمة كبرى تصلح لتأييده.
اهتم “الوردي” برصد صراع البداوة والحضارة، خاصة حينما وصف مجتمعه العراقي بـ”المزدوج الشخصية”، يجمع في سلوكه بين قيم الحضارة والبداوة، وهي في نظره “ظاهرة اجتماعية لا شعورية تحدث لتعرض الإنسان في نشأته لنظامين مختلفين من القيم”.
https://www.youtube.com/watch?v=0AnKemhtxZM
صراع البداوة والمدنية
في كتابه “مهزلة العقل البشري” يسخر الوردي من مديح المفكرين الطوبائيين لـ”التآخي والتعاون واتفاق الكلمة” لأنهم عالجوها من جانب واحد كونها “تبعث التماسك في المجتمع” غافلين عن دورها في بعث الجمود أيضا، فالمجتمع البشري لا يعيش بالاتفاق وحده، فهو يحتاج إلى “شيء من التنازع” بهدف التحرك إلى الأمام.
يشدد المفكر العراقي على أهمية “التنازع والتدافع” لاستمرار تطور المجتمعات ناحية المدنية والحضارة، في حين يبقى “الاتفاق” من تقاليد المجتمعات البدائية التي تسير في الركود وتعجز عن التطور، ولا يعني هذا خلوها من التنازع العنيف، لكنه تنازع شخصي لا يمس التقاليد، بل يتنافسون على القيام بها، والمجتمع المتحرك بحاجة لجبهتين متضادتين على الأقل، تدعو إلى نوع من المبادئ مخالف لما تتمسك به الجبهة الأخرى.
لذا، يتصف المجتمع المتحرك بالمجازفة والتقدم نحو المجهول، والشك والقلق، والتدافع، وعدم الحصول على راحة البال التي يتمتع بها إنسان المجتمع الراكد، الذي يقنع بالكسل، ويحتفظ باليقين، ولا يسأل “لماذا”، عكس إنسان الحضارة الذي يحك رأسه كل يوم بسؤال.
يتفق “الوردي” مع المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في أن الحياة المدنية تتميز بـ”الإبداع”. وفي المقابل عليه دفع ثمن باهظ، فالسائر في طريق المدنية مقبل على القلق والألم والعناء لأن المدنية بنت الكدح والشقاء، فالإنسان الذي يعيش في مناطق يسهل فيها الحصول على القوت يتعود الكسل..
قيام الكون على فكرة الأضداد، والجمع بين الشيء ونقيضه في آن، دفع الصوفية -وفق رؤية الوردي- إلى إنتاج وجهة نظر مميزة حول تناقض الأشياء وتفاعلها في مسيرة الكون، يتفق معهم ابن خلدون، ثم الفيلسوف الألماني هيجل فيما بعد.
ترى الصوفية أن “الشيء لا يمكن معرفته إلا بواسطة نقيضه، فالنور لا يُدرك إلا بالظلام، والصحة لا تُعرف إلا بالمرض، والوجود لا يُعرف إلا بالعدم” وأن امتزاج هذه النقائض هو الذي أنتج في رأي المتصوفة هذا الكون، وعليه فإن الإنسان لا يستطيع أن يُدرك الله الذي هو الحق إلا إذا عورض بالباطل.
ويأسف الوردي لعدم اهتمام المفكرين الطوبائيين بهذا الرأي، في الوقت الذي احتاروا فيه بسبب “مشكلة الشر”، مُعللا عجزهم عن فهم المشكلة أنهم يجرون في تفكيرهم حسب منطق أرسطو الذي يؤمن بـ”قانون عدم التناقض، فالشيء عندهم هو ، قائم بذاته ومنفصل عن غيره”، أما المنطق الحديث الذي بشر به المتصوفة وابن خلدون فيرى الأشياء في تشابك وتفاعل وتناقض مستمر، ثم لخص هيجل هذا المنطق بقوله: “إن كل شيء يحتوى على نقيضه في صميم تكوينه وأنه لا يمكن أن يوجد إلا من حيث يوجد نقيضه معه”. وبواسطة هذا التناقض والتفاعل بين الأشياء يتطور الكون وينمو.
التنازع.. توجه المجتمعات ناحية المدنية
يولي “الوردي” فكرة التنازع أو نشوء المعارضة وخاصة في السلطة السياسية أهمية كبرى، لافتًا إلى تطورها عبر الزمن، فكان التنازع قديمًا بالسيف، لا يجرؤ عليه إلا المجازفون الشجعان، لكنه اليوم صار جدلا، فيكفي الحزب المعارض أن ينشر آراءه في الصحف والإذاعة فترد عليه الأحزاب الحاكمة بنفس الطريقة دون حاجة لقتال، ويعود السبب في هذا التطور الحضاري الخطير إلى اكتشاف البارود واختراع الطباعة، الأول وضع في يد كل شخص ضعيف سلاحًا، والثاني حرر الشعوب من كتبة الملوك ووعاظ السلاطين.
وبحسب “الوردي” فإن أنواع التنازع عند أستاذ الاقتصاد الأمريكي توماس كارفر تصل إلى أربعة أنواع: الأول، تغلب فيه الطبيعة الحيوانية، وفيه تكون للقوة البدنية المكان الأول من أجل تحطيم الخصم وإيذائه. والثاني، تغلب فيه الروية والذكاء والاحتيال مثل الغش والسرقة، وأمور التنازع من وراء ستار. والثالث، نوع يسود العالم المتحضر، ويأخذ أشكالا متعددة، فهو الحب بين الرجل والمرأة، الحملات الانتخابية بين الأحزاب السياسية، الإعلانات بين الشركات التجارية، المحاكمات بين أصحاب الدعاوي. والرابع، المنافسة العلمية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية على أساس هادئ دون حقد أو تباغض..
ويضيف “الوردي” نوعًا خامسًا قد لا يصح أن يسمى نزاعًا في نظره، وهو النزاع الذي نشهده ونشعر أننا بداخله مثل مشاهدة مباراة كرة قدم أو فيلم سينمائي، ففي هذا الصراع المتخيل يشعر الانسان بالتنفيس والترويح..
وتعود أسباب التنازع وفق كلام كارفر إلى: استحالة إشباع الحاجات البشرية، وحب الانسان لنفسه وتقديره إياها أكثر مما تستحق..
الخروج من زمن العقلانية
يتشكل عقل الإنسان من خلال البيئة التي يعيش فيها، فإذا انعزل عن بيئته ضاق إطاره الفكري الذي يحدد توجهاته، لكنه حين يزداد تجوالا في الآفاق، واطلاعًا على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره، واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود..
من هنا، هاجم الوردي قصة “حي بن يقظان” التي أبدعها الفيلسوف ابن طفيل، وعدَّها محاولة لصعود “البرج العاجي”، قائلا: “إن الإنسان إذا ولد بين الحيوانات فإنه يمسي حيوانًا مثلهم وما قصة حي إلا وهم أو خرافة لا وجود لها”.
ويعترض “الوردي” على قصة ابن طفيل بواقعة مشابهة حدثت في العام 1927، قائلا: “إن أحد الرعاة عثر على طفل بشري في عرين للذئاب بالقرب من مدينة الله أباد بالهند، وكان الطفل يبلغ من العمر عشرة سنوات تقريبا، وتوصل الباحثون إلى حقائق مدهشة في شأن الطفل إذ وجدوا أنه يسلك سلوك الذئاب فهو ينبح مثلهم ويأكل الحشائش ويمشي على أربع، ويهاجم البشر فيعضهم وتنتابه نوبات من التوحش الشديد”..
لذلك، فإن عقل الإنسان في -تصورات الوردي- لا ينمو إلا في حدود القالب الذي يصنعه له المجتمع، كما أن العقل يفكر على أساس المقاييس والمعلومات السابقة، لكنه من الصعب أن يفكر على أساس غير مألوف.
في كتابه “من وحي الثمانين” يعترف الوردي بفضل العقل في إبداع الحضارة، لكنه يُصر على محدوديته، فإذا حاول تجاوز حدوده يبدو عليه الضعف والتهافت، متسائلا عن عقل الجماهير الغفيرة التي تؤمن بعدد من الخرافات والأساطير، وتسعى دومًا لتدعيم موقفها بالعقل والمنطق.
يستكمل العقل البشري قوقعته وإطاره من عدة عوامل لا شعورية، تمنعه من النظر في الأمور بحيادية مطلقة، أبرزها المعتقد الديني، العاطفة، المصلحة الأنوية أو الذاتية، حدود المعرفة والتجارب المنسية، العقد النفسية، والإنسان حين يتصور أنه حر مطلق في تفكيره، فهو لا يعرف العوامل اللاشعورية المؤثرة في عقله.
يوافق الوردي على ما ذهب إليه وليم جيمس من أن العقل مخلوق في الإنسان من أجل تنازع البقاء مثل الناب في الأسد والخرطوم في الفيل، وهو ما يتعارض مع فكر القدماء الذين يحددون وظيفة العقل بـ”البحث عن الحقيقة المطلقة”..
يعتقد المفكر العراقي أن البشرية في تاريخها مرت بثلاث مراحل: اللاعقلانية، والعقلانية، والعلمية. الأولى تعاملت مع الخرافات وعللت حدوثها بوقوف مخلوقات غيبية حاوت اتقاء شرها بالطلاسم والتعاويذ. والثانية أنكرت الخرافة، وكذَّبت القدرات الخارقة واستهزأت بمن يصدقها. والأخيرة يلجأ فيها الإنسان إلى العلم، وفحص جميع الأمور لمعرفة الأسباب الحقيقية الكامنة خلفها، حيث المنهج العلمي والتجريب الذي فتح للإنسان آفاقًا كانت مجهولة من قبل.
مهزلة العقل البشري!
يتحول العقل في نظر المفكر العراقي إلى مهزلة، حينما يتجاوز حدوده فيظهر عليه الضعف والتهافت، وعندما ينطلق من إطاره وقوقعته المصنوعة من البيئة المحيطة، ومجازفته في ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وتمكنه من موازنة القضايا الخلافية بدرجة كافية من الحياد، وأيضًا إصراره على استخدام المنطق الأرسطي الذي انتهى زمنه، فكلها أمور من “الوهم والخرافة” بعدما دخل الإنسان في أفق المنهج العلمي.
تأثرت لغة “الوردي” بأفكاره في نقد سمات العقل العربي، فأخذت شكلا حادًا حينما شن هجومه على كثير من المفكرين والفلاسفة الذين أسهموا في تضليل العقل، حيث يبدأ هجومه اللاذع بالمفكرين الطوبائيين، ليصفهم بـ”المغفلين” الذين يعيشون في البرج العاجي، لأنهم يظنون أن الإنسان يمكنه أن يجمع بين طريق الطمأنينة والركود وطريق القلق والتطور في آن واحد، فالمجتمع قادر على التمسك بتقاليده القديمة، مع مراعاة التطور والسير في سبيل الحضارة النامية
وهاجم فكرة “الملك الفيلسوف” التي استقاها أبو نصر الفارابي في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” من أفلاطون، حيث عَدَّ مثل هذه النظريات الخاصة بالمدينة الفاضلة غير عملية رغم أنها جميلة ورائعة، لكنه لا يمكن تطبيقها، ضاربًا المثل بمجموعة الفئران التي اقترحت تعليق جرس في رقبة القط.. ولكن كيف؟
ونال ابن طفيل شيئًا من معارضة “الوردي” على إثر قصة “حي بن يقظان”، فقد عدَّها محاولة لصعود البرج العاجي، واصفًا ابن الطفيل بـ”المغرور” لكونه “يؤمن بصحة المقولات المنطقية التي اعتاد عليها في محيطة الفلسفي وظن أنها ستبقى صحيحة للأبد”..
في النهاية، فإن كتابة “الوردي” غامرت بالدخول لمنطقة نقد سلبيات العقل العربي، وكشف الرجل عددا من الأوهام المحيطة بوظيفته، متحملا هجوم رجال الدين، وهم الفئة التي كان يهدد عرش سطوتها على الجماهير، معتمدًا على السلاسة والتدفق ومعالجة القضية من عدة زوايا، ومستشهدا بعدد ضخم من القصص والحكايات القصيرة التي يقدمها كنماذج لتبسيط أفكاره ومفاهيمه حول صراع البداوة والحضارة، وأزمة العقل في مجتمعنا العربي، وارتباطه بالوهم والخرافة.