(كتب استشاري الطب النفسي والكاتب السياسي د. صلاح ابو الفضل هذا المقال منذ ثلاثة أعوام رصداً للدور البارز الذي كان ولايزال يلعبه الرئيس الروسى بوتين في السياسة الدولية وقدرته الفائقة علي اخذ زمام المبادرة في العديد من المواقف والازمات المعقدة .ولأن الموقف الأخير لروسيا في مجلس الأمن من قضية سد النهضة جاء صادماً للشعب المصرى الذى طالما نظر لروسيا منذ العهد السوفييتي كصديق حقيقى. فإنه من المفيد أن نذكّر ان استعادة الحيوية والتفاهم بين موسكو والقاهرة مازال متاحا بخلق مصالح مشتركة ومنافع متبادلة خاصة مع رئيس مثل بوتين يتمتع بالبراجماتية والحيوية والقدرة علي الخروج بأفكار جديدة في الأزمات والتحديات الدولية. وقد يفتح ذلك الباب لإعادة النظر في كيفية استقبال الموقف الروسى والتعامل مع الخطوات الأخيرة لصناع السياسة الروسية بما يجعلهم يعودون في وقت قريب الي ادراكهم التقليدي لقيمة الصداقة مع مصر مركز الثقل المهم في العالم العربي . الكاتب اعاد ارسال المقال لموقع ( اصوات ) وننشره ايمانا باهمية فتح حوار وتشجيع التفكير العقلاني في ادارة السياسة الخارجية مع القوي الدولية وتفادي اتخاذ مواقف نفسية غير عقلانية)
=======
لا يمكن فهم ظاهرة بوتين على المسرح الدولى دون إلقاء نظرة على تاريخ سلفه الأشهر الرئيس السوفيتى نيكيتا خروتشوف. فى اكتوبر من عام 1960 كان خروتشوف حاضرا فى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وحين هاجم مندوب الفلبين سياسة الإتحاد السوفيتى فى أوروبا الشرقية استشاط خروتشوف غضبا وخلع حذاءه وخبط به على المنضدة عدة مرات ولوح به فى الهواء مطالبا السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك داج همرشولد بجعل مندوب الفلبين يعتذر متهما إياه بأنه ألعوبة فى يد الامبريالية الامريكية، ثم ترك الحذاء على المنصة وعاد لمقعده بابتسامة عريضة. لم تكن هذه حادثة منفصلة بل كانت إحدى العلامات فى زعامة خروتشوف المتميزة والتى لو أتيح لها الاستمرار لتغير وجه العالم الذى نعيش فيه اليوم.
كان خروتشوف قد تولى زعامة الاتحاد السوفيتى فى عام 1953 بعد رحيل ستالين العملاق المخيف الذى أرسى دعائم الاتحاد السوفيتى بعد لينين وخرج به منتصرا من الحرب العالمية التى حصدت عشرين مليونا من أبنائه. بعد هذا الإنتصار أسدل ستالين الستار الحديدى على الكتلة الشرقية ومارس استبدادا منقطع النظير راح ضحيته عدة ملايين اخرى أثناء بناء الكتلة السوفيتية بالقوة الغاشمة، وحين مات تنفست روسيا وباقى دول الاتحاد السوفيتى الصعداء رغم التقدم الذى تحقق. كان أول ما فعله خروتشوف بعد وفاة ستالين هو التوجيه بإعداد تقرير كامل عن الحقبة الستالينية كشف جرائمها ضد الشعوب السوفيتية وفتح صفحة جديدة للحكم. وجاء ذلك فى إطار انتهاج سياسة نشطة ومنفتحة فى مواجهة الغرب،وكانت واقعة الحذاء علامة عليها، ففى العام التالى التقى خروتشوف بالرئيس الأمريكى الشاب كيندى والذى احتفت به الدنيا كرئيس أعطى خطابه “لاتسأل ماذا تقدم لى بلدى بل اسأل نفسك ماذا تقدم لها” أملا برؤية جديدة. إلا أن خروتشوف سرعان ما تبين أن امريكا تعتزم التوسع فى البرنامج النووى وتسعى لحصار الاتحاد السوفيتى بنشر الصواريخ حوله، وكان من ذلك نشر رؤوس نووية فى تركيا على حدوده. خرج خروتشوف من الاجتماع بانطباع سلبى عن كنيدى وقال لمساعديه “أهذا الذى يفرحون به؟ سأريكم ماذا سأفعل به” ؟!
بعدها بشهور قليلة أرسل صواريخه النووية مكشوفة على ظهور السفن الحربية الى كوبا وانفجرت ازمة الصواريخ. رفض كينيدى وجود صوارخ روسيا على أعتاب أمريكا وهدد وتوعد ولاح شبح الحرب، ودارت مفاوضات محمومة وأرسل خروتشوف رسائل ورجاءات عبر الإذاعة لضبط النفس بينما فاوض فى السر. فى النهاية أعلن للعالم أن خروشوف وافق على سحب الصواريخ من كوبا مقابل تعهد كيندى علنا بعدم الإعتداء عليها، لكن الحقيقة التى لم تعلن حينئذ أن كيندى وافق سرا على سحب صواريخه من تركيا، وترك له خروتشوف النصرالادبى مكتفيا بأنه ضرب عصفورين بحجر واحد. لم يتوقف خروشوف عند هذا الحد كان قد تقدم مخترقا مناطق نفوذ الغرب الى المياه الدافئة فوطد علاقته مع مصر عبد الناصر مكتشفا فيه زعامة ديناميكية تقف معه فى مواجهة الغرب.
لكن القوى التقليدية المحافظة فى الحزب الشيوعى السوفيتى لم تستطع استيعاب هذه الحيوية السياسية فتآمرت عليه وأسقطته فى انقلاب سياسى داخل الحزب. وهكذا نزل الستار الحديدى من جديد على الاتحاد السوفيتى وتمكن الغرب من جره الى سباق التسلح الذى استهدف استنزاف موارده وتعطيل تقدمه، بينما راحت آلة الإعلام الجهنمية تشن حربا لاهوادة فيها على هذه التجربة الفريدة من تاريخ البشرية.
بسقوط حائط برلين دخل العالم عصرا جديدا. انقضت وحوش الرأسمالية الجائعة على الكثير من مكاسب العدالة الإجتماعية فى دول الغرب وسيقت العولمة شعارا لفتح كل اسواق الدنيا أمام صناعة الغرب دون إجراءات الحماية، ونزل النخاسون على موسكو وكل دول الإتحاد السوفييتى ينهبون خيرات العملاق المهزوم. ويعلمنا التاريخ أن روسيا كانت دائما تترك الغزاة يتقدمون فى أرضها إلى أن يصلوا منهكين لمشارف موسكو، ويكون الشتاء قد وصل فتنقض عليهم جيوشها وتهزمهم، هكذا فعلوا مع نابليون وكذلك مع هتلر. لم تتغير الإستراتيجية هذه المرة لكن تغير الأسلوب، جاء الإنسحاب الروسى فى الزمان لا المكان. تركوا الغزاة يقتحمون الاتحاد ، قسموه فانفصلت جمهورياته وفتحت ابواب المصانع والمتاحف وجاء الصهاينة وأرباب المال يشترون كل شئ فى موجة انفتاح سداح مداح مثل الذى مر ببلادنا. وخلال رئاسة يلتسن استحوذت ثمانى عائلات على أكثر من نصف ثروة روسيا.
بوتين واستعادة مكانة روسيا في العالم
إلى أن شاءت العناية أن يصل ضابط المخابرات الروسى [[فلاديمير بوتين ]]إلى سدة الحكم فبدأ بلم الشمل وانقض على سماسرة الأرض والعرض وأوقف النهب والسلب، ونظم الإقتصاد محتفظا بدور القطاع الخاص ولكن فى خطة نمو اقتصادى محكمة حالت دون تدهور مستوى معيشة الأغلبية. مد يدا مسالمة للغرب دون تنازلات، وصبر على من تركوا روسيا. لم يوسع دائرة الصراع وأنفق عدة سنوات فى إعادة بناء الدولة، وحين انتهت مدتان لرئاسته لم يستنكف من العمل كرئيس وزراء تحت إمرة ميدفيديف أحد زملائه، وأدرك الجميع أهمية الإستمرار فى تنفيذ خطة النهوض، فعاد للرئاسة مرة اخرى ليواصل عملية استعادة الدب الروسى لمكانه ومكانته، بينما استمرت روح الحرب الباردة ونزعة حصار روسيا من الغرب، واستُخدم فيها اعضاء سابقون من الاتحاد السوفييتى. وحين استجابت جورجيا لإيعاز أمريكا بإثارة القلاقل فى الجزء الروسى من أوسيتيا فوجئت بالجيش الروسى على مشارف العاصمة وفهم الأمريكيون الرسالة وتراجعوا وسقط ساكاشفيلى رئيس جورجيا. لكن محاولات الغرب لحصار روسيا استمرت فأعيدت الكرة فى أوكرانيا التى وصلت للحكم فيها مجموعات فاسدة ظهر استعدادها للتآمر ضد روسيا رغم أن أكثر من نصف سكانها يتكلمون الروسية ويعتبرون أنفسهم روسيين، مما أغضب بوتين الذى أدرك أبعاد المؤامرة فانتفض بسرعة مرسلا قواته الى شبه جزيرة القرم مدخل روسيا الوحيد للبحر الاسود ومنه للمتوسط وكانت اصلا روسية وتنازلت عنها لأوكرانيا وقت الاتحاد. هاجت امريكا وماجت لكن سيف بوتين سبق العذل ولم يبق لأوباما الا التصريحات المتبرمة.
وقد تكررت قدرة بوتين على أخذ زمام المبادرة مرة اخرى فى سوريا. فبعد فشل قوى الظلام فى الاستيلاء على ثورة المصريين، ونجاحهم فى ليبيا بإسقاط النظام والدولة، استداروا الى سوريا واندفعت جحافل المرتزقة باسم الاسلام بتعليمات وخطط امريكية بريطانية وبتمويل عربى -تركى وبدأت اخطر مؤامرة فى تاريخها اشتركت فيها كل اطياف المتأسلمين وتحولت سوريا الى مسرح قتال رهيب قتل فيه مئات الآلاف وتشرد الملايين وتهدمت درة العقد وتأهبت اسرائيل لقطف الثمرة. هنا ادرك بوتين الذى كان لبلاده وجود مستمر وعلاقات وطيدة فى سوريا أن مصلحة سوريا وروسيا المشتركة فى خطر وبنفس السرعة والشجاعة ووضوح الرؤية نزلت قواته إلى سوريا فى اللحظة المناسبة مغيرة ميزان القوى لصالح سوريا الدولة والوطن والقلعة الرافضة فى مواجهة الصهيونية العالمية. مرة اخرى أسقط فى يد الغرب والتحالف الشرير بين تركيا وبعض الدول العربية وهزمت دعوة إسقاط بشار التى كانت تهدف لاسقاط وتفتيت سوريا وانكشفت سياسات امريكا وحلفائها التى كانت تدعم خفية عصابات الدولة الاسلامية وجبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها فاضطرت لرفع دعمها لها، بينما نجح بوتين فى الاستفادة من التناقضات البينية بين تركيا والغرب واسرائيل وأحدث شروخا هامة فى جبهتها كما وطد علاقاته مع إيران القوة الصاعدة فى المنطقة.
هكذا يعيد بوتين مجد سلفه الساحر خروتشوف الذى سعى للانفتاح وأخذ زمام المبادرة تجاه الغرب الذى لايفهم إلا لغة القوة، ولعل بوتين بسبيله لإرساء القواعد لنظام عالمى جديد متعدد الأقطاب نجد فيه مكانا أفضل. وقد يتوهم البعض أنه يريد استرجاع الاتحاد السوفيتى مثلما يتمنى جهابذة الإخوان عودة الخلافة، لكن البى بى سى التى تصوره دائما كديكتاتور نقلت عنه قوله (لاقلب له من لايشتاق لأيام الإتحاد السوفييتى لكن لاعقل له من يتصور عودتها) وهى عبارة تنم عن فهم عميق للتاريخ وللحاضر معا.
ويبقى لنا درس نتعلمه من دمشق عاصمة معاوية أن {{بناء التحالفات الصحيحة والقوية والاعتماد على النفس هى فى النهاية اكثر ضمان للوقوف امام اشرس المؤامرات. }}ولعلنا ندرك ان حبال الغرب الى تعلقنا بها طويلا قد اهترأت وان علامات التدهور بادية وأنه آن لنا أن ننظر من حولنا ونتبين مواقع القوى الحقيقية ومكامن القوة فى انفسنا.