أراد أحد الولاة العثمانيين المعينين من قبل “الباب العالي” أن يستهل ولايته للمحروسة بزيارة إلى أهم مكان يقدسه ويحترمه أهلها وهو الجامع الأزهر٫ وذلك في محاولة منه لكسب ود طلبة وشيوخ الأزهر على حد سواء واستمالتهم إلى صفه.
وحين دخل الوالي إلى صحن الجامع الأزهر وجد شيخاً مستنداً إلى عمود يقرأ ورداً من القرآن الكريم وهو يمد رجليه وحين رأى الوالي لم يعبأ به ولم يقم لتحيته وإنما استمر في القراءة.
أثار هذا التصرف غضب الوالي٫ فقرر أن يسعى لإحراج الشيخ أمام تلاميذه واظهاره بمظهر المٌتلقي للعطايا والهبات٫ فأرسل له مبلغاً كبيرا من المال مع أحد أتباعه والذي تعمد أن يقدم له المال وهو يُدرس للطلبة٫ إلا أن الشيخ الجليل فوت الفرصة على الوالي وتابعه وقال له “قل لسيدك من مدَّ رجليه فلا يمكن له أن يَمُدَّ يديه”.
وفي حين تختلف الآراء حول شخص الوالي الذي واجه هذا الموقف إلا أن كثيرين يرون أن الشيخ المذكور في هذه الواقعة ذات الدلالة هو الإمام أحمد الدردير٫ الشيخ الزاهد المُلقب ب” شيخ أهل الإسلام وبركة الأنام”.
وُلد الشيخ الدردير في قرية بني عدي التابعة لأسيوط في صعيد مصر ونشأ في رحاب بيت يقدس العلم٫ فحفظ القرآن الكريم على يد أبيه الشيخ محمد وحفظ عنه أيضاً صيغاً متعددة للصلاة على النبي الكريم.
وما إن أتم أحمد الدردير حفظ كتاب الله حتى شد الرحال إلى القاهرة للدراسة في رحاب الأزهر ولازم الشيخين الحفني والصعيدي.
ولشدة نبوغه٫ سعى اليه تلاميذ الشيخ الصعيدي حين توفي هذا الأخير فنصبوه مكانه وسرعان ما عُين مفتيًا على المذهب المالكى, وناظرًا على وقف الصعايدة٫ ويصفه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي بأنه بات “شيخًا على أهل مصر بأسرها”.
وإلى جانب مكانته العلمية٫ كان للشيخ الدردير مكانة خاصة لدى العامة من أهل البلاد بسبب سعيه فى قضاء حوائج الناس بالليل والنهار حيث كان يركب دابته ويسير في طرقات القاهرة لهذه الغاية٫ حتى اشتهر عنه قوله “أركب الحمارة وأقضي العبارة” تعبيرًا عن سرعته في قضاء الحوائج.
ولعل هذه المكانة تحديداً هي ما أهلت الشيخ الدردير للعب دور محوري في الانتفاضة الشعبية التي شهدتها القاهرة عام ١٢٠٠ للهجرة (١٧٨٥ و١٧٨٦ للميلاد) ضد ظلم قادة المماليك للناس.
ويروي الجبرتي تفاصيل هذه الانتفاضة فيقول : “وفي صبح يوم الجمعة٫ ثارت جماعة من أهل الحسينية” بسبب ظلم حاق بهم من قبل أحد “بكوات” المماليك ويدعى حسين بك ويضيف “وحضروا الى الجامع الأزهر ومعهم طبول والتف عليهم جماعة كثيرة”.
ثم ذهب المتظاهرون من أهالي حي الحسينية الى الشيخ الدردير لمعرفتهم بمكانته فلم يتردد الشيخ الجليل لحظة واحدة عن إعلان انضمامه إليهم حين علم بشكواهم وقال لهم “أنا معكم”.
وفي خطوة مألوفة في العصرين المملوكي والعثماني٫ أغلق المنتفضون أبواب الجامع الأزهر وأغلق التجار حوانيتهم وهي خطوة كانت ايذاناً بإعلان بداية عصيان مدني٫ وترافق هذا مع صياح وضرب بالطبل.
بل ذهب الشيخ الدردير خطوة أبعد من ذلك حين قال “في غد نجمع أهالي الأطراف والحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم”.
وبطبيعة الحال وصلت هذه الأخبار إلى مسامع قادة المماليك٫ والذين أدركوا أنهم بصدد ثورة شعبية عارمة وأن بيوتهم لم تعد بمأمن من العامة فأوفد زعيمهم ابراهيم بك موفَدين من عنده إلى الشيخ الدردير في محاولة لوقف “تضاعف الحال” وفي محاولة لحل الأزمة طلبوا من الشيخ إعداد قائمة بكل ما تم نهبه من بيوت العامة على يد حسين بك ورجاله وتعهدوا بأن يأتوا بها- أي المنهوبات- من “محل ما تكون”.
إلا أن الشيخ المنحاز الى الشعب لم يكتف بهذا فركب دابته في الصباح التالي مباشرة وتوجه إلى دار إبراهيم بك واستدعى حسين بك إلى المجلس الذي أقامه هناك ووبخه علناً وعلى مسمع من الجميع على ما فعله بالعامة ونهبه لهم.
لم يكن موقف الشيخ الدردير بالمستغرب عند من عرفوه بل كان تطبيقاً عملياً لمبدأه المذكور في القصة الآولى٫ فمن لا يمد يديه الى عطايا السلاطين٫ يحق له أن “يمد رجليه”.