ذات صباح مشمس٫ دخل عبدان مملوكان إلى الفسطاط عاصمة مصر وإحدى أهم مدن الخلافة العباسية في ذلك الوقت٫ تلك الخلافة التي كانت قد وصلت إلى درجة من الضعف صار معها الخليفة العباسي في بغداد مجرد أداة في يد كبار القادة وخاصة قادة الجند من التُرك.
وكانت مصر بطبيعة الحال من الأقطار التي تمتعت بقدر من الاستقلال عن دار الخلافة بفضل هذه الظروف المضطربة٫ وكان حاكمها محمد بن طغج الإخشيد الذي استولى على السلطة فيها منذ عام ٩٣٥ ميلاديه قد استطاع الانفراد بالأمر فيها بعيداً عن سلطة الخليفة ومن يحيط به من القواد في بغداد.
كان العبدين صغيري السن وقال أحدهما للآخر وهما ينظران حولهما ويطالعان معالم المدينة التي جلبهم تجار الرقيق اليها انه يتمنى ان يباع الى طباخ لكي يشبع طيلة عمره٫ أما الثاني فقال في لهجة واثقه : اما انا اتمنى ان املك هذه المدينة.
كان الثاني هو كافور الذي ستعرفه كتب التاريخ لاحقاً باسم كافور الاخشيدي٫ الذي دخل مصر عبداً وصار حاكمها لاحقاً كما تمنى.
كان كافور شديد سواد البشرة وكان دميم الخلقة٫ ثقيل البدن٫ مشقوق القدمين كما يصفه المؤرخون الذين عاصروه ولكنه في الوقت ذاته شديد الاعتداد بنفسه رغم كافة هذه العيوب الخلقية.
انتقل العبد كافور عند وصوله إلى مصر من يد سيد إلى آخر حتى اشتراه محمود بن وهب بن عباس الكاتب وباعه هذا الأخير لحاكم محمد بن طغج الإخشيدي بثمانية عشر ديناراً.
راى الاخشيد في كافور مواهب لم يرها من سبقوه إلى امتلاكه٫ وآثار العبد الدميم بصفاته القيادية آعجاب مولاه حيث كان كما يصفه المؤرخ الذهبي “مهيباً ساىساً حليماً جواداً وقوراً” فأعتقه ورباه ونشأ كافور في بلاط الإخشيد واكتسب الكثير من صفات سيده وفي مقدمتها القدرة على الإدارة.
حاز كافور ثقة الإخشيد٫ فكلفه الأخير بتربية ولديه واكتسب بهذا لقباً جديداً بات يُعرف به وهو “الأستاذ” وفي الوقت ذاته رشحه سيده للجندية التي تألق في ميدانها ايضاً٫ فأرسله الإخشيد في حملات عسكرية في كل من الشام والحجاز.
اكسب كل هذا كافور خبره وحظوة في البلاط الإخشيدي استطاع أن يستغلها لصالح عقب وفاة محمد بن طغج عام ٩٤٥ ميلاديه.
حيث آلت السلطة الى أنوجور نجل الاخشيد الا ان أنوجور لم يحكم فعلياً طيلة سنوات عهده التي بلغت ١٤ عاماً٫ حيث كانت السلطه الفعليه في يد كافور.
حيث استطاع كافور الامساك بزمام الامور وجعل من الشاب انوجور ظلاً باهتاً لا تتجاوز سلطته المظاهر مثل الدعاء له على المنابر في خطبة الجمعة٫ وباستثناء محاولة يتيمة من جانب أنوجور لاسترداد بعض من سلطته بالخروج من مصر إلى الشام٫ وهي المحاولة التي انهاها باسترضاءه واعادته٫ فقد ظل حتى وفاته عام ٩٦٠ للميلاد مجرد حاكم اسمي لا أكثر.
ولم يختلف الأمر كثيراً مع تولي علي بن الإخشيد مقاليد الحكم بعد أخيه٫ إذ ظل كافور هو الحاكم الفعلي.
اثبت كافور مهارته في أمور السياسة والحكم فاستطاع تحقيق التوازن والحفاظ على استقلال مصر المحصورة بين خلافتين في ذلك الحين : العباسية في المشرق والفاطمية في المغرب فكان كما يذكر المؤرخ الذهبي “يهادي المعز الفاطمي إلى الغرب ويداري ويخضع للمطيع العباسي ويخدع هؤلاء وهؤلاء”.
أما على صعيد سياسته الداخلية فقد تقرب إلى شعب مصر بإجلال آل البيت الكرام المقيمين في مصر مثل الشريف عبد الله بن أحمد بن علي بن ابراهيم الحسيني.
كما حول كافور بلاط الى مقصد لكل من له حاجه من أهل مصر٫ وكان يرسل الى حجاج بيت الله الحرام اموالاً وكسوه وطعاماً واستقدم أهل الأدب والعلم من الأمصار المختلفة وكان يجزل لهم العطاء كما يروي المؤرخ النويري ومن بين هؤلاء الشاعر أبو الطيب المتنبي.
وتعد علاقة المتنبي بكافور من مفارقات عصر هذا الأخير٫ فقد قدم المتنبي على كافور بعد أن غادر بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب٫ وكان ذلك في عام ٩٥٧ للميلاد واكرمه كافور وأنزله في دار تناسب قدره وحمل إليه الكثير من الأموال٫ فأفاض المتنبي في مدح كافور الشهير بلقب “أبو المسك” مثل قوله:
“ابا كل طيب لا أبا المسك وحده
وكل سحاب لست اُحصي الغواديا”
الا ان العلاقة بين الرجلين سرعان ما توترت مع رغبة المتنبي في أن يقلده كافور منصباً أو ولاية وهو ما لم يستجب له كافور قط٫ فانقلب المتنبي عليه وصاغ قصيده في هجائه لم تخل من عنصرية فجة يعاير فيها كافور بلون بشرته:
“صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبودُ
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
ان العبيد لانجاس مناكيدُ”
الا ان هذا الهجاء لم يفت في عضد كافور الذي ظل شديد الاعتداد بنفسه وبالدولة التي استطاع الحفاظ على كيانها واستقلالها والتي لم تدم بعد وفاته طويلاً٫ حيث ان الدولة الإخشيدية التي تركها قوية عند وفاته عام ٩٦٨ ميلاديه لم تدم بعد ذلك سوى عام واحد٫ حيث ضاق المصريون بسوء إدارة البيت الاخشيدي بعده والغلاء الفاحش والاوبئة٫ فراسل المصريون المعز لدين الله الفاطمي يستدعونه لإنقاذ مصر.
ومع وصول المعز لدين الله إلى مصر٫ انهارت دولة الإخشيديين وبدأت صفحة جديدة تماماً من تاريخ مصر والمنطقة.