رؤى

طالبان ودوائر الإسلام السياسي الثلاث 

‎نظراً لظهور النسخة [المتحورة ] من طالبان وصعودها الجديد ومايثيره ذلك من إشارات ومخاوف تخصنا نحن أبناء المنطقة العربية والشرق الأوسط وماهو في محيطها  ..

‎فقد اصبح من المهم لنا أن نبحث في جذور طالبان ،وبغض النظر عن تغير الظروف في نسخة طالبان الحديثة ، وتغير محيط افغانستان الجيوسياسي علي نحو مرشح في أن يؤثر علي طالبان وعلي أفغانستان في المحصلة الكلية في اللحظة التاريخية الآنية (وهذا ماينبغي يجب لجميع المتابعين والدارسين أن يأخذوه في الإعتبار)  ..

‎فطالبان نشأت في احضان أجهزة المخابرات الباكستانية والمدارس الدينية التي أسستها هذه الأجهزة بتمويل سخي من رابطة العالم الإسلامي التي كانت الواجهة العلنية للملكة السعودية النفطية التي كانت تنزح من عوائد النفط للإنفاق اللوجستي علي الرابطة والمؤسسات الباكستانية  – في مرحلة ماقبل الملك سلمان – بالإضافة للمضخة المصرية الهائلة للعمامات البشرية التي انخرطت في هذا المشروع الضخم الذي كانت ترعاه وتحدد أجنداته المخابرات المركزية الأمريكية طوال هذا الوقت  ..

‎لكن اللافت للنظر أن المخابرات المركزية الأمريكية قد استلمت هذا الملف من الإنجليز وأن جهود المخابرات المركزية في منذ بداية القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين كانت قد أثمرت عن نشأة ثلاث دوائر كبري للإسلام السياسي  ..

‎الدائرة الأولي

‎كانت دائرة شبه الجزيرة العربية والتي شهدت بروز الحركة الوهابية بأفكارها المعروفة والتي تدور حول فكرة الطائفة المنصورة وأن ديار الإسلام (علي طريقة ابن حنبل فابن تيمية وتلميذه أبن القيم الجوزية فابن عبد الوهاب) هي {ديار سلام }وأن باقي ديار العالم -طالما لم تدخل في هذا الإسلام الوهابي – فهي إما ديار شرك أو ديار كفر وهذا يعني بالتبعية أنها {ديار حرب } يحل للطائفة المنصورة أو الطائفة الناجية من النار (اتباع بن عبد الوهاب وحلفاؤهم من أبناء محمد بن سعود) أن يقتلوا رجالهم وينهبوا أموالهم وممتلكاتهم ، ويسوقوا نسائهم كسبايا إلي آخره من (غنائم الحرب المترتبة علي شرك أو كفر أهل أي بقعة أرضية لاتخضع للطائفة المنصورة)  ..

‎وغني عن القول بأن هدف الإنجليز باختصار من دعم هذه الحركة وصولاً إلي تأسيس المملكة السعودية كان هو تصفية الهيمنة التركية (العثمانية) علي الجزيرة العربية واستبدالها بالهيمنة البريطانية لأسباب تتعلق بحماية طرق ومصالح شركة الهند الشرقية (والتي كانت تشكل أحد أهم أعمدة الإمبراطورية البريطانية)  وبالإضافة لذلك حماية هيمنتها علي حقول النفط التي بدأ اكتشافها في العراق  ..

الإنجليز والوهابية

‎ الدائرة الثانية 

‎وهي الاهم  من وجهة نظري المتواضعة وهي الدائرة التي ستؤثر في تحور أفكار جماعات وحركات الإسلام السياسي في المنتصف الثاني من القرن العشرين وحتي وقتنا هذا علي نحو خطير  ..

‎وهي دائرة جماعات وحركات الإسلام السياسي التي نشأت كرد فعل علي تصاعد حركة التحرر الوطني في شبه القارة الهندية ضد الإنجليز الذين لم يشاءوا أن تخرج (جيوشهم) من الهند وهي دولة موحدة تمثل تحدياً مستقبلياً هائلاً من حيث غناها بالموارد الطبيعية الغنية والمتنوعة علي هذه المساحة الهائلة من الأرض بما لها من وضعية جيوسياسية في قلب العالم ومن حيث إطلالها علي بحاره وطرقه التجارية بما قد يهدد هيمنة القارة الأوربية علي الاقتصاد العالمي

‎فكانت هذه الحركات بماتحمله من أفكار شديدة التطرف والعنف في تعاملها مع مشكلات الهوية واقتصار رؤيتها الفكرية علي الحل الصفري (الهوية الإسلامية في مواجهة الهويات الهندوسية  المتطرفة والهويات الأخري التي تحفل بها تنوعات الهند)  وبالتالي تفجير صراعات طائفية تصبح نتائجها معروفة وماثلة أمامنا الآن وهو تمزق الهند إلي أكثر من دولة بعد انفصال أقليم البانجاب عنها وولادة دولة باكستان ، ثم دولة بنجلاديش.

‎كان قد برز من بين عمامات هذا الإسلام (الهندي/البريطاني) أبو الأعلي المودودي الذي ذاع صيته في في أربعينيات القرن العشرين وراجت أفكاره في الهند والتي كانت تدور حول محاور أساسية هي (الحاكمية في مواجهة الجاهلية الحديثة)

‎(الحاكمية) والتي كانت تعني كما قال بها المودوي أن ألا يكون نظام الحكم ديمقراطيا أو أي من الأنظمة البشرية “لإن الحكم ليس للشعب بل يجب أن تكون الدولة دينية لأن الحاكمية فيها لله” و”الله هو المشرع والمسلمون هم المنفذون”  و(الجاهلية) من وجهة نظر أبو الأعلي المودوي هي المقابل المواجه للحاكمية حيث أن قبول حكم البشر من دون الله هو نوع من الجاهلية التي تشمل كل الأنظمة السياسية التي تتخذ غير الإسلام نظاماً للحكم والجاهلية تشمل أيضاً كل من يقبل بغير الحاكمية (طبعاً الإسلام هنا هو إسلام المودودي طبقاً لنسخة الهند الإنجليزية)، و(الجهادية الإسلامية في مواجهة الحكومات لاتنفذ الحاكمية) ، (تكفير المجتمع التي تحكم بالنظم البشرية ، ولاتحكم بشرع الله كما يراه المودودي)

‎هذه الأفكار التي ظهرت في الأربعينيات عبر كتابات المودودي وتمت ترجمتها في مصر  ، وخصوصاً كتابه (المصطلحات الأربعة في القرآن) والذي طبع لأول مرة في الهند عام 1941 وترجم للعربية في 1955 .

أبو الأعلى المودودي
أبو الأعلى المودودي

الدائرة الثالثة

‎وهنا بدأ التحول الجذري في الدائرة الثالثة المصرية وهي جماعة الإخوان المسلمين)  التي يمكن أن نعتبرها قد نشأت بدعم وتمويل بريطاني في 1928 (تبرع شركة قناة السويس) وكان هدف بريطانيا من ذلك هو ضمان ألا تنهض أي حركة تحرر وطني ذات صبغة يسارية (وذلك في سياق فزع النخب الإستعمارية الأوربية من تأثيرات الثورة البلشفية وقتذاك  علي قوي التحرر الوطني في المستعمرات وفي المجتمعات الأوربية ذاتها ) ..

‎مايهمنا في ذلك اختصاراً هو ذلك التحول النوعي الذي نجم عن قراءة سيد قطب في خمسينيات القرن الماضي لكتابات أبو الأعلي المودودي وتأثره الشديد بها والذي ظهر جلياً في كتابه الشهير (معالم في الطريق) عام 1964 والذي تبني  فيه أفكار (الحاكمية) و(الجاهلية) و(الجهاد) وهي نفس أفكار أبو الأعلي المودودي (نسخة إسلام الهند الإنجليزية)

‎لدرجة أن المودودي عندما قرأ كتاب معالم في الطريق لسيد قطب قال في أحد لقاءته مع تلاميذه في باكستان (كأني أنا الذي ألفت هذا الكتاب)

‎وفيما بعد قص المودودي علي تلاميذه كيف أنه قد أحس بغصة وباختناق شديد لم يعرف لها سبباً ولكنه علم غداة إعدام سيد قطب أن هذا الاختناق وهذه الغصة كانت هي لحظة إعدام سيد قطب  ..، إذن شكلت أفكار أبو الأعلي المودوي دور الملهم والمرشد لسيد قطب ولكتابه (معالم في الطريق) الذي كان بمثابة البلورة الحقيقة للبناء النظري للجماعة (وهي ماكان حسن البنا غير مؤهل لإقامته كأساس فكري لإيديولوجية الإسلام السياسي) وافكار سيد قطب المتأثرة تأثراً شديداً بأفكار أستاذه ومرشده المودودي هي التي صاغت جدول أعمال جيل الثاني لجماعة الإخوان المسلمين وانتقلت بشكل أو بآخر لكافة الحركات والمنظمات المنبثقة عنها في مصر والشرق الأوسط ومنها انبثقت (التيارات الجهادية المسلحة) والتي امتد تأثيرها لباكستان وافغانستان وصعد إلي ذروته في مصر وباكستان تزامناً مع بداية الحرب الأفغانية الأولي..

سيد قطب
سيد قطب

‎وهنا كان المناخ الملائم لظهور طالبان (الجيل الأول) في 1994 واجتياحها لافغانستان انطلاقاً من مناطق الباشتون الباكستانية الأفغانية متحالفة مع تنظيمات القاعدة(المتطوعين العرب في صفوف الجماعات الإسلامية الأفغانية المقاتلة في الحرب الأفغانية الأولي)  ..

‎وفي ظل هذا الوضع وهذا المناخ قبل احداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ كانت بداية تلاميذ دار العلوم الإسلامية التي تشرف عليها المخابرات الباكستانية بأموال سعودية وتدبير مخابراتي أمريكي  وجري تأسيس الجماعة أثناء حكم أمراء الحرب الأفغانية الأولي وانشئت طالبان (الطلبة بالترجمة العربية) بتسليح باكستاني/أمريكي  في عام 1994 وقامت بعد ذلك باجتياح  افغانستان في عامي 1996 ، 1997 انطلاقاً من مناطق الباشتون الباكستانية الأفغانية متحالفة مع تنظيمات القاعدة(المتطوعين العرب في صفوف الجماعات الإسلامية الأفغانية المقاتلة في الحرب الأفغانية الأولي) ، ثم تداعت المشاهد إلي أن وصلت إلي 11 سبتمبر 2001 عندما تمرد المصنوع علي الصانع ليوجه له تلك الضربة المؤلمة التي تمثلت في تفجير برجي التجارة العالميين في قلب أمريكا التي كانت ما كادت ان تهنأ او تستمتع بإحرازها نصراً هائلاً علي الإتحاد السوفيتي والمعسكر الإشتراكي . ويمكنني القول هنا انه اذا كانت الحرب الافغانية هي نقطة الحسم في انهيار القطبية السوفيتية ومن ثم المعسكر الإشتراكي ، وفي اللحظة التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت فيه هيكلة العالم الذي تربعت علي قطبيته .. فان  الحادي عشر من سبتمبر هو بداية النهاية للقطبية الأمريكية المطلقة التي لم يزد عمرها كثيراً عن العشر سنوات ، وتلك كانت بداية  مرحلة جديدة في السياسة الدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock