منذ نحو عشرين عاما، وفي أمسية رمضانية دافئة؛ اعتلت سطح مسرح كليتي في جامعة عين شمس –فرقة موسيقية يقودها رجل شديد الوقار، كما توحي ابتسامته الهادئة الواثقة وملامحه التي بدت أشبه بملامح الأب الحنون الذي طالما قدمته أفلام السينما المصرية.
كان ذلك الأشيب الوقور هو المايسترو “ألفريد جميل” الموسيقي المصري الذي شكَّل تلك الفرقة وأسماها “قيثارة” بغرض تقديم الموروث الموسيقي المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام من خلال مجموعة من الشبان والفتيات الموهوبين.
على مدار ساعة كاملة في تلك الأمسية، امتع المايسترو –الذي بدا كأب يقود أولاده– الجمهور بمختلف أنواع وأنماط الأغنية العربية من “الدور” إلى “الموشح” إلى “المنولوج” الكوميدي الذي قدَّمته الفرقة بكثير من خفة الظل.. ولم يفت “جميل” أن يقدم ما يُعرف باسم “أكابيلا” أو الأغنية التي تعتمد على الأصوات البشرية كبديل للآلات الموسيقية من خلال رائعة محمد فوزي “طَمِّني”.
كما لاحظت أنَّ “جميل” يسبق كل أغنيه بشرحٍ وافٍ موجهٍ إلى الجمهور لنوعية الأغنية وسياقها التاريخي، وأدهشتني قدرته على تقديم المعلومات الموسيقية والتاريخية، بشكل مبسط للغاية بعيد عن التعقيد الذي يغلب على المتخصصين في هذا المجال.
دفعني هذا الحفل الممتع لمتابعة المايسترو “جميل” وفرقته؛ وأدركت أنَّ “جميل” الذي ولد في القاهرة في خمسينات القرن العشرين، ودرس في مدارس “الفرير” الفرنسية وقع في حب الموسيقى العربية منذ نعومة أظفاره؛ وقاده هذا العشق إلى الدراسة المتخصصة في كل من: معهد الموسيقى العربية و “الكونسرفتوار” ثُمَّ أتمَّ مشواره الأكاديمي بالحصول على درجة الدكتوراه في فلسفة الفنون عام ١٩٩٠، وكانت رسالته لنيل هذه الدرجة عن المقامات الموسيقية العربية.
اكتسب الموسيقار “جميل” خبرةً واسعةً من خلال العزف في فرق كبار الملحنين مثل: موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب والموسيقار رياض السنباطي.
وقد أخذ الفنان على عاتقه منذ ذلك الحين تجديد الموسيقى التي أحبها؛ فأضاف أساليب جديدة في التأليف مثل: استخدام موسيقى الجاز والبلوز في قوالب شرقية بحتة.
كما أوجد قراءات عكسية، بحيث تتم قراءة النوتة الموسيقية من اليمين إلى الشمال، بدلا من الشمال الى اليمين، لتصبح «مقطوعة ثانية» كما أسماها.
اقتبس “جميل” من لعبة الشطرنج أسلوبا جديدا في عزف آلة “الكمان” يتلخَّص في مواجهة بين عازفين؛ يبدأ أحدهما العزف بشكل منفرد، ثم يردُّ الآخر في طقس يشبه تماما خطوات اللاعبين على رقعة الشطرنج.
ومن بين المقطوعات التي ألَّفها “موسيقى التواصل” و”دويتو العود” و”لونجا جاز” و”لونجا كروماتيك” وغيرها الكثير.
وقادته آلة “الكمان” التي أحبها، والتي أصبح عازفا منفرداً لها إلى جانب تمكُّنِه التَّام من العزف على العود إلى بلدان عدة سواء عربية مثل: الكويت التي عمل فيها أستاذا في كلية التربية الأساسية، وعلَّم فيها جيلا كاملا من الموسيقيين الشبان، أو أجنبية مثل: النمسا، حيث عزف على مسارح فيينا، وأقام وِرَشًا موسيقيةً في الولايات المتحدة؛ حضرها طلابٌ عربٌ وأتراكٌ وأجانبُ وباتت عادة سنوية بالنسبة له.
كما تعاون “جميل” مع عددٍ كبيرٍ من الموسيقيين مثل: الموسيقي المصري الحاصل على جائزة “غرامي” فتحي سلامة” وفرقة “المصدر” النرويجية إضافةً إلى فرقة “كايرو ستبس” المصرية وغيرهم.
ولم تكن فرقة “قيثارة” التي أسسها عام ١٩٩٩، سوى محاولة من محاولاته المتعددة؛ لتدريب جيل جديد من العازفين والمطربين على تراث الموسيقى العربية، والأغاني المصرية ولا أبالغ إن قلت: أنَّها كانت أيضا محاولةً لتأسيس جيلٍ جديدٍ من “السَّمِّيْعَة” أو محبي هذا النوع من الموسيقى.
وقد اعتمد “جميل” في تكوين هذه الفرقة على العناصر والآلات الموسيقية الأساسية للتخت العربي التقليدي مع إضافة بعض الآلات الجديدة.
وفي العاشر من شهر نوفمبر من عام ٢٠٢١، رحل “جميل” بعد مسيرةٍ فنيةٍ وإبداعيةٍ طويلةٍ؛ لتصمتَ لأول مرةٍ قيثارته التي لم تفارقه يوما.