وهل بوسعنا ونحن نحتفى بالمبدع “سيد رجب” أن تتمكن أقلامنا من التعبير عن ذلك التعدد في جوانب شخصيته وفنه ومواقفه، وذلك العمق في مسيرته والتحدي الذى بلغ حد المثال في تجربته.
يبدو أن الأمر صعبٌ؛ لكننا سنحاول.. بيد أنَّ الاحتفاء بقيمة بحجم “سيد رجب” هو واجب علينا وحق له.
ليس فقط لأنَّه ممثل عظيم الموهبة؛ لكنَّه –أيضا– حالة تستحق الاقتراب منها ومن تفاصيلها المتعددة.
هو فنان الاختيارات الصعبة.. ليس فيما قدَّم من أدوار على المسرح أو عبر الشاشات فحسب؛ لكن على مسرح الحياة –أيضا– كان عليه أن يحسم اختياراته المتعددة.. بين السياسة والفن.. بين الواجب الوطني والدور الفني.
فهو صاحب الرحلة الأصعب والمشوار الأكثر زخما وإثارة بين أبناء جيله.
فما بين المُعتقل وخشبة المسرح.. وبين شركة النصر للسيارات وجوائز الحكي والمسرح التجريبي.. وبين اجتماعات السياسة وبروفات مسرح الورشة؛
لن نجد فارقا بين “سيد رجب” المثقف والمناضل وبين “سيد” الفنان الذي لا يستطيع أن يحيا بعيدا عن الفن.. فهو الإنسان الذي يثق جيدا في موهبته ويخلص لها بالتعلم الدائم والتدريب المتواصل والمعايشة الحقيقية، لواقع ناسه الذي طالما عبر عنه وجسده وانتمى بكل صدق له.
تعدد الاختيارات ملأ الرحلة الممتدة والمستمرة والغنية بالعطاء والإبداع والوعي والألق.
في السياسة والفن
في 16 نوفمبر ولد “سيد رجب السيد الذهبي” في أسرة متوسطة ومبكرا بدأت علاقته بالتمثيل، وخلال دراسته الجامعية انخرط في العمل السياسي.. وكان “سيد” يحلق بجناحين خلال مرحلة شبابة الجناح الأول هو السياسة حيث ارتبط بالحركة اليسارية المصرية، وكان أحد الكوادر النشيطة، ما تسبب في تعرضه للاعتقال مرتين. وقد عبَّر “سيد ” في أكثر من لقاء عن استفادته الكبيرة من تجربة السجن التي أضافت له وتعرف خلالها على عوالم مختلفة كما أنَّها ساهمت في تشكيل وعيه
كما أكد مرارا على فخره بما قدَّمه خلال تجربته السياسية مشيرا إلى أنَّه في لحظة الاختيار الحاسم انحاز للفن لأنَّه الشيء الذى لا يمكنه أن يحيا بدونه بينما كانت السياسة واجب يقوم به من أجل أفكار العدل الاجتماعي التي ما يزال متمسكا بها.
بعد تجربة الاعتقال الثانية التي تَعرَّض لها قُبيل افتتاح أحد العروض المسرحية.. اتخذ قراره النهائي بالتفرغ تماما للفن.
فرقة الورشة … الفن للناس
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كان “سيد رجب” مولعا بالمسرح وكان يقدم عروض “الحكي” والمسرح التجريبي مع رفاق مسيرته –الفكرية والفنية– وهم: “عبلة كامل” و”أحمد كمال ” و”سلوى محمد علي” و”عارفه عبد الرسول” وأثناء تلك المرحلة تعرَّف على المخرج “حسن الجريتلى” وشاركه تأسيس “مسرح الورشة ” عام 1987.
كانت مصر في تلك المرحلة تموج بالمسرح التجاري الذى بهرت أضواؤه عيون الكثير من الشباب الذين حلموا بالوقوف عليه سعيا للمال والشهرة؛ بينما كان “سيد” ورفاقه ينحتون في صخر صناعة الوعى.
وقف “سيد” ورفاقه على مسارح فقيرة الإمكانيات لكنها غنية بالمواهب، وثرية بالنصوص المبهرة والعظيمة التي تنير العقول وتثرى الوجدان.
هكذا كانوا يرون دور الفن ويتحدون الواقع المؤلم الذي سيطرت عليه قيم الانفتاح وقوانين تسليع الإبداع وانخراط الكثيرين في هذا المسار السطحي.
كان “سيد” قابضا على جمر انحيازاته وقناعاته بأنَّ الفن للناس وأنَّ للمسرح قُدسيَّة ورسالة ودور في التغير نحو الأفضل.
كانت تجربة “مسرح الورشة” مُلهمة لأبناء جيل “سيد” والأجيال المتعاقبة، ولكل من تشارك معهم في الإيمان بدور الفن وأهمية المسرح الجاد في مواجهة القبح والتراجع الذى زحف على كل مناحي حياتنا وتمكن من بعضها.
لكن تجارب مستقلة في الفنون ظلت قوية وعفية ومقاومة وتنبض بالحياة والإبداع.
طوال حقبة التسعينيات ظلَّ “سيد رجب” كائنا مسرحيا تماما.. يسبح في بحر البشر، يتعلم ويصقل موهبته المتوهجة.. يقرأ بنهم ويمثل بحب ويتعلم بإخلاص.. إلى جانب كل هذا فهو يوفر احتياجاته من عمله مهندسا بشركة النصر للسيارات التي ظل يعمل بها لأكثر من عشرين عام.. لم يتركها لأنَّها المصدر الأساسي بل والوحيد للعيش في الوقت الذي لم يكن المسرح يمثل له مصدر رزق بل كان فقط عشقه الأكبر وولعه اللامحدود.
وجاءت لحظة الانتشار
في عام 1993، قدَّم “رجب” دورا صغيرا في فيلم “أحلام صغيرة ” مع صديقة المخرج خالد الحجر، ثم مشهدا صغيرا أيضا في فيلم “أحلام مسروقة” مع المخرج الكبير “محمد كامل القليوبى” ثم جاءت الفرصة الأهم والانطلاقة الأولى، عندما التقى المخرج “مروان حامد” ليقدِّم شخصية المعلم “سراج” في فيلم “إبراهيم الأبيض” عام 2009، وتلك الشخصية التي لفتت الأنظار له كممثل يمتلك موهبة كبيرة وواعدة رغم الظهور المتأخر على الشاشة.
وتوالت الأعمال واستمر التألق وكأنَّ “سيد” قد قضى ما مضى من عمره يدرس ويتعلم ويتدرب من أجل تلك اللحظة التي يثق في أنَّها آتيه بالتأكيد كان عام 2011، مميزا في مسيرته حيث قدَّم خلاله فيلم “الشوق” وهو من تأليف “سيد رجب” وإخراج “خالد الحجر” كما قدَّم أعمالا أخرى مثل: فيلم “أسماء” للمخرج “عمرو سلامة” وفيلم “صرخة نملة” لـ ” سامح عبد العزيز”.
إلا أنَّه حقق انتشارا أكبر بعد مشاركته في عدد من الأعمال الدرامية، التي ظهرت في نفس العام منها “رمضان مبروك أبو العلمين” و”الموطن أكس” وكان “سيد رجب” قد أبدع في تقديم شخصية “ماهر عبد السيد ” في مسلسل “الحارة” في عام 2010.
هكذا كانت انطلاقة “سيد رجب” نحو عالم التحقق وكأنَّه على موعد مع مرحلة جديدة في حياته التي وهبها للفن والوطن.
وكان عام 2013، محطة مهمة في مسيرة حافلة حين قدم شخصية “حمادة غزلان” في مسلسل “موجة حارة” الذي حقق نجاحا كبيرا واستطاع “سيد” أن يضع نفسه في مكانة تليق بموهبته.
في نفس العام تألق في أحد أصعب أدواره وأروعها وهو شخصية “بحر” في مسلسل “آسيا” من إخراج “محمد بكير”.
تلك الشخصية التي كشف خلالها “سيد رجب” عن قدرات تعبيرية مذهلة؛ تفوق ما اعتاد عليه مشاهدو الدراما التلفزيونية وأطلق “رجب” عنان موهبته الكبيرة، ومخزون تدريب المسرح التجريبي؛ ليحلِّق في أعلى مستويات الأداء التعبيري.
ربما عاود “سيد” الاستعانة بذلك المخزون عندما قدَّم عام 2017، شخصية “الشاويش إبراهيم” في مسلسل “واحة الغروب” مع المخرجة المبدعة “كاملة أبو ذكرى” وفى نفس العام 2013، يقدِّم شخصية “البلعوطى” في مسلسل “فرعون”.
وتتميز موهبة “سيد رجب ” بأنَّها شديدة التنوع وقادرة على تجديد نفسها وفقا لكل شخصية؛ فنجده يدخل إلى منطقة الأداء التلقائي البسيط، وربما لا تشعر بأنَّه يُمَثِّل كما فعل في “حارة اليهود” أو “بين السرايات” أو “رمضان كريم” أو “أبو العروسة”.
في حين تجده يفتح كنوز الحياة وطاقات المسرح وعبقرية التعبير، وهو يقدم شخصيات مثل “عز” في مسلسل “فوق مستوى الشبهات” أو “عبده” في “أفراح القبة” أو “بدر” في “لعبة نيوتن”.
نحن –في كل الأحوال– أمام ممثل لا حدود لموهبته المتوهجة والتي تشبه على حد وصف البعض “عود المسك” الذي كلما اشتعل بنشوة الإبداع كلما تزايد عطره واتسع محيط تأثيره.
ممثل يستطيع أن يبعث بكل الرسائل من خلال نظرات عينه شديدة التعبير والصدق والتلقائية دون أن يبذل أدنى جهد في ذلك.
ما زال “سيد رجب “يعطى للفن المصري؛ ليس إبداعا عظيما فقط؛ لكن أيضا يعطى نموذجا للفنان الواعي المثقف الملتزم.
قضى ما مضى من عمره متمسكا بقناعاته الفكرية والفنية ومازال يردد أنه يتعلم ويتدرب ويؤمن بأنَّ الفن وسيلة للارتقاء بالشعوب ومعبرا عن آلامها وأحلامها.
لذلك نقول “كل سنة وانت طيب” يا أستاذ؛ دمت مبدعا مثقفا نبيلاً.. فنانا حقيقيا نادرا بين زحام أنصاف الموهوبين ومحدودي الثقافة والوعى.
يقف “سيد رجب” مبتسماً دون ادعاء.. صادقا دون زيف.. واعيا دونما استعراض.. صادقا دائما مع نفسه ومع ناسه.