حاوره: عاطف محمد عبد المجيد
رغم أنَّه بدأ كتابة الشعر بقصيدة عمودية طويلة، ألقاها في الإذاعة المدرسية، إلا أنَّ “ندَّاهة” شعر العامِّيَّة اجتذبت جمال فتحي إليها فأصدر عددًا من الدواوين منها: في السنة أيام زيادة، عنيّا بتشوف كويس، جلد ميت، لابس مزيكا، وغيرها. فتحي يعمل بالصحافة ويحرر الآن صفحة أدباء مصر بجريدة الجمهورية. فتحي الذي مارس كرة القدم حتى المرحلة الثانوية ثم تركها لصالح استكمال دراسته الجامعية، يكتب إلى جانب شعر العامِّيَّة القصة القصيرة وقصيدة الفصحى والمقال النقدي، كما ينتظر صدور أول مجموعة قصصية له قريبًا. هنا وفي هذا الحوار نفتش في حقيبته الشعرية لنعرف الكثير عن محتوياتها وما بها من إبداع.
* بداية أريد أن أعرف كيف اجتذبتك قصيدة العامِّيَّة إلى عوالمها؟
**ربما لا أستطيع تقديم إجابة واضحة عن هذا السؤال لأسباب متفرقة، لكن لو حاولت البحث عن سبب مباشر، ربما يكون حبي للأغنية وكتابتها، وبدايتي في المرحلة الإعدادية بتأليف عدد من الأغاني، متأثرا بكلمات سيد حجاب وفؤاد نجم، وأغاني منير التي لفتت انتباهي لاختلافها الواضح، حيث كانت تلك الأغاني نافذة صغيرة على عالم واسع من الكتابة بالعامية عند جاهين ونجم ومجدي نجيب وعبد الرحيم منصور وغيرهم، وبالتدريج وجدتني أصعد من كتابة غنوة إلى المغامرة بكتابة قصيدة طويلة، ثم عرفت الطريق إلى الشعر الحقيقي بمعناه الواسع وعوالمه الفسيحة بمرور الوقت من الثانوي إلى الجامعة؛ لأقرأ إنتاج حداد والأبنودي وأساطين العامِّيَّة بالتوازي مع عبد الصبور وحجازي ودرويش ودنقل، وفتحت لي الدراسة في دار العلوم أفقًا للتوقف أمام القصيدة العربية من جذورها عند امرؤ القيس والنابغة وعنترة وطرفة ومن جاء بعدهم. لكن ظلت قصيدة العامِّيَّة تسكن منطقة خاصَّة في الروح والوعي والوجدان والذائقة.
* يحسد شعراءُ الفصحى شعراءَ العامِّيَّة على قربهم من الجمهور وتأثيرهم فيه بسرعة وبساطة.. وأسألك أنت بوصفك شاعرَ عامِّيَّة عن الأسباب التي تجعل قصيدة العامِّيَّة أقرب إلى المتلقي من قصيدة الفصحى؟ وهل لدى شعراء الفصحى ما يدعو شعراء العامِّيَّة ؟
** من الطبيعي أن تحتل قصيدة العامِّيَّة تلك المكانة الخاصَّة في قلوب الجماهير، لا سيما إن كانت لأسماء مثل: حداد وجاهين والأبنودي وسيد حجاب، فكل واحد منهم كان بالفعل ترجمانا لمشاعر وشواغل وآلام وآمال الناس، وقد كانت وستظل قصيدة العامِّيَّة الأكثر التصاقًا بأوجاع الناس وتمثيلهم، ولعلك رأيت كيف استدعت الحشود في ميدان التحرير تراث نجم والشيخ إمام وأغاني حداد وجاهين، لتجسِّد مشاعر الثوار ومطالبهم، وفي النهاية لن تجد قصيدة أو غنوة يمكن أن تختزل وتعبر عن الثائر المصري الحقيقي في يناير مثل” فلان الفلاني” لمصطفى إبراهيم، أمَّا عن الحسد والغيرة المشروعة، طبعًا، بين الشعراء فأعتقد أنَّ الشعر الحقيقي الذي يقبض على جمر الدهشة ويختزل الوجود ويقطِّر تجربة الإنسان بصياغة بديعة، هو الذي يستحق أن نحسد شاعره، سواء فصحى أو عامِّيَّة.
بين الشعر والصحافة
* أنت شاعر يعمل صحفيًّا، وكما يقولون إنَّ الصحافة مقبرة الإبداع، فكيف حافظ جمال فتحي على اتقاد شرارة الإبداع داخل دهاليز وأروقة الصحافة؟
** الصحافة تستنزف الطاقة والمجهود البدني والذهني، كما تستنزف الكتابة بأشكالها عبر التعبير الصحفي المكرور اليومي والمتواصل، لكن بشكلٍ خاصٍ فإنَّ منحتى الإلهية من الشعر أكبر من تأثير الصحافة، فقد تمكَّن مني مبكرًا وصار متنًا في روحي ومغناطيسًا كبيرًا وضخمًا يجذب كل تفاصيل حياتي إليه، فإذا حل وحضر يتوقف الكون عن الدوران حتَّى يأخذَ حصته مني، وآخذ حصتي منه، ثم نودع بعضنا بعضًاعلى وعد باللقاء.
* منذ فترة قريبة وأنت تحرر صفحة ” أدباء مصر ” التي تعتبر من أهم صفحات الثقافة في الصحف المصرية.. كيف جاءتك الفكرة وإلى أي مدى تريد أن تصل بها؟
* في ديوانك “لابس مزيكا” جعلت الشاعر سيد العالم ومحوره.. حدثني عن علاقتك بالشعر، وكيف ترى الشاعر في عالمنا هذا؟ هل هو مجرد ديكور كما يرى بعضهم؟ أم هو الأساس الذي ينبني عليه كل شيء في الحياة؟
** هذا سؤال صعب فعلًا، وربما يكون أيضًا سؤالًا سهلًا، لا أدري فعلًا! إذ كيف يمكن أن أتحدث عن الشعر وأنا منذ ما يزيد عن عشرين عامًا أفتش عن حقيقته وأحاول الوصول إلى معناه ولمس جوهره ولم أصل بعد، فهل يجوز أن أقول إنَّ الشعر هو ذاتي الأخرى!.
أما الشاعر في عالمنا هذا فهو إنسان زائد عن حاجة الوجود للأسف، إنسان يكتوي بنيران الرؤى، ولا يصدقه أحد مثل زرقاء اليمامة، بل ولا يدري به أحد، وقد انقضى زمنه الذى كان فيه قاطرة الشعور في الوجود، وصار عبئًا حتى على ذاته.
الشعر أعطاني الكثير
* في إحدى قصائد ديوانك “لابس مزيكا” تقول: ” أنا حاضر من الأول / مين فيكم كتبني غياب؟! “..من وجهة نظرك ما الذي يجعل الشاعر حاضرًا دومًا في المشهد الحياتي؟
** قصيدة الشاعر وتماهيها مع الإنسان في كل زمان ومكان هي جواز حضورها دائمًا وأبدًا، وإذا حضرت القصيدة فقد حضر الشاعر، ونتمنى أن يعود الشعر ذاته إلى الحضور في مشهد الوجود، وأن يدوم هذا الحضور ليعود للإنسانية معناها.
* ما هو طموح جمال فتحي شعريًّا وصحفيًّا؟
** ربما لا أجد مفردة أو تعبير “طموح” منسجمًا مع الشعر، فليس لديّ فعلًا بخصوص الشعر طموح أسعى لتحقيقه، لكن إن كان ولابد من إجابة، فكل أملي أن يرضى الشعر عني وأن يفتح لى أبواب خزائنه، ويبوح لي ولو بسر واحد من أسراره، وأن يكشف لي خبيئته، ويقبلني مريدًا، وأن أكتب قصيدة كلما عدت إليها أبتسم، ولا أشعر بالندم على حرف منها، أمَّا الطموح الصحفي فكل ما أتمناه أن تستعيد صاحبة الجلالة رونقها بشكل عام، وأن تستعيد الصحافة الثقافية دورها وقيمتها الحقيقية، وأن أنجح في إضافة ولو كلمة واحدة تسجل في تاريخها الطويل.
* ماذا تنتظر من الشعر، وما هو تخيلك لقصيدتك القادمة مستقبلًا؟
** لا أنتظر من الشعر شيئًا فعلًا، الشعر أعطاني كثيرًا وما زال يعطي، وأعتقد وأتمنى أن يكون الشعر هو الذي ينتظر مني، ولست أنا، أما قصيدتي القادمة فأنا أسعى إليها وأظنها تسعى إليّ وسيتحدث كلانا عن الآخر حينما نلتقي فعلًا على الورق وليس الآن.
* بوصفك شاعرا..هل ترى إمكانية استمرار الحياة دون وجود الشعر فيها؟
** الحياة مستمرة فعلًا يا صديقي عند الكثيرين دون وجود الشعر والشعراء، ولا تعتقد أنَّ غياب شاعر أو غياب جميع الشعراء واختفاء قصائدهم من الوجود قد يصنع فارقًا لدي ملايين البشر..فالشعراء وقصائدهم، والغاوون جميعًا قلة نادرة في هذا الوجود الذي يسير في رحلته، ربما لا يشعر بنا أصلًا. نحن الشعراء فقط الذين نشعر بضرورة وجودنا، وأخشى أن يكون ذلك الشعور زائفًا..وقارن بين متابعي مباراة كرم قدم لفريق كبير وبين حضور أمسية لشاعر ما –مهما كان كبيرًا– ستعرف أننا ضيوف على هذا العالم.
* هل لديك جديد ينتظر الظهور قريبًا؟
** بالفعل هناك عملان تحت الطبع، الأول ديوان شعر جديد، وكذلك مجموعة قصصية لم أستقر بعد على عنوانيهما، وفي الغالب أختار عناويني في اللحظات الأخيرة قبل دوران عجلة المطبعة، حتى أستفيد دائمًا من الوقت في اختيار الأسماء وتداولها مع نفسي مرارًا قبل أن أرضى عنها.
* هل يمكنك أن تلخص واقعنا الراهن شعريًّا؟
** واقعنا يشبه قصيدتنا، غائم إلى حد كبير، ولا أريد أن أقول زائفًا وفقيرًا يخلو من الجمال، لكنَّه بالفعل واقع قاس، لم يعد لأحد منا إرادة فيه، صرنا جميعًا مثل ورد النيل ضيوف على وجه الماء، فلا صداقة راسخة، ولا عشق ثابت، ولا محبة مضمونة إلا قليلًا، وقد زادت “كورونا” من غربتنا وابتعادنا أكثر فأكثر، وربما تصدق هذه الأبيات من ديواني الجديد في التعبير عنه:
” قابلت بني آدمين ياما
وياما قابلت بني آدمين
أكلنا وشربنا
ضحكنا ولعبنا
وفجأة سألوني إنت مين؟!