انتظر الدكتور صابر حتى يرتاح المريض في جلسته، ثم طلب منه أن يزيح الكمامة التي غطت فمه وأنفه عن وجهه. ولما رفع المريض الكمامة بدت ملامح رجل تخطى الخامسة والسبعين في قسماته وتجاعيد وجهه وخطوطه التي بانت وكأنها محفورة في لحمه المترهل. وغطت طرف شفته العليا من جهة اليمين شامة سوداء نبتت فيها بعض الشعيرات.
كان الطبيب ينتظر رفع الكمامة حتى يبدأ في فحص أسنان الرجل. وما إن أزاح المريض الكمامة حتى جفل الطبيب وكأنه رأى شيئا لم يكن يتوقعه.
”هل هذا الوجه هو؟ .. هل هو الوجه نفسه؟ هل يعقل هذا؟ أم تراني مخطئا؟ لا يمكن .. لا يمكن … إنني أتوهم، وياله من وهم مفجع، وكيف يسوقه القدر إلى عيادتي؟ لا .. لا.“
”ربما نسيت ملامحه .. إذ كانت آخر مرة أراه فيها صدفة منذ حوالي عشرين عاما، عندما كنت أزور أختي في مدينتنا في الجنوب. أتذكر؟ .. ودخلت الشارع الذي كنا نسكن فيه، ولمحت دكانه الكئيب ذا الباب العريض. مازال الدكان في مكانه، وإن كان غبار الزمن قد غيره، فبهتت ألوانه وتفسخت ألواحه الخشبية، وأحسست أنه ازداد قتامة. كان هناك رجل يجلس على كرسي أمام الدكان، وظهره يواجه الطريق، يدخن شيشة مهترئة .. الغصة انتابتني حينما تلفت فجأة، فرأيت الشامة التي تميز شفته العليا .. إنه هو إنه هو… وكان اللعين وقتها مازال قويا معافى!“
”تعكر صفو تفكيري أكثر مما كان مكدرا، فقد عانيت في الحافلة من القرف، والتكدس والمزاحمة والاختناق والعرق، والتصاق الأجساد الكريه الذي يحدث أحيانا عن قصد وإصرار وبسوء نية من أناس مرضى. وقررت فعلا أن أبذل ما في وسعي لشراء سيارة تحميني من هذه الممارسات غير الأخلاقية.“
ورفع الطبيب يده اليمنى إلى وجهه وكأنه يدفع عنه شيئا أزعجه في الهواء.
وعاودته الغصة التي تنتابه كلما تذكر ذاك اللعين، ولكنه رأى وجه أمه وقد لاح أمامه وهي تحتضنه بينما كان يبكي في صدرها.
كانت الغرفة نظيفة تماما، ولم يكن يحوم في هوائها أي شيء إلا أفكاره هو، وربما أوهامه أيضا.
وهز صابر رأسه هزة مفاجئة إلى اليمين، وكأنه يطرد ما ساوره من أفكار. ومال بنصف جسده الأعلى مادا يديه تجاه فم الرجل، ولاحت له الشامة على شفته العليا.
”إنه الوجه ذاته .. أكاد أجزم .. والشامة نفسها … وعينا البومة الواسعتان الجاحظتان .. لكن .. هذا رجل عجوز .. بل نصف مشلول .. كانت السيدة التي صاحبته إلى العيادة تسنده وهو يمشي .. لم يكن يستطيع تحريك رجله اليمنى ولا ذراعه اليمنى، بل يجرجرهما .. لا .. لا .. لا يمكن! .. ذاك اللعين كان .. نعم كان .. فقد مضت سنوات .. قويا .. وممشوقا .. هل هو الزمن؟“
وحاول صابر أن يغالب وساوسه، وشد من عزمه ولكنه توقف. أحس بتيبس في يده اليمنى فلم يعد يستطيع تحريكها ليفحص فم الرجل.
”الفم نفسه .. والشامة .. ما زالت هناك شعيرات غير كثة فوق الشفة العليا لشارب قديم .. لكن ما يحيرني هو الاسم … الاسم ليس هو الاسم … كيف يصبح نديم، هذا الاسم المحفور في ذاكرتي .. الاسم الذي أكرهه ويثير تقززي .. كيف يصبح .. هذا المريض اسمه نسيم؟ وأي نسيم هذا؟ … لا … لا“.
وهمست الممرضة: ”دكتور، هل أنت بخير؟“
فرد عليها تلقائيا دون أن ينتبه لسؤالها: ”لا … لا“
وعاودته الغصة، ولاح له وجه أمه وهي تحتضنه بينما كان يبكي في صدرها.
وخرج من الغرفة بسرعة، واتجه إلى غرفة الاستقبال. لم يكن في الغرفة إلا تلك السيدة التي كانت تصطحب ذاك المريض. وحمد الله أن زوجته حنان مازالت موجودة في العيادة، جالسة وراء مكتب الاستقبال تراجع فيما يبدو بعض أوراق المرضى.
ومال برأسه نحوها ليلفت انتباهها إلى وجوده، وقال لها بصوت هامس متهدج بدا متعبا: ”أرجوك أن تتولي عمل اللازم للمريض بالداخل، أنا تعبان“.
فسألته بعد أن انتفضت قائمة وقد امتقع وجهها: ”ما بك؟“
فرد عليها وكأنه يريد أن ينهي الحديث: ”لا شيء، ذراعي لا أستطيع رفعها. عاودني ألم تيبس الكتف، نتكلم فيما بعد. سأرتاح هنا في الاستقبال.“
وفضل صابر أن يرمي بثقله على الأريكة المواجهة لباب غرفة الاستقبال لأنها، كما أحس، أكثر راحة من الكرسي الموجود وراء مكتب الاستقبال.
مازالت تجلس أمامه بالضبط السيدة التي اصطحبت المريض، تقلب بعض صفحات المجلات القديمة بيدين مضطربتين.
”هذه السيدة لم ترها من قبل. تبدو في أواخر عقدها الثالث … أنت تكبرها بعشر سنوات تقريبا … لديّ أسئلة كثيرة حائرة، هل ستجيب عليّ إن سألتها؟“
تردد قليلا وأخذ يفكر كيف يبدأ الحديث معها. لكنها بادرته هي بسؤال: ”هل بابا بخير يا دكتور؟“
”الآن عرفتُ … هو إذن أبوك … بداية طيبة.“
فرد عليها في هدوء مصطنع يغطي اضطرابات صدره: ”إنه بخير، أما أنا فلست بخير، لكن الأمور ستكون على ما يرام، لا تقلقي. هل أنت ابنته؟“
”طبعا هي ابنته … لماذا تضيع الوقت في أسئلة غير مفيدة!“
فقالت: ”نعم يا دكتور، ابنته الوحيدة. والملازمة الدائمة له، بعد إصابته بذبحة انتهت بشلل نصفي للأسف.“
وتمتم صابر في صوت هامس: ”لا حول ولا قوة إلا بالله.“
وطأطأ رأسه ثم سرح بخياله.
”يمهل ولا يهمل .. لكن من هو هذا الرجل؟ من هو أبوك؟ ما اسمه الحقيقي؟ نديم؟ نسيم؟“
وانتبهت السيدة إلى زوغان نظرات الطبيب، فتنحنحت وكأنها تلفت انتباهه ثم قالت: ”أنا .. أقصد هو … بدأت أعراض الخرف تنتابه قبل عامين، وللأسف أخذت تزداد، حتى إنه أحيانا لا يعرفني .. وهو فعلا لا يستغني عني.“
وأحس صابر بالتوهان، وتلمس ذراعه وراح يفركها، ثم قال لها: ”مراعاة شخص مثل الأستاذ نـ .. نـ .. نديم مهمة صعبــ …“ فقاطعته بسرعة: ”نسيم … نسيم … بابا اسمه نسيم.“
فاعتذر لها وقد داخله الشك.
”لماذا هبّت فيّك هكذا بلا داع؟ … يا الله! هل .. نديم هذا .. هو نسيم، وهي تحاول أن تداري؟ ولكن لماذا تفعل ذلك؟“
وقال لها متخابثا: ”أنتم لستم من سكان العاصمة؟ أليس كذلك؟“
فانبرت بسرعة: ”نعم … نعم .. نحن من سكان العاصمة. لماذا تشك في ذلك؟“
فقال: ”لا .. لا أشك، لكنني خمنت من لهجتك. لا أكثر.“
فقالت متلجلجة: ”أصولنا … أقصد أصل أسرتي … أسرة أبي من الجنوب.“
وانتابته الغصة، ولاح له وجه أمه وكأنه طيف جاء لحمايته.
”الجنوب! .. هل شعرتَ بكذب هذه اللعينة بنت اللعين؟ .. إنه هو .. نديم .. ربما غير اسمه .. وغير مكان سكنه .. وترك الجنوب .. بعدما .. هل تدري ماذا كان يفعل أبوها .. ذاك التاجر المشهور بطيبته وصلاحه ..؟ هل تعرفين وتحاولين التبرؤ بالإنكار؟“
وتحسس ذراعه، وأخذ يدعكها .. وحرك ذراعه اليسرى طاردا شيئا عن وجهه .. ومال برأسه إلى ظهر الأريكة .. بعد أن أحس بدوخة.
وهنا عادت حنان، ونادت على السيدة معلنة انتهاء الفحص: ”المريض بخير، لديه التهاب شديد في اللثة، لكنه لم يصل إلى الأسنان، والحمد لله. ومع المداومة على الدواء وتنظيف أسنانه سيكون بخير. المراجعة بعد أسبوعين من فضلك.“
وهبت الابنة من جلستها وتوجهت إلى غرفة الفحص لتساعد والدها على الانصراف.
وانتبه صابر إليها عندما وقفت، وقال لنفسه عندما سمع ما قالته حنان: ”مراجعة .. لا.. لا أريد أن أراه هنا في هذه العيادة .. آه من الواجب .. أحيانا يلزمنا بما لا نحب ولا نريد.“
والتفتت إليه حنان وسألته: ”ما بك يا حبيبي؟ أراك منزعجا، ولست على طبيعتك. هل هناك شيء؟“
فرد في تردد: ”لا .. لا .. أبدا، آلام ذراعي عاودتني .. هل تذكرين حالة تيبس الكتف التي أصابتني قبل أشهر؟ أظن أنها عادت تؤلمني.“
لكنها لم تصدقه. شعرت أن وجود هذا الرجل أزعجه، أثار لديه شيئا.
وقالت في صوت حان: ”أحس أن وجود هذا الرجل أزعجك.“
فرد بسرعة محاولا تغيير مدار الحديث: ”لا .. أبدا. ماذا أقول؟ هل هذا آخر مريض لدينا اليوم؟“
فقالت مقترحة: ”نعم. هل نحزم أمرنا ونمشي؟ ما رأيك في أن نتناول العشاء في مطعمنا المفضل الليلة؟“
ورفض صابر اقتراح زوجته برفق متذرعا بأنه متعب ولن يكون حسن الرفقة في جلسة عشاء وهو في هذه الحالة.
وعادا إلى شقتهما التي أتما تجديدها الشهر الماضي بعد زواجهما قبل ستة أشهر.
واستأذن بلطف، وطلب منها، وهو يتوجه إلى غرفة النوم، أن تسامحه لأنه بحاجة إلى الراحة، ولن ينتظر ليتناول معها العشاء، وعليه أن يأخذ حبة مسكنة، وينام.
وفتحت حنان الثلاجة وتناولت بعض بقايا الطعام، ونظرت في ساعتها فعرفت أن موعد المسلسل التلفزيوني الذي تتابعه قد اقترب.
في غرفة النوم ألقى صابر بثقله وحاول أن يرمي بهمومه كلها على السرير، وغطى رأسه بالبطانية بالرغم من دفء الغرفة. أراد أن يدفن أفكاره في العتمة فلا تتسرب وتفضحه.
وأخذ يتقلب مرتين أو ثلاث مرات.
وجه الرجل لا يزال ماثلا أمامه، وأحس أنه أصبح بجانبه، العينان الجاحظتان، والأنف الكبير، والتجاعيد. ونقل جسده بصعوبة إلى الجهة الأخرى. ولاح له وجه أمه ورآها وهي تحتضنه بينما كان يبكي في صدرها.
”أين أنت يا أمي .. كم أفتقدك .. وكم أود أن أرمي بهمومي وتعاستي وأسراري على صدرك الحنون .. لكن يد القدر حرمتني من هذا كله .. كنت أبثك كل ما يضيق به صدري .. وقِدر الهموم يا أمي فاض .. وأخذ يغلي .. وأخشى أن يفور .. فتفوح الرائحة .. أنا بحاجة إلى وقف الغليان .. وتعرية الغطاء حتى يزفر القدر ما فيه .. أنا أعرف أنه بعد هذه السنوات لن يكون سوى بخار .. عندما يخرج إلى الهواء سيصعد ويسقط كحبات الندى .. قولي لي يا أماه ماذا أفعل؟“
وتقلب في نومه ثم راح يغط في سبات عميق.
ورأى أمه تتهادى من باب الغرفة وكأنها تعرفها. كانت تلبس جلبابها الأبيض، وكانت تمسك مسبحتها في يدها اليسرى، وتصحب في يدها اليمنى حنان وتمشي بها ناحية صابر.
مضت أربعون أو خمسون دقيقة.
وشعرت حنان بصوت أنين مكتوم. لكنها حسبته من التلفاز، فلم تلق بالًا له. ثم علا صوت الأنين الذي أحست أنه فعلا صادر عن غرفة النوم. وأدركت صوت استغاثة مكتوما وكأن صابر يختنق. لم تستطع فهم ما يقوله، لكنها فهمت أنه يناديها كي تساعده.
تركت التلفاز، وجرت إلى غرفة النوم، وعندئذ تحولت الاستغاثة إلى صراخ ”ساعد .. يني … حنا…ن … سا عد ..يـــ …ني“.
أصابها رعب، لكنها سارعت وهزته بشدة وهي تقول له: ”صابر … صابر … حبيبي .. ما بك؟ استيقظ …“
واستيقظ صابر وكان وجهه مصفرا، ودبت في جسمه رعشة. وشكرها عندما استجمع قواه. فسألته: ”هل كنت تحلم؟ هل كان هذا هو الكابوس نفسه؟“
فتمتم: ”نعم. لا تقلقي.“
فسألته: ”ماذا رأيت في هذا الحلم المفزع يا صابر؟“
فأحس براحة إلى الرد والكلام: ”البومة السوداء نفسها بعينيها الجاحظتين، تطير وتعلو .. وترتفع .. وتعلو .. ثم تهوي فجأة على صدري فاغرة منقارها .. أعوذ بالله.“
فقالت مهدئة له: ”اللهم اجعله خيرا ..“
ثم عاودت سؤاله: ”أصدقني القول يا صابر، هل هناك ما يزعجك؟ أرجوك فضفض وقل لي … أنا زوجتك وحبيبتك .. أنت رجل متعلم وتعرف أن أول خطوة في علاج أي مشكلة هي أن تفتح منفذا للتنفيس عما في نفسك.“
فرد عليها محاولا تهدئة روعها: ”يا حنان .. ماذا أقول؟ الموضوع وما فيه كا.. كابوس يعاودني وكثير من الناس تعترض نومهم كوابيس. آسف على إزعاجك، وحاولي أن تنامي، وسأحاول أنا أيضا.“
وظل هذا الكابوس يلاحق صابر على مدى أسبوع تقريبا. وبدأت حنان تشعر بالقلق على زوجها. لكنها ظلت تلح عليه حتى يحدثها بما يزعجه.
وفي ليلة ازداد فيها ثقل الكابوس على صابر وكانت حنان في الشرفة فلم تسمعه. وكان صوت استغاثته عاليا، حتى إن أحد الجيران اضطر إلى طرق باب الشقة بشدة خشية أن يكونوا في خطر.
وسمعت حنان الطرق على الباب، فهرولت وفتحته بسرعة، وبينما كان الجار يتحدث معها سمعت صراخ صابر فاعتذرت منه وجرت إلى غرفة النوم وأيقظت صابر الذي كان يرتجف ويبكي.
وقالت له بعد تهدئته: ”صابر .. عليك أن تحكي لي وتتكلم لأن الأمور تتفاقم، وإن لم تستجب فلابد أن نستشير طبيبا.
وأحس صابر بشيء من الراحة وقال لها: ”المسألة لا تستأهل .. هذا كابوس.“
فقالت: ”هذا صحيح. لكنه يتكرر، لا بد أن هناك شيئا يزعجك. أرجوك احكِ لي. أنا شعرت أن وجهك تغير الأسبوع الماضي عندما خرجت من غرفة الفحص في العيادة، وأنت متعب. هل تعرف ذاك الرجل يا صابر؟ .. صارحني .. هل لهذا الرجل صلة بشيء تدفنه في صدرك؟“
وأخذ يضرب كفيه متعجبا من كلامها، لكنه غالب رغبة في نفسه أخذ يشعر بها في الكلام، ربما بعد أن طمأنته رؤيا أمه وهي تصحب زوجته.
”هل أقول لها؟ وماذا أقول؟ وصورتي؟ … هي تحبك .. وهي فعلا صدوقة حنونة.“
ولاح له وجه أمه ورآها وهي تحتضنه بينما كان يبكي.
وقال: ”تعرفين يا حنان، رأيت الليلة أمي تزورنا هنا، وكانت تمسك يدك وتتجه بك نحوي .. يا حنان .. فعلا هناك .. هناك ..“ وتحشرج صوته، وضاق صدره، وانتابته رعشة، وأجهش بالبكاء. فاحتضنته حنان وأخذته في صدرها.
تذكر صدر أمه .. عندما جاء مهرولا من الخارج .. وارتمى إليه وهو يبكي.
وضمته حنان بشدة إليها وأخذت تلامس وجهه ورأسه وهي تقول: ”صابر حبيبي .. وليس بيننا ما نخبئه.“
وصمت صابر قليلا ثم قال: ”هذا الرجل اللعين … هو فعلا أزعجني … ذكرني .. نكأ جرحا قديما ظننت أني دفنته.“
فسألته: ”هل تعرفه؟“
فقال بتأكيد: ”أعرفه … نعم أعرفه .. إنه نديم الملعون .. نديم ..“
فردت مستفسرة: ”من نديم هذا؟ وما حكايته؟“
وبدأ صابر يشعر بشيء من الراحة، ورغبة في الكلام: ”نديم هذا أو نسيم هذا .. كان صاحب دكان كبير في شارعنا في الجنوب، وكان من الأغنياء في مدينتنا ..“
وتوقف قليلا، وزاغت نظراته، وأخذ يفكر.
”ما أتعسك حقا، حاولت أن تنسى .. وظننت أنك دفنت ما حدث في قبو عميق، لكن ذاك اللعين ظهر من جديد، ونبش قبر الماضي فخرجت أشباحه. كم غير هذا اللعين حياتك، أصبحت تكره اسمه، وحتى من يتسمى به، وتبغض أي شيء .. نعم أي شيء يتعلق به .. تمقت أي شيء ينبش تلك الذكرى المؤلمة. لكن إلى متى ستبقى سجين الماضي؟ تخلص من القيد، حرر نفسك .. تخلص من القيد .. كلما ابتعدت عن الشبح كبر في رأسك وتضخم، لكنك إن اقتربت منه تضاءل وصغر.“
وأحس صابر بشيء يمسح على صدره، وتذكر أمه وهي مقبلة عليه في الحلم الذي رآه.
وواصل كلامه: ”كان الناس يحبونه ويقولون عنه إنه رجل طيب .. كان يتودد للناس في المعاملة، لا أدري إن كان ذلك بدافع الرغبة في أن يكسب ودهم فيشتروا منه فيجني منهم ما فيه جيوبهم قدر المستطاع. وكانت البضاعة الداخلة إلى الدكان أحيانا أكثر مما يباع. إذ كان يسعى إلى أن يكون فيه كل شيء، فعلا كل شيء، ويكره أن يسأله زبون عن شيء ولا يجده.“
فقاطعته حنان بلطف: ”لكن لا عيب في ذلك .. إنه تاجر شاطر.“
لكن سرعان ما رد صابر: ”لا أظن ذلك .. كان يشتري حب الناس بالتودد والتلطف .. ولكنه كان يهدف إلى شيء آخر.“
فسألته في حب استطلاع: ”ماذا كان يريد؟“
وتنهد صابر تنهيدة طويلة، وأحس بضيق في صدره.
فسألته حنان: ”هل أنت بخير؟ تنفس بعمق يا صابر واهدأ.“
واستكمل صابر الحديث بعد أن عاوده شعوره بالراحة: ”كان يغري كثيرا من الناس بالمال ليساعدوه في نقل البضاعة من أمام الدكان إلى الداخل. كان .. كان لديه مخزن كبير في نهاية الدكان .. لا يراه الواقف خارج الدكان لأنه كان في الركن إلي يسار الدكان.“
فسألته حنان: ”هل كان يهرب مخدرات في ذاك المخزن .. أو ممنوعات مثلا؟“
فزفر زفرة طويلة، ولم يتمالك نفسه .. فأجهش بالبكاء. لاطفته زوجته وقالت له: ”في البكاء تنفيس يا صابر .. لا تستح وفضفض .. ولا تنس أن ما تسترجعه الآن .. مرت عليه سنوات، أليس كذلك؟“
فتمالك صابر نفسه وقال لها: ”حوالي أربعين سنة .. كنت أنا وقتها طفلا في السابعة من عمري. أحب اللهو واللعب مع أبناء الجيران. وكنت أيضا أسايرهم فيما يفعلون، وأحيانا أسمع كلامهم فلا أخبر أمي ..“
وسارعت حنان بسؤاله: ”وماذا كان يحدث في المخزن؟“
فتنهد صابر ثم أخذ يتكلم بصوت متقطع: ”كان الناس، كبارا وصغارا، يثقون فيه. وكان يدفع لكل من يساعده في الساعة خمسة جنيهات. وكان هذا مبلغا كبيرا وقتها، فكان الكبار والصغار يسارعون إلى خدمته، خاصة متوسطي الحال من الأسر. وكان يغري الأطفال فيعطي الواحد منهم جنيهين لنقل عدد من الأكياس أو الصناديق، ومن يعجبه عمله منهم يناوله قرصا من أقراص حلاوة المولد. آه .. آه .. يا حنان .. ماذا أقول؟ ..“
ضمته حنان وأخذت تلامس وجهه وشعره.
وزادت تنهيدات صابر، وتسارعت وتيرة نفسه، وقال بصوت متهدج: ”هذا الكلب .. كان .. يرمي إلى شيء آخر .. بعد أن اكتسب ثقة الناس، والآباء والأمهات، والأطفال، كان .. كان .. يأخذ الطفل الذي .. الذي .. يريده .. الطفل الذي يرغب في معاشرته .. بعد أن يعطيه الحلوى .. ويختلي به .. ثم يلاطفه .. ويلامسه .. و .. و .. ير ..تكـ …ب .. معه .. الفا ..حشة ..“
وانخرط صابر في بكاء حار.
وحاولت حنان تهدئته فسألته: ”هل رأيت شيئا من هذا يا صابر بنفسك، أم سمعت؟“
فقال مؤكدا: ”نعم .. نعم رأيت غير مرة .. خلسة .. في ركن قصي في المخزن وراء مجموعة أكياس كبيرة.“
لكنها سألته بشيء من التعجب قليلا: ”هل هذا ما يزعجك يا صابر؟ أنت فعلا حساس جدا.“
ولم يمهلها ولكنه صرخ فيها باكيا: ”جاء الدور علي، يا حنان .. جاء دوري .. اغتصبني هذا الكلب .. وأنا في السابعة.“
وعاجلته حنان حتى لا يتوقف: ”كيف حدث هذا .. احك لي يا صابر ..“
استمر صابر: ”أذكر أن هذا الحيوان المفترس .. ناداني .. وكان الدكان خاليا تقريبا .. بعد أن أنهيت بعض العمل .. وأخذ يمدحني .. ويقول أنت ولد شاطر جدا .. أنت ولد .. جميل .. نقلت أكبر مجموعة من الأكياس في وقت قصير .. ولذلك سأعطيك ثلاثة جنيهات .. لا .. أربعة .. لا .. أنت تستحق خمسة جنيهات كاملة .. لكنّ يديك ووجهك متسخان .. ورقبتك متسخة .. دعني أغسلك قبل أن تترك الدكان .. وتناول إبريقا ومنشفة وراح يغسل يدي ووجهي بكفه الضخمة ويضمني إليه أكثر فأكثر .. وكنت أحس بنفسه يتلاحق بسرعة .. ثم رفع جلبابه .. آه .. آه ..“
ولم تستطع حنان أن توقف بكاءه وصراخه المكتوم. فقد تعرى غطاء القِدر ..
واستكمل صابر كلامه بصوت متقطع: ”لم أدرك وقتها كنه ما حدث .. لكنني أحسست أني بحاجة إلى أمي، وهرولت إلى البيت، ووجدت أمي فارتميت في حضنها … وألقيت بسوآتي في حجرها.“