بات “التريند” بطلا خفيا يصعد ببعض الأعمال الفنية إلى القمة بسرعة الصاروخ، فتحقق مشاهدات قياسية تقود الفيلم أو المسلسل في نهاية المطاف إلى النجاح الكبير.
لم يعد البطل أو القصة الخارقة أو الإمكانيات الإنتاجية الكبيرة وحدها ما تضمن للعمل الفني الجديد الرواج، بات هناك متغيرا كبيرا في عصر الانفجار المعلوماتي الكبير الذى نعيشه هو “كيف تركب التريند؟”.
فرق كبيرة من رجال التسويق الإلكتروني أصبح شغلها الشاغل هو العمل بحرفية وكثافة واتقان عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وتصدير لقطة أو عبارة أو مشهد في طريق صناعة “تريند” سعيا إلى أكبر نسبة مشاهدة، لم يعد وجود ما يعرف بأبطال الصف الأول على الشاشات كافيا كي يتحقق النجاح للعمل في ظل قنوات لا حصر لها تعرض على مدار الساعة كمًا كبيرا من الأفلام والمسلسلات.
في عصر الفضاء الإلكتروني الكبير الذى نعيشه، يجد المشاهد الذى لا يمتلك وقتا كبيرا للتجول بين القنوات لانتقاء عملٍ يشاهده –من يختار له ويخلصه من عناء التفكير في ظل صراع أبدى بين مسئوليات وأدوار لا حصر لها، ووقت يتبخر بسرعة.
إنَّه ” التريند” الذي يجعله بشكل تلقائي ينضم إلى قائمة متابعي العمل الذى يحظى بأكبر قدر من الرواج عبر مواقع التواصل ومحركات البحث فلا يجب أبدا أن يفوته ما يشاهده الناس حتى لا يكون غريبا في عقر داره.
اللهاث خلف “التريند” هو ما يفسر قدرا كبيرا من الهوس الذى نشهده بين الحين والأخر في الدراما التركية وأخرها مسلسل “ألب أرسلان” في جزئه الثاني “نهضة السلاجقة” الذى باتت المواقع تخصص أخبارا ثابتة لمواعيد عرضه في استجابة لعمليات بحث المشاهدين المكثفة عنه عبر محرك البحث الشهير جوجل.
ولكن من هو “ألب أرسلان” الذى يلهث الكثيرون لمعرفة حقيقته ومتابعة حلقات مسلسله الجديد في زحمة “التريند”؟
يعتبر المؤرخون “ألب أرسلان” واحدا من أعظم الملوك في التاريخ الإسلامي، وهو الملقب بالسلطان الكبير والملك العادل وعضد الدولة واسمه بالكامل ألب أرسلان محمد بن السلطان جغربيك داود ميكائيل بن سلجوق بن تُقاق ابن سلجوق التركماني الغُزَّي، المكنَّى بأبي شجاع وتعنى “ألب أرسلان” الأسد الشجاع. وقد دامت فترة حكمه للدولة السلجوقية لنحوٍ من العشر سنوات.
كان “ألب أرسلان” الذراع اليمنى لعمه “طغرل بك” وكان رجل المهام الصعبة. تولى قيادة الجيوش السلجوقية قبل أن يبلغ الثلاثين، ولعب دورا قويا في توطيد حكم الدولة السلجوقية وكان كلمة السر في اجتيازها الكثير من التحديات التي كادت أن تعصف بها مبكرا ومن بينها فرض النظام في إقليم “خراسان” المضطرب.
في سنة 455 هجرية أعتلى عرش السلطنة بعد وفاة عمه “طغرل بك” ولم يكن طريقه أبدا مفروشا بالورود، بحسب ما يكشفه الدكتور “مختار تركماني” في كتابه” ألب أرسلان.. الأسد الباسل محطم الإمبراطورية البيزنطية” حيث ثار عليه عمه “قتلمش” محاولا انتزاع السلطة منه؛ ولكن أرسلان تمكن من الانتصار عليه رغم تمكنه من حشد تسعين ألف مقاتل في مواجهة جيش “أرسلان” الذى لم يزد عدده عن اثني عشر ألفا فقط، والغريب أنَّه عندما علم بمقتل “قتلمش” بكاه بحرقة.
بعد ذلك واصل “ألب أرسلان” إحكام قبضته على مقاليد الأمور بإخماد نيران بعض الثورات الداخلية التي اندلعت ضده في أنحاء الدولة السلجوقية مترامية الأطراف التي ورثها والتي ضمت شعوبا وثقافات متباينة.
وقد ظل لسبع سنوات متواصلة يقوم بمهمة واحدة هي تفقد دولته مترامية الأطراف ليطمئن على استقرار الأمن وتوافر معايش الناس واحتياجاتهم المختلفة قبل أن يخوض أية معارك خارجية وبحسب ما يؤكده الدكتور “على الصلابي” في ” دولة السلاجقة” فإنَّ الرجل كان يخطط لأهدافه بدقة شديدة وهى فتح البلاد المجاورة والخاضعة لسيطرة الدولة البيزنطية وإسقاط الخلافة الفاطمية في مصر، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الدولة العباسية.
ويعتبر الدكتور عبد الغنى زهرة أستاذ ورئيس قسم التاريخ الإسلامي والحضارة بكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر بالقاهرة واحد من بين قلائل أخضعوا سيرة ألب أرسلان لدراسات وبحوث معمقة، وهو يصر على وصف الرجل بأنَّه كان استثنائيا بكل معنى الكلمة ولم يجد الزمان بمثله .
وفي تعليق خاصٍّ لـ “أصوات أون لاين” يقول الدكتور عبد الغنى: “كان ألب أرسلان بالغ الذكاء، وتمكن من قيادة الدولة السلجوقية بحكمة بالغة مكنته من اجتياز الكثير من الأعاصير؛ حيث اهتم بتأمين جبهته الداخلية واخماد الثورات ومواجهة الانقلابات لعدة سنوات قبل أن يبدأ معاركه الخارجية.. ويفسر سر نجاحه قائلا: “اعتمد “ألب أرسلان” بشكل كبير على وزيره “نظام الملك” الذى لم يكن مجرد مسئول سياسي أو قائد عسكري وإنَّما كان مفكرا وعالما و ذا رؤية ثاقبة.. وبفضل معاونته؛ تمكن السلطان خلال فترة وجيزة من أن يحكم سيطرته على السلطنة، ويحرز انتصارات مدوية.
وصل “ألب أرسلان” إلى السلطة –بحسب ما يؤكده الدكتور عبد الغنى– بعد حصوله على ما يمكن وصفه بتفويض رسمي في ذلك الوقت، وكان حريصا منذ اللحظة الأولى على أن يقوِّي بنية جيشه، كما حرص على جمع شمل الأسرة السلجوقية والقضاء على الخلافات والتباينات بينها.
ويضيف د. عبد الغني “إن الانجاز الكبير للرجل يتمثل في انتصاره التاريخي في موقعة “ملاذكرد” التي وقعت في سنة 463 هجرية والتي يشدد أستاذ التاريخ على أنَّها كانت سببا بعد ذلك في الحروب الصليبية التي بدأت بعد ذلك بـ 25 عاما بهدف الثأر للهزيمة المدوية التي مُنِىَّ بها الإمبراطور البيزنطي “أرمانوس” والتي كانت مذلة للغرب بشكل كبير .
“كانت نتائج هذه المعركة مزلزلة فعندما عاد الإمبراطور “أرمانوس” إلى القسطنطينية انقلبوا عليه وقاموا بفقء عينه، وأرسلوا يستغيثون ببقية الدول والممالك الأوربية لحمايتهم من “ألب أرسلان” الذى سقاهم كأس هزيمةٍ لم يروا مثلها من قبل، وكانت النتيجة أن بدأت الحملات الصليبية في مهاجمة الشرق الإسلامي، وهى النقطة التي تغيب عن الكثير من المؤرخين”. وفقا للدكتور “عبد الغنى” الذى يشدد على أن “ألب أرسلان” يعد واحدا من أبرز الزعماء في التاريخ بأكمله.. قياسا على حجم التغيرات الواسعة التي حققها على الأرض والانتصارات العسكرية الكبيرة التي أحرزها.
بالعودة إلى الدكتور “على الصلابي” في كتابه “دولة السلاجقة” يتبين أن نُذُر المعركة بدأت عندما قام “أرسلان” بشن حملة كبيرة ضد الأقاليم الرومانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب “أذربيجان” وأتجه غرباً لفتح بلاد “الكُرج” والمناطق المطلةَّ على بلاد البيزنطيين.
فصلَ “ألب أرسلان” أثناء زحفه –قوة عسكرية بقيادة ابنه “مُلْكشاه” ووزيره “نظام الملك” هاجمت حصونا ومدنا بيزنطية، وفتحتها واستمرت فتوحاته الكبيرة في الأراضي الأرمينية ويبدو أن ملك “الكُرج” هاله التوغل السلجوقي في عمق المناطق الأرمينية فهادن “ألب أرسلان” وصالحه على دفع الجزية ونتيجة لهذا التوغل السلجوقي أضحى الطريق مفتوحاً أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول.
جرى كل ذلك ولم يبذل الإمبراطور البيزنطي جهداً كبيراً لمقاومة هذه الغارات، ما شجعّهم على التوغل في عمق الأناضول، فوصلوا إلى “نيكسار” و”عمورية” عام 461ﻫ. وإلى “قونية” في العام التالي، وإلى “خونية” القريبة من ساحل بحر “إيجه” عام 463ﻫ.
شكَّل فتح السلاجقة لبلاد “الكرج” والقسم الأكبر من أرمينية، تحديا لبيزنطية وأدرك الإمبراطور البيزنطي أنَّ نشوب الحرب بين المسلمين والبيزنطيين أمرٌ لا مفر منه.
وبالفعل أعدَّ الإمبراطور البيزنطي “رومانوس” ما يقدره الصلابي بـ (300) ألف مقاتل بينما يرى الدكتور “عبد الغنى” أنَّ التقديرات في هذا الصدد متفاوتة بين المؤرخين؛ ولكن العدد في كل الأحوال لا يقل عن (100) ألف مقاتل بيزنطى في أقل التقديرات ولم يكن عدد قوات جيش “ألب أرسلان” يزيد عن (15) ألف جندي.
وبحسب كتابه ” دولة السلاجقة” لم يكن أمام “ألب أرسلان” أية فرصة لاستدعاء مزيد من القوات لذلك قال عبارته الشهيرة “أنا أحتسب عند الله نفسى” واندلعت المعركة وتمكَّن من إحراز انتصار جزئي.
يلتقط الدكتور عبد الغنى طرف الخيط فيضيف لـ” أصوات أون لاين”: “كان السلطان واقعيا ولذا تقدم إلى الإمبراطور البيزنطي بطلب للصلح ولكن “رومانوس” رفض قائلا” لن أفعل إلا بعد أن تبلغ جيوشي “الري” قاصدا بذلك احتلال قلب الدولة السلجوقية “فغضب “أرسلان” بشدة ونصحه إمامه “أبو نصر محمد” ألا يخوض غمار الحرب إلا يوم الجمعة حيث ينصب الخطباء للدعوة له على المنابر.
يومها خطب” ألب أرسلان” في جنوده قائلا: “من أحب أن يتبعني فليفعل ومن لا يرد فله ذلك فليس هذا بمقام أمير يصدر أمرا وجندي يطيع وأرتدى ثيابا بيضاء تشبه الكفن وغبر وجهه بالتراب؛ فأثار الحماس في نفوس جنوده وأحرزوا انتصارا مدويا حتى أنَّهم تمكنوا من أسر “رومانوس” نفسه.
ويصف أستاذ التاريخ لنا واحدا من أكثر مشاهد التاريخ قسوة.. إذ وقف الإمبراطور البيزنطي “رومانوس” الرابع الأسير ذليلا أمام “ألب أرسلان” ليسأله الأخير: “ماذا كنت ستفعل بي لو تمكنت من هزيمتي” فيرد عليه: ” كل شر” فيجيب السلطان:” صدقت” ويعاود سؤال الإمبراطور الأسير: ” ماذا تظن أنني فاعل بك” فيجيب ” العفو وقبول الفدية” وبالفعل يطلق سراحه ويعود إلى القسطنطينية بشروط الصلح التي أملاها عليه “ألب أرسلان” فينقلب عليه قومه ويقوموا بفقء عينه عقابا له قبل أن يموت بعدها ذليلا ويتم تعيين “ميخائيل” السابع بدلا منه.
وتعتبر معركة “ملاذ كرد” أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية التي أصبحت تحت رحمة دولة السلاجقة لأول مرة في تاريخ الصراع بين المعسكرين بعد أن وقع الإمبراطور البيزنطي أسيرا بأيدي المسلمين فكان ذلك نقطة تحوُّل كبيرة في تاريخ الصراع؛ إذ أصبح المدخل الشرقي لأوروبا مفتوحا بالكامل أمام جيوش المسلمين، وكانت خيبة أمل الأوروبيين واسعة بعد أن ترنحت الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تصوِّر نفسها حارسةً العالم المسيحي أمام ضربات جيوش ألب أرسلان التي لا ترحم وكان الرد العملي على ذلك الحملات الصليبية التي جاءت لاجتياح العالم الإسلامي.
ويرسم د. “الصلابي” في كتابه مشهد مصرع الأسد الشجاع فيقول: ” في سنة خمس وستين وأربعمائة، قصد السلطان “ألب أرسلان” ما وراء النهر وعبر نهر “جيحون” فأتوا إليه بأحد المتمردين ويدعى “يوسف الخوارزمي” فأمر بأن تُضرب له أربعة أوتاد لتشَّد أطرافه الأربعة إليها ويعذبه ثم يقتله فقال له يوسف: “يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟” فاحتد السلطان، وقال: “حلّوه من قيوده” فَحُلّ؛ فرماه فأخطأه، فتعثر وسقط أرضا وضربه “يوسف” بسكين كانت معه في خاصرته ونقل السلطان الجريح الذى أوصى بالملك لابنه “مُلكشاه” إلى خيمة أخرى قبل أن يلفظ أنفاسه في جمادي الآخرة سنة خمس وستين وأربع مائة للهجرة، وعمره لم يتجاوز الأربعين عاما”.