لم تكن فكرة القومية العربية الجامعة عند من آمن بها من المصريين منفصلة على الإطلاق عن الوطنية المصرية؛ بل رأى هؤلاء في الأولى امتدادا طبيعيا للثانية؛ فأن تكون مصرياً يعني بالضرورة أن تكون عربياً.
ولعل أحد الذين جسدوا هذه الفكرة بشكل عملي هو الشهيد المصري “كمال حسنين”؛ أول شهيد مصري على أرض فلسطين عام ١٩٤٨.
ويروي الوزير السابق كمال الدين رفعت في مذكراته أنَّ الشهيد “حسنين” كان أحد أبرز المشاركين في انتفاضة عام ١٩٤٦، المناهضة للاستعمار البريطاني لمصر؛ وحين انفجر الصراع في فلسطين بين العرب والصهاينة عقب قرار التقسيم عام ١٩٤٧، كان “حسنين” من الذين لبُّوا نداء الواجب هناك.
تحرَّك الشهيد مع فصيلته المكونة من (٤١) جندياً إلى فلسطين في شهر فبراير عام ١٩٤٨، ومع نهاية ذلك الشهر كان قد وصل إلى مدينة يافا.
وفي خلال عشرة أيام لا أكثر من وصوله تمكَّن “حسنين” مع فصيلته من تدمير أكثر من هدف للعدو الصهيوني من بينها مصنع للنسيج وآخر للنجارة وثالث للبيرة.
ووفقاً لمضمون رسالة أرسل بها “حسنين” إلى زميله ورفيق نضاله “جمال طنطاوي” فإن فصيلته التي أطلق عليها اسم فصيلة “الفدائيين” غنمت الكثير من هجماتها على الصهاينة والتي استهدفت بالأساس إبعادهم عن طريق القدس؛ حيث استولت على ثلاث سيارات من التي كان العدو يستخدمها على ذلك الطريق إضافة إلى كشاف كان يستخدمه الصهاينة من أجل إضاءة الطريق أمام قواتهم.
وأخذت الفصيلة على عاتقها التصدي لهجمات الصهاينة على القرى والمدن العربية.. ومن أمثلة ذلك استغاثة أهل منطقة تسمى “المَسْلَح” في فلسطين بـ “حسنين” وفصيلته وبالفعل لبت الفصيلة نداء الاستغاثة.
وفي منطقة أخرى تدعى قرية “سَلَمَة” والتي تقع في محيط يافا، عسكرت الفصيلة بعد أن توالت الأخبار عن هجمات يقوم بها الصهاينة على أهل القرية وارتكابهم مجازر بحق هؤلاء الأهالي واشتبكت الفصيلة مع هؤلاء المهاجمين وتمكنت وفقاً لخطاب “حسنين” من قتل خمسين صهيونياً، أغلبهم من أفراد عصابة “الهاجاناه” كما غنموا أسلحتهم.
كما يكشف “كمال الدين رفعت” أنَّ الشهيد “حسنين” كان يدرك خلال قتاله في فلسطين مدى تواطؤ الأنظمة العربية الحاكمة –في ذلك الحين– مع الصهاينة وفي مقدمة هذه الأنظمة النظام الملكي في مصر؛ حيث أكَّد لـ “رفعت” أنَّ الصهاينة اشتروا قبل المعركة عددا كبيراً من الجرارات من مصر بدعوى استخدامها في مجال الزراعة إلا أنهم حولوها لاحقا الى دبابات واستخدموها ضد أهل البلاد.
كما كانت إحدى أبرز انتقادات حسنين للنظام الملكي، هو عدم انتباهه لمدى الخطر الصهيوني حيث لم يكن لدى النظام حينها أية بيانات عن تسليح الصهاينة أو عن أرض المعركة في فلسطين.
وفي شهر مارس من عام ١٩٤٨، يخط الشهيد آخر رسالة إلى صديقه “جمال” والتي بدا فيها وكأنه يستشعر مصيره القادم حيث وصف لصديقه شعوره بأنهما قد لا يلتقيان مرة أخرى إلا أنه في الوقت ذاته يؤكد أنَّه مرتاح الضمير من ناحية عمله.
إلا أنَّ ما يؤلمه حقاً هو عدم قدرته ورجاله على “سرعة الفتك” بالصهاينة وإراحة الأمة من خطرهم.
ويختم الشهيد بالقول “أحياناً أحن إلى الحياة؛ فأشعر بحنين أكبر للكفاح؛ سأحيا لأتألم وسأكافح في كل مكان وسأظل أكافح حتى تخمد الانفاس”.
ثم يضيف: “ويوم أموت هو يوم تستريح روحي، واعلم أن دمي لن يذهب هباء”.
وصدقت مشاعر الشهيد “حسنين” حيث نال الشهادة في الثامن والعشرين من شهر مارس عام ١٩٤٨، في معركة “وادي الصرار” وهو أحد أودية السفوح الغربية لفلسطين في المنطقة الواقعة بين القدس شرقاً ويافا غرباً والذي شهد اشتباكاً عنيفاً بين فصيلة “حسنين” وأهالي المنطقة مع العدو الصهيوني.
ويؤكد “كمال الدين رفعت” أنَّه تولَّى نقل جثمان الشهيد “حسنين” من فلسطين إلى القاهرة، كما حمل الجثمان الطاهر مع رفاقه من أفراد تنظيم الضباط الأحرار؛ حيث شُيع في جنازة شعبية حاشدة وسط هتافات مدوية من الجماهير تنادي بالحرية لفلسطين والموت للصهاينة.