في زيارة لي لبيروت، زُرت مسجد “محمد الأمين” وذلك بعد أن أعاد بناءه، الراحل “رفيق الحريري” (اغتيل عام 2005).. وصمَّمه على الهيئة العثمانية.. والمسجد تحفةٌ معمارية، وإذا كنا نذكر المسجد الأموي في دمشق، والأزهر في القاهرة، والزيتونة في تونس، والقيروان في المغرب.. فإنَّه لا يمكن أن نتجاهل في السياق، مسجد محمد الأمين في بيروت.
المسجد بُنِيَ، في ساحة الشهداء، عند خطوط جبهة الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، التي تفصل شرق بيروت المسيحي وغربها المسلم.
بوصفي صحافيا محترفا، وباحثا في علم الاجتماع السياسي؛ لم يشغلني “الأُبَّهة” التي كان عليها المسجد –دُفِنَ بجواره مُجَدِّده رفيق الحريري– ولكن ما شغلني هو دلالته على مستوى “الهوية المعمارية” لدولة تقوم على المحاصصة الطائفية.
قبل الحرب الأهلية، كان المسجد مجرد “زاويةٍ” أثرية صغيرة، بينما يهيمن على المشهد المعماري في المنطقة؛ مجموعة من الكنائس أبرزها –على واجهة المشهد– كاتدرائية “سانت جورج” التي بُنِيَت عام 1894، وتوارت خلفه سلسلة من المساجد الصغيرة، بما فيها مسجد “محمد الأمين” ذاته.. في مشهد يعكس الأوزان النسبية للطوائف ونفوذها السياسي، إلى ما قبل 1990.
من زار بيروت قبل عام 2016، سيكتشف أنَّ هذه المنطقة الأشهر في وسط المدينة، قد تغيرت هويتها المعمارية تماما، إذ تحوَّل “محمد الأمين” إلى مسجد عملاق، شغل واجهة ساحة الشهداء بالكامل، مساحةً ومعمارا وفنونا هندسيةً وجماليةً وتراثيةً شديدةَ الإبهار.. ولا تكاد ترى كاتدرائية “سانت جورج” إلا بشق الأنفس.
المشهد الجديد عكس تبدُّل الأوضاع، وتفوُّق قوى طائفية وتراجع أخرى، وكانت المبارزة بين مسجد “الأمين” وكاتدرائية “سانت جورج” أبرز تجلياته التي لا تخفي على أي مراقب مدقق.. كان المشهد معماريا، أحد مُخرجات هزيمة الموارنة سياسيا بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
غير أنَّ الواقع على الأرض، كان خطيرا، فالشعور بالانكسار الطائفي، بين طوائف متقاربة في أوزانها النسبية، لم يكن في صالح لبنان، الذي تأسست هويته من المكونين الدينيين الكبيرين: المسيحية والإسلام.. وأي “تلاعب” في هذه الهوية، ولو حتَّى على مستوى المعمار (المساجد ـ الكنائس) سيعيد البلد إلى مربع التساؤل، بشأن التعايش السلمي وقبول الآخر، في ظِلِّ هُويَّة وطنيَّة؛ تقوم على التوافق والتراضي، وليس على ادعاء التفوق الطائفي والاستعلاء، وتغيير هُويَّة الدولة المعمارية لصالح طائفة بعينها.
مسجد “محمد الأمين” بعد تجديده وعملقته.. اعتبره المسيحيون “الموارنة” إهانة لطائفتهم؛ فأعيد ترميم كنيسة “سانت جورج” على نحو يستعيد هوية لبنان مجددا، التي تشوَّهت نسبيا بعد عام 1990، وذلك ببناء برج لأجراس الكاتدرائية، طوله 72 مترا ليتساوى مع علو مآذن مسجد “محمد الأمين” وتم افتتاحه عام 2016.
قد يعتقد البعض أنَّ بناء المساجد والكنائس والمعابد عموما –مسألة سهلة وتتعلق بـ”حرية العبادة” التي يكفلها الدستور.. والحال أنَّها ليست بهذه السهولة بل شديدة التعقيد، وتخضع لحسابات الأمن القومي في أيةِ دولةٍ سواءَ في الشرق “المتخلف” والديكتاتوري أو في الغرب المتحضر والديمقراطي؛ لأنَّها تمسُّ في العمق؛ قوام هُويَّة الدولة؛ حتَّى لو كانت علمانيةً أو مُلحدةً أو دولةً دينيةً.. وهو موضوع آخر سنكتب عنه لاحقا إن شاء الله تعالى.