بقلم: د. مالك خوري، نقلًا عن موقع كتابات، لقراءة المصدر الأصلي، أضغط هنا
أهم فيلم تناول “مصر”؛ خلال الفترة التاريخية القديمة، أي خلال ما اصطلح على تسميته: “بمرحلة الفراعنة”، وأكثرها جدية في محاولته لتوثيق إعادة تقديم تلك المرحلة موضوعًا وإخراجًا وتنفيذًا لرؤية بصرية هي أقرب ما تكون إلى علمية البحث، هو تحفة المخرج البولندي؛ “جيرزي كاواليرويتش”، (فرعون)؛ والذي أنتج عام 1966؛ من قِبل “بولندا” إبان الحكم الاشتراكي. الفيلم مجهول تقريبًا للأكثرية الساحقة من محبي السينما في “مصر”. كما أنه بالتأكيد فيلم لم يسمع عنه معظم المصريين بما فيهم أولئك الذين يتحمسون من وقت لآخر للتعبير عن انتمائهم التاريخي لمصريي تلك الفترة بالذات ورفضهم الاعتراف، أو “إدانتهم” للمتغيرات التي طبعت واقع الإنسان المصري على مدار آلاف السنين من التطور والتفاعل مع محيطه الطبيعي. لكن قبل أن أتناول الفيلم نفسه، لا بد من بعض التمهيد الوضعي لفهم بعض العوامل التي ساهمت في انحسار الاهتمام بالتقديم السينمائي لهذه المراحل الهامة في التاريخ المصري.
مما لا شك فيه أن حيزًا هامًا من تراجع الاهتمام الجدي بدراسة التاريخ المصري القديم، (كما الحديث)؛ يعود بشكل واضح إلى تغيرات طالت تهميش الدراسة البحثية العلمية للتاريخ ككل. وأرتبط ذلك مباشرة؛ خلال عقود ما بعد ستينيات القرن الماضي، بتغليب “الدراسة” الغيبية للتاريخ عبر التقييم الذي يغلب عليه التوجه المسيس ذو الخطابية “الدينية” أساسًا، والذي تناغم بدوره مع إزدياد هيمنة ونفوذ الفكر الوهابي داخل المجتمع المصري ككل، بما في ذلك داخل الجسم الأكاديمي والطلابي للجامعات المصرية؛ وحتى داخل النخب الثقافية والفنية. نتاج هذا وتأثيره على إعادة التقديم السينمائي للمراحل القديمة في تاريخ “مصر” اتخذ ثلاثث أشكال.
أول هذه الأشكال تمثل بتهميش تناول تلك المرحلة وتجاهلها بشكل شبه كلي من قِبل المجتمع السينمائي في “مصر”؛ (عدم توفر الدعم المالي هي الحجة التي لم تتغير منذ السبعينيات). ثانيها تمثل في التساهل التام مع تناول تلك الفترة سينمائيًا من قبل استشراقية سينما الغرب الاستعماري التقليدية، والتي أعادت بالنهاية صياغة معالم تلك الفترة التاريخية بما يتناغم مع كيفية تخيلها وإعادة تدويرها الإيديولوجي هي لتلك الفترة، وبما يتناسب مع خطابها هي في التعامل مع المنطقة ككل. آخر تجليات الهيمنة الهوليوودية على المخيلة “السينمائية” للنخبة المؤثرة حاليًا على الثقافة السينمائية المحلية تمثلت في الضجة التي أثيرت حول محاولة إنتاج مسلسل رمضاني، عام 2021؛ عن الملك “أحمس”؛ المعروف بتصديه للهكسوس وانتصاره عليهم، وإدراج الممثل “عمرو يوسف”، (أبو عيون زرقاء)، للعب دور البطولة. الضجة تناولت أيضًا استسهال السيناريو للتحقق من العديد من الوقائع التاريخية، وكذلك تجاهل البحث العلمي في تصميم المكونات البصرية للإنتاج ككل. ثالث أشكال التعاطي مع تجسيد التاريخ المصري القديم في السينما العالمية تمثل في تجاهل الأوساط السينمائية المهيمنة للدراسة المتكاملة لتاريخ تقديم تاريخ “مصر” في السينما ككل، بما في ذلك الإضاءة على بعض التجارب الفنية السينمائية الأكثر مصداقية وعلمية في مقاربتها للموضوع.
في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن تترسخ العديد من الصور “المهزوزة” والغير واقعية عن واقع التاريخ المصري القديم، وكما جرت “فلترتها” عبر المنتجات الضخمة لـ”هوليوود”، وحتى عبر سينما “الدرجة الثانية”؛ التي جرى إنتاجها في إيطاليا، في ستينيات القرن الماضي. بأي حال، فعلى الرغم من ان أفلام هوليوودية مثل: (أرض الفراعنة) لـ”هوارد هاوكس”، و(الوصايا العشر) لـ”سيسيل ب. دي ميل”، و(نفرتيتي) لـ”فرناندو سيرشيو”، و(كليوباترا) لـ”جوزيف مانكويتز”، على سبيل المثال لا الحصر؛ ما زالت تستحوذ على اهتمام معظم المهتمين والباحثين في سينما “المرحلة الفرعونية” أو القديمة لـ”مصر”، فإن تحفة المخرج البولندي، “جيرزي كاواليرويتش”؛ في فيلم (فرعون)؛ والتي جرى تصويرها بأجزء كبير منها في منطقة بلاتوه الإهرامات في “الجيزة”، تبقى عملاً مهمشًا بالرغم من المستوى العالي للحرفية الذي يُميزها على كافة الأصعدة.
فللأسف وحتى الآن، لم تستطع السينما المصرية أن تستفيد حتى اليوم من غنى وفرادية تجربة هذا الفيلم لتبني عليها في سبر غور إمكانيات التعاطي مع واحد من أهم المواضيع “المصرية” العريقة والمشوقة والمحفزة على الإنتاج السينمائي التاريخي.
وبالرغم من اهتمام بعض النقاد والعاملين في السينما بتقدير المساهمة الاستشارية التي قدمها المخرج والفنان المصري المبدع؛ “شادي عبدالسلام”، في تصميم الفيلم، فإن (فرعون) ما يزال مهمشًا إلى درجة أنه لم تجري إلى اليوم أي محاولة لإعادة عرضه في إطار أي مهرجان سينمائي محلي أو ضمن الندوات الفنية؛ التي يستحق هذا الفيلم الهام أن يكون في صلبها. والفيلم استفاد من مساهمة واحد من أهم خبراء “المصريات” القديمة في العالم، الأكاديمي والعالم البولندي؛ “كازيمييرز ميخالوسكي”. كما جرى ترشيح الفيلم في حينه لجائزة “الأوسكار” لأفضل فيلم أجنبي. تجاهل الفيلم استمر على الرغم من أنه كان قد أعيد نسخه من قِبل “مؤسسة مارتن سكوسيزي”، عام 2014؛ بطبعة (دي. سي. بي) أخاذة جرى عرضها في عدة أماكن في العالم؛ بما في ذلك مدينة “نيويورك”، حيث رأيته للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة.
فيلم (فرعون)؛ الذي يُجسد الملك “رمسيس الثالث عشر” في شبابه؛ يُركز على صراعه مع الفكر الغيبي الذي كان يُمثله الكهنة في حينه عبر مراكز قوى كانوا يهيمنون من خلالها على مفاصل الدولة والمجتمع والثقافة المعاصرة. و”رمسيس” يُحاول استعمال الذهب المتراكم لدى الكهنة وفي المعابد لتحسين حياة المصريين العاديين وتقوية الجيش بوجه الأعداء الخارجيين. وتجسيد الفيلم لهذا الصراع الذي ينتهي بمقتل “رمسيس” وانهيار الأسرة العشرين لـ”مملكة مصر الجديدة” عبر الخيانات داخل البلاط، هو مثال عابر للتاريخ لطبيعة ما يحصل في حالات صراع أجنحة مختلفة داخل الحكم، خصوصًا في إطار السماح لقوى الكهنوت الديني في التدخل في عمل وسياسات الدولة.
أما الغنى البصري للفيلم فهو بليغ وواضح؛ خصوصًا لجهة اعتماده على ما هو متوفر من توثيق فني في المتاحف والأماكن الأثرية المصرية. وأجمل الأمثلة على إبداع الديكور نراه في البارجة التي تستعملها والدة “رمسيس” في رحلاتها، وما نراه خلال جنازة والد “رمسيس”: أبنية وألبسة وأكسسوارات وتفاصيل كأنها منسوخة من المعابد والمدافن التي نراها في زياراتنا لآثار مصر القديمة في كافة أنحاء “مصر”. أما استعمال الكاميرا وحركتها فأقل ما يُقال فيه أنه مبدع ويتناغم تفصيلاً مع كل الحالات السياسية والنفسية التي حاول الفيلم التعاطي معها، سواء من خلال رصد أجواء المعارك وملحميتها، أوفي إطار تجسيد الأجواء المفعمة بالعبثية الغرائزية، أو عبر التكوين البصري المتحرك للبرودة التي تصم العلاقات بين الأطراف السياسية المتنازعة داخل البلاط. التصوير يُقارب الكمال في قدرته على رصد الألوان الأصيلة للمناطق الصحراوية، وللنيل المتخيل خلال تلك الفترة التاريخية، وكدلك التفاعل بين تلك المناطق والعناصر البشرية التي تفعِّل وتتحدى صمت وجبروت الهيمنة الأزلية للجغرافيا القاسية. أداء الممثلين يُقارب المشاهد بشحنة درامية من المعاناة، والخوف، والغضب، وحتى الشبق الحسي في تعاطيه مع ما يراه على الشاشة.
ما يُزيد من أهمية العودة لزيارة هذا الفيلم يكمن أيضًا في ما نراه اليوم من المحاولات المتجددة لإعادة كتابة تاريخ مصر القديمة بما يتلاءم مع شطحات هوليوود الما بعد حداثية هذه المرة، والتي تخلط التاريخ بالخيال العلمي أو تخلطه بنسخ “كوميكس” من تجسيد متداخل لحقبات زمانية وأمكنة جغرافية لا علاقة لها لا بـ”مصر” ولا بتاريخها. وأخطر من هذا، نرى التاريخ على خط هوليوود يحول في آخر تجلياته تاريخ “مصر” إلى تفصيلة على هامش الأساطير اليهودية التوراتية، كما في فيلم “ريدلي سكوت”، (الخروج)؛ عام 2014.
(فرعون)؛ هو فيلم ووثيقة تاريخية، تؤرخ لشكل مميز للتعاطي السينمائي مع التاريخ المصري القديم، والتي لا غنى عن أن تشاهدها العين على الشاشة الكبيرة كي تستطيع استيعاب جمالها وسحرها، فهل من يهتم بأن يأتي بها كي نراها في “مصر”، بما يليق بها من وسائل وتقنيات عرض جماهيري مناسبة ؟