رؤى

الإسلام والحاكمية (3) دلالة مفردة “حكم”.. في التنزيل الحكيم

جاء في “لسان العرب” لابن منظور أنَّ “الحَكَم” (بفتح الحاء) لغة: الله تعالى؛ ومن أسماء الله: الحَكم والحَكيم، وهما بمعنى الحاكم، فهو فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها. وقيل الحكيم ذو الحكمة؛ والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات ويتقنها حكيم. والمختار في معنى هذا الاصطلاح، قوله سبحانه وتعالى: “كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” [هود: 1].. ثم يضيف لسان العرب: “الحِكَمَة: العدل، والحَكَمَة: القضاة، وأحكم الأمر: أتقنه، وأحكمت الشيء فاستحكم: صار محكمًا”.

فإذا ما اقتربنا من المفردة ذاتها، “حُكم”، ولكن هذه المرة بـ”ضم الحاء”، نجد أنَّ هذا الاصطلاح (الحُكم)، بمعنى تولي وممارسة السلطة السياسية، أي: بمفهومه السياسي، الذي شاع في اللغة العربية حديثًا؛ سواء بتأثير الفكر السياسي الأوروبي ومصطلاحاته ومفاهيمه، أو عبر التطور الدلالي الذاتي للاصطلاح مع التغيرات التي طرأت على الحياة العربية نفسها.. نجد أنَّ الاصطلاح لم يرد إطلاقًا بهذا المفهوم أو ذلك المعنى، في الاستعمال اللغوي الأصلي لدى العرب في الجاهلية أو في صدر الإسلام، ولا في المعاجم اللغوية العربية القديمة المعتمدة، ولا في كتاب الله الكريم، أو الحديث النبوي الشريف.

 تبادلية الحُكم والحِكمة

ففي كتاب الله الكريم، وردت لفظة “ح ك م”، ومشتقاتها، عددا من المرات وصل إلى (210) مرة.. وهو ما يدل على المدى الذي تبلغه هذه اللفظة، من حيث الدوران اللغوي، ودلالاته، في آيات التنزيل الحكيم. بيد أنَّ المُلاحظ، في هذا السياق، أنَّ اصطلاح “الحُكم”، في هذه الآيات، لا يعني “نظام الحكم السياسي”، ولا “سياسة أمور الناس”؛ بل، يعني: القضاء في الخصومات، وفي الوقت نفسه يتضمن معنى: الرشد والمعرفة المتميزة. فـ”الحِكمة”، التي هي: “معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم”، كما ورد في شرح مادة “حكم” في لسان العرب، تأتي لتتبادل المواقع مع “الحُكم”، أو بالأحرى: لتحل محله، في بعض الأحايين.

مظاهرات تنادي بتطبيق الشريعة في بريطانيا
مظاهرات تنادي بتطبيق الشريعة في بريطانيا

بل، إنَّ هذا التبادل بين مفردتي الحُكم والحِكمة، في سياق “النص القرآني”، يتبدى بوضوح: إذا لاحظنا، من جهة، أنَّ “الحُكم” تأتي لتأخذ “موقعا وسطيا” في التراتب النصي لثلاثية: “الكتاب والحُكم والنبوة”، أي: بعد “الكتاب المنزل” مباشرة وقبل “النبوة”.. ولاحظنا، من جهة أخرى، أنَّ الحِكمة عندما ترد بعد الكتاب ـ بديلا عن الحُكم، لتحل محله، أو لتنوب عنه ـ لا يُنَص على “النبوة” وكأنَّها متضمنة فيها.

من الجهة الأولى، يمكن ملاحظة الموقع الوسطي في ثلاثية: “الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ”، من خلال المرات الثلاث التي وردت فيها هذه الثلاثية في كتاب الله..

في قوله سبحانه: “مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ” [آل عمران: 79].. وفي قوله تعالى: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ” [الأنعام: 89].. وفي قوله: “وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ” [الجاثية: 16].

وغني عن القول -هنا- أنَّ الموقع الوسطي لـ”الحُكم” في ثلاثية: “الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ”، إنَّما يأتي عبر حركة عطفية لمكوناتها.. وإذا عرفنا أنَّه في اللسان العربي لا تعطف إلا المتغايرات، أو الخاص على العام؛ نعرف أنَّ لدينا احتمالين:

أولهما، أن يكون كل من هذه المكونات جزءا مما يسبقه (النبوة جزء من الحكم، والحكم جزء من الكتاب).. بيد أنَّ هذا الاحتمال لا يبدو مُرجحا، نتيجة التراتب النصي المتكرر في المرات الثلاث التي وردت فيها هذه الثلاثية؛ هذا فضلًا عن أنَّ “الْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ”، وإن كانت قد جاءت معطوفة على “الْكِتَابَ” في هذه المواضع، إلا أنه في مواضع أخرى جاءت “الْحِكْمَةَ” لتحل محلهما معا، ولتعطف ـ في حركة تبادلية معهما ـ على “الْكِتَابَ”.

ومن ثم، لا يتبق لنا سوى الاحتمال الثاني، أي: أن يكون الكتاب شيء، والحُكم شيء آخر، والنبوة شيء ثالث؛ وأنَّ العطف جاء للتغاير؛ وأنَّ التجانس بينها أنَّها ـ جميعًا ـ من عند الله (لاحظ: “يُؤْتِيَهُ” في الآية الأولى، و”آتَيْنَاهُمْ” في الثانية، و”آتَيْنَا” في الثالثة).

أما من الجهة الأخرى، فيمكن ملاحظة: عدم النص على “النُّبُوَّةَ” عند ورود “الْحِكْمَةَ”، لتحل محل “الْحُكْمَ” بعد “الْكِتَابَ”.. كما في قوله سبحانه: “إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ…” [المائدة: 110].. وفي قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” [الجمعة: 2].

ومن الواضح -هنا- عبر هاتين الآيتين، وغيرهما، أنَّ ورود الحِكمة، لتحل محل الحُكم بعد “الكتاب” فيما يمكن أن نطلق عليه “تبادلية الحكم والحكمة”؛ لا يتواكب معه، فقط، عدم النص على “النبوة” ولكن -أيضا- يحمل معه ارتباط ذو دلالة، بين “الكتاب والحكمة” وبين “العلم”.

 ارتباط الحكمة والعلم

جاء هذا الارتباط بالعلم، في كثير من المواضع، من بين الآيات التي وردت فيها حركة عطف الحِكمة على الكتاب.. كما في قوله سبحانه: “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [البقرة: 129].. وأيضا، في قوله تعالى: “… وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا” [النساء: 113].

بل، إنَّ الأمر المثير للتأمل والانتباه، في آن، أنَّ “الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ” في هذه المواضع جميعا وإضافة إلى أنَّها جاءت مرتبطة بالعلم فهي، في الوقت نفسه، جاءت معرفة بـ(الـ) التعريف، فأصبح كل منهما مُعرفًا؛ إذ عندما يأتي كل من الكتاب والحكمة معرفًا، فإنَّه يأخذ المعنى نفسه، أمَّا إذا جاء كل منهما مُنكرًا فيمكن أن يعني جزءًا منه.

وهو ما يبدو عبر الموضع الوحيد الذي وردت فيه الكتاب والحكمة معا، وكحركة عطف للأخيرة على الأول ـ مُنكرة (كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) وذلك في سورة “آل عمران”.. نعني: قوله سبحانه وتعالى: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ…” [آل عمران: 81].

أضف إلى ذلك، الارتباط الواضح والصريح بين “الحُكم” عندما تأتي غير معرفة أي: مُنكرة، وبين “العلم” في حركة عطفية، وردت في أربعة مواضع..

في قوله سبحانه: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 22].. وفي قوله تعالى: “وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ …” [الأنبياء: 74].. وفي قوله: “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ” [الأنبياء: 79].. وفي قوله: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” [القصص: 14].

ومن ثم، فإذا كان ارتباط الكتاب والحكمة بـ”العلم”، قد جاء مع ورودها معرفة بـ”ألـ” التعريف؛ فإنَّ ارتباط الحكم بـ”العلم” كان قد جاء مع ورود لفظة حُكم منكرة.. وهي دلالة تشير إلى أنَّ هذه الأخيرة ـ في ارتباطها بـ”العلم” ـ من جنس “الحُكم”، وتعني جزءًا منه، لا كله.

و”الحُكم” المقصود، هنا، هو ذلك الذي جاء مرتبطا بـ”النبوة”. ودليلنا على ذلك، أنَّها جميعا “آتية” من عند الله وتخص الأنبياء.. فهي آتية من عند الله، كما يوضح ذلك الفعل “أتى” الذي جاء في الآيات التي وردت فيها ثلاثية: “الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ”؛ وجاء، في الوقت نفسه، في الآيات التي وردت فيها ثنائية: “حُكْمًا وَعِلْمًا”.. وهي، أيضًا، تخص الأنبياء الذين جاء ذكرهم في سورة الأنعام (83 – 90).. نعني ما يُشير إليه قوله سبحانه: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ” [الأنعام: 89].

وفيما يبدو، هكذا، عبر هذه الآيات البينات، فإنَّ المعنى المتضمن في الإطار العام الجامع بينها، بشأن مفردتي الحكم والحكمة، هو أبعد ما يكون عن المعنى ـ السياسي ـ الشائع حاليًا.

يتبع

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock