القدس فريدة بين مدن العالم، ليس فقط بسبب ارتباطها بالأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام، التي تقع أماكنها المقدسة بين تُخُومِها؛ ولكن –أيضا– بسبب موقعها الاستراتيجي في المنطقة العربية.. وإذا كانت القدس، بإطلالتها من عليائها، من ذرى التلال، قد أكدت أهميتها في التاريخ، وفي الحاضر (الراهن) أيضا؛ إلا أنَّه في المستقبل سوف تزداد أهميتها هذه، في ظل كافَّة ما نراه من ظروف وملابسات.
إذ، من النادر أن تجتمع لأي مدينة من مدن العالم كله، وعبر تاريخ البشرية المديد، سمات كتلك التي اجتمعت في، واتسمت بها، مدينة القدس. فهي بحق، فريدة بين مدن العالم، من حيث مكانتها المقدسة، ودورها الحضاري، وتعلُّق مئات الملايين من المؤمنين في مختلف بقاع الأرض بها، ثم تحوُّلها إلى قضية سياسية بارزة؛ لم يهدأ الصراع حولها في أي وقت من الأوقات.
القدس.. رمز تاريخي
الصراع بشأن القدس كثير الجنبات، متنوع الساحات، متعدد المجالات، هو تاريخي، ثقافي، ديني، سياسي وحضاري. ورغم أنَّنا يمكن أن نضيف إلى هذه الصفات، صفات أخرى؛ إلا أنَّه مهما اتسعت وكثرت هذه الصفات، أو ضاقت وقلت فإنَّ القدس بوصفها مدينة عربية، من المدن المعروفة منذ أقدم عهود التاريخ، لا يمكن أن تكون مثل برلين حيث حلت محلها بون، ولا مثل اسطنبول حيث قامت مقامها أنقرة.
القدس، رمز تاريخي يمتد بجذوره إلى خمسة آلاف سنة خلت؛ تمتعت خلالها بمكانتها الروحية الفريدة التي تضرب جذورها في أعماق الديانات السماوية الثلاث.. إضافة إلى مكانها السياسي المتميز بين أكثر الأمكنة السياسية حساسية في منطقة الشرق الأوسط، بل والعالم كله. ولعل هذا ما يتبدى بوضوح إذا لاحظنا أنَّ القدس تحظى بالأهمية نفسها، وبالقداسة المُطلقة بالنسبة لهذه الديانات.. اليهودية والمسيحية والإسلام.
فبالنسبة لأتباع الديانة اليهودية، ينبع هذا الاعتقاد من أن القدس كانت تضم “هيكل سليمان” الذي دمَّره البابليون في المرة الأولى، ثم أعاد الرومان تدميره مرة أخرى وأزالوا آثاره بالكامل.. وتبعا لنفس الاعتقاد، ينظر اليهود إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك –في قلب القدس العربية– على أنَّها هي “موقع الهيكل”.
ورغم أن الحفريات الواسعة التي أجراها الإسرائيليون في المدينة، على مدى أكثر من ثلاثين عاما مضت (منذ احتلال القدس في يونيو 1967) لم تظهر وجود آية آثار متصلة بالهيكل المزعوم، وإنَّما كانت آثارا إسلامية وبيزنطية. رغم ذلك فإنَّ الإسرائيليين يتخذون من هذا الاعتقاد ذريعة للاستحواذ على المدينة بكاملها، كذلك المناطق المحيطة بها، واعتبارها عاصمة الدولة العبرية.
وبالنسبة إلى الديانة المسيحية.. فقد شهدت مدينة “بيت لحم” القريبة من القدس ميلاد السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام؛ فكانت فلسطين منطلق الدعوة المسيحية. والقدس نفسها تضم عددا من الآثار الدينية المسيحية المهمة، أبرزها كنسية القيامة. هذا فضلًا عن أنَّ جميع سكان القدس كانوا مسيحيين، عندما فتحها العرب المسلمون “سِلما” (678 ميلادية)، وانتزعوا السلطة فيها من البيزنطيين، بمساعدة سكانها المسيحيين.. قبل ذلك كانت القدس، لما يقرب من 300 سنة، مدينة مسيحية بالكامل، وذلك بعدما حظر على اليهود الإقامة بها.
القدس.. أولى القبلتين
أمَّا بالنسبة إلى الديانة الإسلامية، فإنَّ القدس كانت القبلة التي اتجه إليها المسلمون الأوائل، قبل أن تصبح مكة المكرمة قبلتهم –استمرت القدس قبلة للمسلمين طيلة 16 – 18 شهًا، قبل الهجرة إلى المدينة– ولا يزال المسجد الأقصى، الذي يقع في قلب مدينة القدس، إلى يومنا هذا يُعرف من قبل المسلمين بأنَّه “أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين”. بل إنَّ ما عزَّز من قدسية القدس: الآية التي تصف الرحلة الإعجازية للنبي محمد –عليه الصلاة والسلام– ليلا من مكة المكرمة إلى القدس (الإسراء). حيث يقول الله سبحانه وتعالى: “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” [الإسراء: 1].
وقد أصبح إسراء النبي –عليه الصلاة والسلام– من مكة المكرمة (المسجد الحرام) ومعراجه من القدس (المسجد الأقصى) أحد أبرز المعتقدات الإسلامية؛ ناهيك عما تضمُّه مدينة القدس من المعالم الإسلامية، أبرزها المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، والمدارس الإسلامية التاريخية التي يبلغ عددها 56 مدرسة. أضف إلى ذلك أنَّ القدس ظلت تحت “الحكم الإسلامي” لما يقرب من 1100 سنة، أي: حتى نهاية الحرب “الأوروبية” الأولى (1914 – 1918)، لم تقطعها سوى فترة الغزو الصليبي (أو “حروب الفرنجة”، كما نفضل نحن أن نُطلق عليها)، إلى أن استعادها منهم القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي.
وهذا التراث المشترك للديانات الثلاث، جعل كل ما هو مقدس بالنسبة لاتباع الديانتين: اليهودية والمسيحية، مقدس بالنسبة للمسلمين أيضا؛ ولذلك، تعامل الحكم الإسلامي بانفتاح كامل مع أهل الديانتين وكفل لهم حرية العبادة، ما أدى إلى إرساء قواعد ثابتة للعيش المشترك بين الجميع.
بيد أنَّ هذا الواقع بدأ يتغير تدريجيا مع انطلاق مشروع إنشاء الدولة العبرية في فلسطين في أعقاب مؤتمر بازل بسويسرا في عام 1897، ثم حصول الحركة الصهيونية على وعد بلفور في عام 1917، والانتقال بعد ذلك إلى التنفيذ عبر موجات الاستيطان اليهودي المتلاحقة باتجاه “الأرض الموعودة”؛ التي بدأت محدودة، ثم تطورت لتصبح غزوا استعماريا كاملًا.
وفي ما يبدو فإنَّ الحديث عن القدس هو –في حقيقته– حديث عن دين أو أديان، ووطن، وتاريخ، وثقافة؛ بل وعن “عقيدة موجِهة” (أيديولوجيا) أيضا.. القدس هي ماض وحاضر، وهي –اليوم– المستقبل.
القدس.. هوية فلسطين
وبكلمة، إنَّ القدس هي هوية فلسطين، بمعنى أنَّ القدس ليست مدينة في وطن هو فلسطين، وإنَّما يكاد أن يكون العكس هو الأقرب إلى الصحة، أي إنَّ فلسطين وطن في مدينة هي القدس. فـ”فلسطين” بدون القدس، أرض بلا تاريخ، بلا قلب. ولأنَّ هذا “التوصيف” ليس مجرد صف للكلمات، فإنَّه لا يعبر –في واقعيته الموضوعية– سوى عن أنَّ فلسطين بوصفها وطنا في مدينة هي القدس، ليست مسئولية الفلسطينيين وحدهم، وأن ما يمكن أن يتم التنازل عنه في قضية القدس لا ينطوي –ولا يمكن أن ينطوي– على أية حجية شرعية.
هذا وإن كان يضعنا مباشرة في مواجهة مسألة القدس “المكان والمكانة”، بوصفها “مسألة أولى” في أي حديث عن القدس؛ فهو في الوقت نفسه يضع اليد على مفتاح هذه المسألة برمتها..
إذ، لا تمثل القدس مدينة أو جزءًا من مدينة فلسطينية محتلة؛ بل هي قيمة انتماء مهددة بالاغتصاب، وروح هوية عربية إسلامية معرضة للاستلاب. ومن ثم لا يمكن اختزال قضية القدس ومصيرها إلى مجرد مسألة الوصول بحرية إلى الأماكن المقدسة.
ولعل قولنا الأخير هذا؛ يستند في ما يستند إليه، إلى أنَّ القدس تُشكِّل اليوم قضية القضايا، وذلك في الإطار العام للصراع بين العرب وإسرائيل
في هذا الإطار، وفي ضوء هذه المكانة التي تحظى بها مدينة القدس، فإنَّنا نحاول –هنا– أن نعيد فتح ملف القدس عبر عديدٍ من الزوايا، التي تتمحور كلها حول “زهرة المدائن والمستقبل” أو قل مستقبل القدس في السياق العام لكافة ما نراه من ظروف وملابسات يمر بها منحنى الصراع بين العرب وإسرائيل.