تبدأ الصفحات الأولى من تلك الرواية البديعة بوصول صحفية أمريكية اسمها “إيزابيل باركمان” إلى شقة الدكتورة “أمل الغمرواي” في القاهرة، حاملة معها صندوقا كبيرا وعتيقا عندما فتحته وجدت به دفاتر قديمة، ورسائل كثيرة بعضها مكتوب بإنجليزية راقية، وبخط دقيق وواضح، وأوراق أخرى مكتوبة باللغة الفرنسية، والقليل جاء بالعربية، بحروف واضحة ولغة رشيقة، وحرص صاحبها أن تكون قليلة وواضحة الهدف؛ فهي ليست خواطر أو مشاعر مٌرسلة.
نعرف مع تّطور أحداث الرواية أنَّ الرسائل المكتوبة باللغة الإنجليزية هي بقلم الليدي “أنا ونتربورن” التي تجيد بجانب لغتها الأم، اللغة الفرنسية أيضا، وأغلبها موجه إلى السير “تشارلز” والد زوجها المتوفى “إدوارد ونتربورن” ووالدها الروحي وموجهها في الحياة، والقليل منها أرسلته إلى صديقة وصديق لها يعيشان في لندن، أما الرسائل المكتوبة بالفرنسية فهي لشقيقة زوجها “ليلى هانم البارودي” التي أجادت الفرنسية عندما رافقت زوجها “حسني بك الغمرواي” خلال دراسته في فرنسا.
نعرف أيضا أن الأوراق المكتوبة باللغة العربية الفصيحة، هي لـ”شريف باشا البارودي” بلغة تكشف عن مهنته، كمحامٍ قدير ومثقف كبير، ورجل خبِرَ الحياة، وبعض الأوراق مكتوبة بلغة فرنسية دقيقة، حيث كانت دراسة “شريف باشا البارودي” في باريس؛ فأجاد الفرنسية كتابة وحديثا.
وبعد الخوض في صفحات تلك الرواية التأريخية بامتياز، نُدرك شجرة العائلة التي جمعت فرعين، أولهما ذرية “شريف باشا البارودي” والليدي “آنا ونتربورن”. أما الفرع الثاني فهو ذلك الجيل الذي جاء ثمرة زواج “ليلى هانم البارودي” من “حسني بك الغمرواي”.
عن ذرية “شريف باشا البارودي” نعرف أنه أنجب “نور” التي تزوجت رجلا فرنسيا وأنجبت منه ابنتهما “ياسمين” التي عاشت في أمريكا وتزوجت رجلا أمريكيا، أنجب منها “إيزابيل باركمان” تلك الصحفية التي وصلت إلى القاهرة؛ لتكتب كتابا أو دراسة أو تحقيقا موضوعه “كيف يرى العرب الألفية الجديدة التي تبدأ مع سنة ٢٠٠٠؟”.
أما الفرع الثاني من العائلة فهي تلك المنسوبة إلى “ليلى هانم البارودي” وزوجها “حسني بك الغمرواي” الذي أثمر زواجهما ابنا واحدا هو “أحمد حسين الغمرواي” الذي رافق الطفلة “نور” في مهدها وطفولتها، حيث جمعهما بيت كبير، أقرب الى القصر يملكه خاله “شريف باشا البارودي” ويعيش فيه كل أفراد العائلة، ونعرف أيضا أن أملاك وأطيان “الباشا” في قرية “طواسي” بمديرية المنيا في صعيد مصر، وكذلك أملاك “حسني بك الغمرواي”.
هذا الفرع من تلك العائلة يبدأ بـ”أحمد حسين الغمرواي” الذي ولد في مطلع القرن، ولكن يبدو أنه تزوج في سن متأخرة من عمره، لذلك لم ينجب سوى “عمر حسين الغمرواي” وشقيقته “أمل” و”عمر” هو من أرسل الحقيبة الكبيرة التي تضم رسائل الأجداد إلى شقيقته في القاهرة مع “إيزابيل باركمان” تلك الصحفية القادمة من أمريكا الى القاهرة.. ولكن ثمة صلة بين “عمر” وشقيقته “أمل” بجذور عائلية فلسطينية، فمن واقع كتاب عنوانه “دليل المشاهير” تقرأ “أمل الغمرواي” عن شقيقها تلك الكلمات.
“عمر، ابن أحمد حسني الغمرواي ومريم الخالدي، مواليد القدس 15 سبتمبر ١٩٤٢، درس بجامعة كورنيل بنيويورك، المهنة عازف بيانو، وقائد أوركسترا وكاتب، بدايته مع “الفيلهارمونيك” بنيويورك ١٩٦٠، جولات فنية شملت كثيرا من دول العالم، كتبه “السياسة والثقافة” ١٩٩٢، “الإرهاب: حالة ودولة” ١٩٩٤، “الحدود واللجوء” ١٩٩٦”.
هذه الكتب كانت سببا إضافيا لجعله شخصية مشهورة، ونال بمقتضاها عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، ورغم ذلك كان كثير النقد للزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” وبدت مواقفه السياسية شديدة الشبه مع مواقف المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” صاحب كتاب “الاستشراق” الشهير والخطير.
بين أفراد هذه العائلة وأجيالها المختلفة تجري وقائع تلك الرواية، ولذلك فقد لجأت “أهداف سويف” إلى أن تتحدث عن الوطن من خلال التوقف عند رؤية الأجداد “شريف باشا” وزوجته الليدي “آنا ونتربورن” و”ليلى هانم” شقيقة “شريف باشا” وتلك السلسلة الأخيرة من هذه العائلة التي تضم “عمر الغمراوي” وشقيقته “أمل” فضلا عن “إيزابيل باركمان” آخر ذرية “شريف باشا” ولكن هذه الوقائع الجديدة تجري بعد نحو مائة عام أو أقل قليلا.. من تلك الوقائع التي جرت في بداية القرن العشرين، وكان بطلاها “شريف باشا” وزوجته الليدي “آنا ونتربورن”.
أحداث –بطبيعة الحال– جد مختلفة، فمئة عام ليست أياما معدودة أو أسابيع عابرة، فقد وقعت حروب، وقامت تحالفات دولية كبرى، وانهارت دول عُظْمَى، وقامت ثورات، واختفى قادة ومات زعماء، واقتحم العلم مجالات فاقت الخيال، وطالبت الشعوب بحقها في الحياة، وتصدّرت حقوق الإنسان والديمقراطية كل خطاب، فيما بقيّ الفقر والفقراء والنزاعات والحروب العبثية، والحروب بالوكالة تأكل من جسد البشرية، واستشرى الإرهاب حتى بات ظاهرة دولية، شأنها شأن ما عُرف بالعولمة.
غير أنني أرى في وقائع الحياة التي صاحبت الأجداد ثراءً معرفيا وتاريخيا، يفوق بكثير تلك الأحداث التي شملت السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات من نفس القرن.
فالقارئ لرسائل الليدي “أنا ونتربورن” إلى السير “تشارلز” يقع عَلى ثروة معرفية، تاريخية وسياسية واجتماعية وإنسانية مُذهلة تفوق في نظري الكثير مما كتبه مؤرخون كبار، فقد تحدثت عن سياسة اللورد “كرومر” الباطشة الحمقاء، والخديوي “عباس حلمي الثاني” مسلوب الإرادة والقرار، وتحالفاته الوهمية مع الخلافة العثمانية، والاتفاق الودي بين لندن وباريس، الذي نص عَلى إطلاق يد بريطانيا في مصر والسودان وفلسطين والعراق والخليج، في مقابل منح فرنسا السيطرة عَلى كل شمال إفريقيا، الجزائر وتونس والمغرب العربي.
وتحدثت كذلك عن الحركة الوطنية المصرية، ورموزها الكبار: “مصطفى كامل” و”محمد فريد” و”أحمد لطفي السيد” والإمام “محمد عبده” وزوجها “شريف باشا البارودي” ودوره الكبير في إنشاء الجامعة المصرية ومدرسة الفنون، وكان نحَّات مصر الأعظم “محمود مُختار” أول مبعوثيها إلى فرنسا، وإعدامات فلاحي دنشواي، وهيئة المحكمة التي ترأسها “بطرس باشا غالي”، وعاونه “فتحي زغلول” شقيق “سعد باشا زغلول” وممثل الادعاء “إبراهيم بك الهلباوي”.. ورفض الجمعية التشريعية لمد امتياز قناة السويس الذي قدمه “بطرس غالي” ودفع حياته ثمنا لفعلته، عَلى يد صيدلي شاب هو “إبراهيم الورداني” وكذلك زيارة الرئيس الأمريكي “وادرو ويلسون” إلى مصر والسودان وهو من خذل مطالب مصر والسودان في التحرر والاستقلال، مُبَارِكا سياسة الاحتلال البريطاني.
وقائع وتفاصيل كثيرة تفوق الخيال، ولفرط دقتها أظن أنها نصوص حقيقية نشرتها “أهداف سويف” نقلا عن أصحابها الليدي “آنا ونتربورن” أو “ليلى هانم البارودي” أو غيرهما، ودليلي عَلى ذلك هو الفارق الكبير في دقة اللغة وجمالها بين النصوص الواردة عَلى لسان أصحابها في بداية القرن، وذلك الإبداع الوارد عَلى لسان الكاتبة.
من سوء الحظ أنني شرعت في قراءة هذه الرواية الرائعة بعد شهور من لقاء عابر جمعني بـ”أهداف سويف” في حضور أخي الأديب الكبير “إبراهيم عبد المجيد” في أتيليه القاهرة، فكان من المنطقي في هذه الحالة أن أسالها عن حقيقة تلك النصوص المنسوبة لأصحابها، وتم كتابتها باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وهذا ما أرجحه وأراه منطقيا، ولذلك رأت الكاتبة أن يكون الإصدار الأول للرواية باللغة الانجليزية، ثم ترجمتها إلى العربية.
وفي هذه الحالة كان يتعين على “أهداف سويف” أن تُشير إلى حقيقة تلك النصوص، فهي تدخل في نطاق “الوثائق التاريخية” لا الإبداع الأدبي.
وإذا كان هذا التصور الذي أطرحه غير صحيح، وأن تلك النصوص وخصوصا رسائل الليدي “آنا ونتربورن” و”ليلى هانم البارودي” من نسج الخيال والإبداع، فتكون “أهداف سويف” قد بلغت حدًا من الإبداع يؤهلها للحصول عَلى جائزة “بوكر” العالمية بقوة واقتدار، فالتفاصيل الواردة تفوق كل تصور، وتتعدى حدود الخيال.
وإذا كانت هذه الملاحظة تدخل في إطار النقد أو التساؤل، ففي ظني أن “أهداف سويف” قد جانبها الصواب في الجمع داخل الفصل الواحد بين رسائل الليدي “آنا” و”ليلى البارودي” والوقائع المُعاصرة الواردة عَلى لسان “أمل الغمراوي” أو شقيقها “عمر” أو الصحفية “إيزابيل باركمان” وهو الأمر الذي يثير الارتباك، ما دفعها إلى استخدام ثلاثة أنواع من الحروف أو الكتابة ما بين النسخ والرقعة وحجم الحرف.
لماذا اللجوء إلى هذا الأسلوب؟ كان أجدى بها رحمة بالقارئ، أن تفصل بين ما هو قديم ، وما هو حديث ومُعاصر.
ثمة ملاحظة أخيرة تتعلق بعنوان هذه الرواية الآسرة والرائعة، فلم أجد ما يُعزز هذا العنوان من وقائع وأحداث! فـ”خارطة الحب” ليس عنوانا مناسبا، فما جرى أكبر من أي خارطة للحب، وكان الأحرى أن تُسمى الرواية “رسائل القاهرة” في إشارة إلى رسائل الليدي “آنا ونتربورن” إلى السير “تشارلز” المناصر للقضية الوطنية المصرية.
وإذا كان هدفنا هو البحث عن عنوان للرواية يساعد عملية التوزيع عَلى نطاق واسع فمن الأجدى أن يكون العنوان هو “رسائل الحب” في إشارة أيضا إلى حب هذه الإنجليزية السامية لمصر ولزوجها “شريف باشا البارودي” الذي كانت ترى فيه تجسيدا للوطن في كل شموخه ونُبله وطموحه.
تبقى ملاحظة قد تكون صحيحة.. ففي ظني أنّ “أهداف سويف” قد نجحت في التعبير عن قناعتها السياسية، من خلال شخصية “أمل الغمراوي” برفض التطبيع مع اسرائيل، ومناقشاتها في أتيليه القاهرة مع زملاء وأصدقاء يساريين حقيقين منهم “أروى صالح” إحدى قيادات الحركة الطُلابية في السبعينيات التي أعتقد –بحكم تاريخ ميلاد “أهداف سويف”– أنها كانت من أصدقائها المُقربين خلال سنوات تلك الحركة، فضلا عن ذكر أسماء حقيقية في الحياة الثقافية في تلك الفترة منها الدكتور “رمزي يوسف” مدير المركز الثقافي الروسي الذي وصفته بالأستاذ الجامعي، فضلا عن الإتيان على وقائع حقيقية منها انتحار “أروى” وهي في عمر الشباب، وصعود جماعات التأسلم السياسي التي بلغت ذروة عنفها في الحادث الإجرامي بمعبد الدير البحري في البر الغربي بالأقصر الذي راح ضحيته عشرات السياح الأجانب في خريف عام ١٩٩٧.
عمل فذ برغم أي ملاحظات، فبجانب تلك الأبعاد والجوانب الإبداعية التي تزخر بها تلك الرواية، فهي عمل تأريخي بامتياز واقتدار، يحكي عن مصر بكل حب، ويأتي على ما جرى من وقائع بكل تفصيل، إلى الدرجة التي يمكن معها وصف هذه الرواية، بأنها مرجع لا غنى عنه لكل وطني مهتم بعلم التاريخ والاجتماع والسياسة، فضلا عن عشق الأدب ومحبة الوطن.