الناصر صلاح الدين قائد عظيم، ارتبط اسمه بتحرير مدينة القدس الشريف –بعد احتلال الفرنجة لها لنحوٍ من ثمانية وثمانين عاما– بالنصر المؤزر في “حطين”.. ارتبط كذلك اسم “صلاح الدين” بالعديد من المآثر التي أظهرت تحضّره الشديد في معاملة الأسرى، ودفع الفدية عن الفقراء منهم، والمسارعة إلى إعادة المفقودين إلى ذويهم، بالإضافة إلى إرجاع الفضل إليه في “تسنن” مصر بعد تشيعها لفترة جاوزت القرنين.. لم يقتصر الأمر على العرب في التغني بفضائل السلطان الكردي الأصل التكريتي المولد؛ بل امتد إلى الغرب إذ “ظل في الوعي الأوروبي نموذجا للفارس الشهم الذي تتجسد فيه أخلاق الفروسية بالمفهوم الأوروبي، حتى أنه توجد ملحمة شعبية شعرية من القرن الرابع عشر تصف أعماله البطولية”.
وفي حكمه لمصر تتعدد المصادر القائلة بأنه سار بين الناس بالسوية، وأنه كان أحن الملوك على الرعية، على الرغم من أنه استوزر “قراقوش” وولاه القضاء، وهو من كان في مسلكه مضرب الأمثال في الجور والبطش والأحكام المنافية للشرع والعقل.. وكانت فترة عمله مع الأيوبي نحوا من ثلاثة عقود؛ اشتدت فيها معاناة المصريين من كل وجه!
ونكاد نجزم باكتمال دائرة التواطؤ واستحكامها في عدم ذكر أيٍ من مثالب حكم ابن أيوب؛ وكأنه كان عند مؤرخي عصره في منزلة الراشدين! وليس المقام هنا مقام هجاء وذم؛ لكنه مقام سؤال للاستيضاح والفهم؛ وذلك بالنظر المدقق في حكم أصدره “صلاح الدين” وأصر على إنفاذه، وهو الحكم بإعدام “السهروردي” برغم محاولات البعض إِثناءه عن ذلك، من باب أن أحكام الإعدام لا تصدر بالشبهة، بل باليقين الكامل والدليل الدامغ.. فما هي ملابسات تلك القضية؟
يقول سبط ابن الجوزي في تفسيره لإصدار صلاح الدين لهذا الحكم بإيعاز من فقهاء حلب الذين نقموا على “السهروردي” آراءه ومذاهبه “إن صلاح الدين كان مبغضا لكتب الفلسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة”. وهذا يعني أن وشاية الفقهاء قد صادفت هوىً في نفس السلطان؛ فسارع بإصدار الحكم.
وإذا نظرنا في لائحة التهم الموجهة إلى السهروردي سنرى بجلاء لا يحتمل اللبس أنها غير كافية لقتله، فهل كانت هناك تهم أخرى غير معلنة، هي السبب الرئيسي في الحكم بإعدامه، والمسارعة بتنفيذ الحكم؟ وهل كانت هذه التهم غير المعلنة مؤسسة على قرائن ثابتة؟
يشير المؤرخ “بروكلمان” إلى أن اعتقاد علماء وفقهاء حلب بارتباط “السهروردي” بأفكار القرامطة، تلك الجماعة الإسماعيلية المعادية للدولة، وإرسالهم الرسائل للسلطان الأيوبي بهذا الخصوص، وإلحاحهم في طلب التخلص منه هو ما جعل “صلاح الدين” يشدد على ولده –الذي كان واليه على حلب– في قتل “السهروردي”.
إن الرواية الوحيدة الثابتة بهذا الشأن وهي للأصفهاني تكتفي بذكر قول “السهروردي” أمام السلطان الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف الأيوبي ” إن الله قادر على أن يخلق نبيا لأنه لا حدود لقدرته” وهو ما رأى البعض أنه قول يفضي إلى نهاية نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنها ليست الخاتمة. غير أن بعضهم عللها بأن قدرة الله لا تنتهي عند حد من الحدود، ولكن الاعتقاد ببقاء باب النبوة مفتوحا بعد محمد يعد بمثابة نهاية للإسلام برمته، لأن عقيدة المسلمين تقوم على أنه لا نبي بعد محمد. غير أن البعض رآه قولا افتراضيا عن قدرات الله غير المحدودة.
وقد تأثر “السهروردي” بفلاسفة اليونان، وخاصة أفلاطون، ثم بالعقائد الفارسية القديمة، وفلسفة “زرادشت” وقد مزج هذا كله بالدين الإسلامي وآراء الصوفية المسلمين.
وبالتأثر بما كتبه اليونان القدماء –نقل “السهروردي” إلى المسلمين مذهب “الإشراق” الذي يقوم في جملته على القول بأن مصدر الكون هو النور، وهو يعبر عن الله سبحانه وتعالى بالنور الأعلى، ويصف العوالم بأنها أنوار مستمدة من النور الأول. والمعرفة الإنسانية في مفهوم الإشراقيين “إلهام” من العالم الأعلى، يصل بواسطة عقول الأفلاك، وهو ما يسمى بالكشف أو الإشراق، أي ظهور الأنوار العقلية بعد تجردها.
وبهذه الفكرة، حاول “السهروردي” تفسير الوجود ونشأة الكون والإنسان، كما أنه حاول إبراز الفلسفة الزرادشتية القديمة من خلال فلسفته النورانية، والتعويل على فكرة النور وإشراق الأنوار لتبديد ظلمة الأجسام والمادة.
ويرى “السهروردي” أن الإنسان يستطيع الوصول إلى الغاية القصوى التي ينشدها الصوفية بعامة، وهي الوصول إلى ما أسماه عالم القدس أي الحضرة الإلهية، عن طريق الرياضة الروحية ومجاهدة النفس، وأنه عند وصوله إلى هذا المقام الأخير السامي؛ يتلقى من نور الأنوار (الله) المعارف. وقد ذكر “السهروردي” أنه وصل إلى هذه المرحلة عندما فارق جسده، واتصل بالملكوت الأعلى!
نقل مؤرخون عن كتب السهروردي أن فلسفته الإشراقية تعتبر إحدى النماذج الحية التي يظهر فيها التداخل بين الفلسفة العقلانية (المشائية) وبين فلسفة التصوف وتشابكها بالفكر الإشراقي المتعدد الأوجه (الزرادشتي، الفيثاغوري، الأفلاطوني، الهرمسي، البوذي، والهندوسي) الذي بلور أفكارها المختلفة في إطار الإسلام العام. ويبدو أن المذهب الصوفي الإشراقي الذي تفرّد به “السهروردي” كانت مبادئه تقوم على وحدة الوجود، وهو من نظم نظريتها المتكاملة.
لقد كان اختلاف أهل حلب حول “السهروردي” كبيرا، إذ رفعه بعضهم إلى مرتبة “المؤيد بالملكوت” في حين هوى به آخرون إلى منزلق الكفر والإلحاد، وإدمان الخمر وحب المال وتملق السلطان، وللحقيقة فإن كل هذه التهم لم يقم عليها دليل واحد، والثابت أنه كان أشد الناس زهدا في متاع الدنيا، يروض الجسد الفاني بالجوع والسهر وترك المباحات، وما خمره التي كثر ذكرها في أشعاره إلى رمز للحب الإلهي حسب ما هو متعارف عليه في قصائد الصوفية.
وبرغم أن السهروردي بادر إلى إجابة دعوة الظاهر الأيوبي لمناظرة الفقهاء، وبرغم أنه أسكتهم بقوة حجته وبراعة منطقه إلى أن الأمر انتهى إلى الحكم عليه بالموت، ويروى أن الظاهر الأيوبي خيّره في أمر موته، فاختار “السهروردي” أن يحبس دون طعام وشراب حتى يهلك، فكان له ما اختار، فقضى وهو بعد لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره، مخلفا وراءه تراثا فلسفيا وصوفيا قيما، وقد ضاع بعضه كما نُسب إليه من الكتب ما ليس له.
سيظل “شهاب الدين السهروردي” –وإن اختلفت الآراء حوله– أمثولة لكل زمان لا تجد السلطة “الفاشية” فيه أعدى ممن لا يؤثرون السلامة انتصارا للعقل والحقيقة.
بطاقة تعريف
ولد السهروردي الملقب بشهاب الدين، والمشتهر بالشيخ المقتول في منتصف القرن الثاني عشر وتحديدا عام 549هـ /1155م في بلدة سهرورد بالقرب من مدينة زنجان الحديثة الواقعة في شمال إيران بين قزوين وسلسلة جبال البورز المشهورة بارتفاعها الشاهق، ونشأ في مدينة مراغة ، من أعمال أذربيجان، تلك المدينة القريبة من مسقط رأسه والتي أرسل إليها وهو ابن عشر سنين ليتعلم على يد الشيخ مجد الدين الجيلي في مدرسته، فبدأ حياته العلمية صغيرا حيث شرع بقراءة القرآن والحديث وقواعد الصرف والنحو، ثم حضر دروس الفقه والأصول والمنطق والفلسفة حتى برع فيها، وهناك تعرف على زميل الدراسة فخر الدين الرازي وجرت بينهما نقاشات ومباحثات عديدة.
ثم انتقل إلى أصفهان في وسط إيران، المركز الرئيسي للحركة العلمية آنذاك، فوجد السنة السينوية لا تزال حية ، فأتم دراساته المقررة على يد الشيخ ظهير الدين القاري، وقرأ كتاب البصائر النصرية في المنطق لعمر بن سهلان الساوي، وطالع كتب ابن سينا التي كانت تحظى باهتمام بالغ من قبل العلماء.
وفي الشرق الإسلامي يشتهر السهروردي بلقب شيخ الإشراق عن بقية الألقاب التي أطلقت عليه، باعتباره يحمل اسم حكمته التي اشتهر بها (حكمة الإشراق) التي أضحت مدرسة فلسفية صوفية متكاملة ما تزال حتى يومنا هذا لاسيما في الهند وباكستان وإيران .
ويروى عنه أنه كان من كبار المتصوفة في زمانه ومن أفقه علماء عصره بأمور الدين والفلسفة والمنطق والحكمة، ومن كتبه أيضا رسائل في اعتقادات الحكماء وهياكل النور.
وصفه ابن أبي أصيبعة بقوله: “كان أوحد في العلوم الفقهية والحكمية والأصول الفقهية مفرط الذكاء جيد الفطرة فصيح العبارة، لم يناظر أحدا إلا بزه، ولم يباحث محصلا إلا أربى عليه، وكان علمه أكثر من عقله”. وقال عنه الشيخ فخر الدين الرازي :”ما أذكى هذا الشاب وأفصحه لم أجد أحدا مثله في زماني إلا أني أخشى عليه من كثرة تهوره”.