رؤى

الكيان المؤقت.. ومعاداة التاريخ!

غرّد الفنان المصري المعروف بخفة ظله “يا بخت طلاب إسرائيل ما عندهمش تاريخ ولا جغرافيا” نالت التغريدة رواجعا شديدا ووضعها الآلاف على صفحاتهم تندُّرا على حال هؤلاء الطلاب الذين لا تاريخ لدى دويلتهم المقامة على أرض مغتصبة منذ نحو من خمسة وسبعين سنة فقط؛ لكنَّ الأمر لا يقف عند افتقاد الطلاب داخل الكيان الصهيوني لدراسة هاتين المادتين وما يترتب على ذلك من تقليل أعباء المذاكرة والامتحانات؛ فلا يكتفي هؤلاء الذين يعيشون أجواء العَسْكَرَة طوال الوقت، بهذه الميزة التي يحسدهم البعض عليها وإن كان ذلك على سبيل السخرية- لأن ذلك يورثهم حالة من العداء السافر للتاريخ ولأمم التاريخ على نحوٍ لافت.

هذا المأزق الذي يشوِّه النفس البشرية، ويحوّلها إلى مسخ. يجعلها تلجأ إلى وسائل دفاعية لرد هذا الإحساس بالضِّعَة والتصاغر- الكيان المؤقت يمثل نموذجا واضحا لهذه الحالة التي تحولت إلى العدوان الكامل، واختيار دور الجلاد هربا من دور الضحيَّة.

معاداة التاريخ ظاهرة معروفة ترتبط ارتباطا وثيقا بالمجتمعات الاستيطانية إذ يلجأ هؤلاء المطرودون أو الفارون من مجتمعاتهم الأصلية إلى التشويه والتلاعب بالمعلومات التاريخية بهدف تغيير الحقائق أو إخفائها؛ تسويغا لوجودهم الحادث.

تمثل هذه العملية تمهيدا يعتمد التشويش والبلبلة؛ يعقبه نشر الأكاذيب على أوسع نطاق، مع ربطها ببعض الحقائق -غير الواضحة- بقصد التضليل والتعمية.

قصف غزة

وإذا كان البعض يحلو له إعزاء قيام هذا الكيان السرطاني إلى جهود هذا المؤسس أو ذلك، أو لتواطؤ دولة ما أو عدة دول.. إلا أن الأكيد أن الأساس الأقوى في قيام الكيان اللقيط هو الأكذوبة لا شك في ذلك.. تلك الأكذوبة التي نراها في الأحداث الدامية المستمرة منذ السابع من أكتوبر الحالي- مازالت قادرة على فرض نفسها في ظل عقول مسلوبة وقلوب غافلة.. حتى إننا سمعنا ورأينا من بعض أصحاب اللسان العربي من يبرر إجرام الدولة العبرية بحجة حق الدفاع عن النفس.

معاداة التاريخ والتعامل معه بتلك الوسائل سبقت إليه أمريكا بعد إبادتها للسكان الأصليين، ومحاولة استنبات جذور مريضة في أرض الغير.. لكن هذه الجذور مهما امتدت في داخل الأرض ستلفظ يوما ما.. لأن حقائق التاريخ ما تلبث أن تعود لتفرض نفسها وتفضح كل المتواطئين على تلك الجريمة.

إن تزييف الأحداث وإنكار الوقائع وتقديم رؤى مغلوطة دائما لا يصمد كثيرا مهما تصور البعض ملاءمة الأجواء لرواجه؛ ذلك لأنه بضاعة مسمومة ينال ضررها من “طبخها” لأنه مهما صدّقها ستسلمه في لحظة ما إلى حقيقة عارية لا يود مواجهتها ولا يقوى على ذلك ولا قدرة له حتى على إنكارها حينئذ.

المقاومة الفلسطينية

ولا شك أن معاداة التاريخ، تُوْقِعُ هؤلاء المزيفين في تناقضات عديدة منها استلهام الأساطير التي تروّج بها بعض الأكاذيب، والأسطورة لا تصمد كثيرا أمام التناول العلمي، لكنهم ربما يكتفون بما تحدثه مثل هذه الأمور من تلبيس لبعض الحقائق لدى كثيرين.. لأن الهدف ليس إرساء قواعد قوية لتلك الادعاءات – أمر من الصعوبة بمكان- بل إضعاف الرؤى الأخرى وبث الشكوك لدى أصحابها.

سنجد كثيرا من الأصوات في هذا الوقت العصيب ترتفع بحقائق تتعلق بالمحافظة على الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي وما تحقق من إنجازات هنا أو هناك.. وأن تضحيات الشعوب التي تسعى لنيل حريتها أو استعادة وجودها خيارات لا شأن لغير أصحاب الشأن بها.. والمتابع لما يحدث يرى ذلك بوضوح على مواقع التواصل بشكل فج هو أقرب إلى التبجح.. تلك الواقعية الخشنة التي نراها هي وجه آخر من وجوه معاداة التاريخ.. باستخدام أدوات أكثر خبثا في تخذيل شعوب الأمة العربية عن الحدث والتفاعل معه، وهو جزء من صناعة التاريخ في سياقاته الطبيعية.. ومن ثم تغيير الاتجاه نحو مسار آخر هو المصلحة الآنية القاصرة.. وهي ليست من التاريخ في شيء؛ إنما هي من صغائر الأمور التي تنفرط في ثنايا الماضي بلا أثر.

إن ذلك الصمود البطولي، وهذا التحقق العظيم لأسمى آيات التضحية والفداء، هو ما يصنع التاريخ ويملأ صفحاته بسطور المجد والعزة.. أما هؤلاء المخذّلون فهم أدوات العدو يستخدمهم ممسحة تحت قدميه في معركة معاداة التاريخ.. وربما يلتقي هؤلاء وهؤلاء على معاداة الحضارة وآثارها العميقة في نفوس أبنائها.. أما الحادثون والمحدثون فهم إلى فناء.. أو إلى عودة قريبة إلى فيافي الضياع فهي أحق بهم وأولى.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock