ضمن أهم ما كتب عن العروبة والإسلام وعن العلاقة بينهما، خلال الربع الأخير من القرن العشرين الفائت.. وفي سياق حديثه عن تطور الدين على مستوى علاقته بتطور التكوين الاجتماعي، من العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب، وذلك في محاولة التوصل إلى رؤية علاقة الدين بالأمة، ومن ثمعلاقة الإسلام بالعروبة.. يؤكد عصمت سيف الدولة في كتابه “عن العروبةوالإسلام” الصادر1986 على أن “الأصل في الدين عامة أنه كان عنصرًا من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة الأصل محورتكوينها (الأسر والعشائر والقبائل)… ثم استقر “الإله” مميزًا لكل قبيلة،فكان لكل قبيلة إلهها الخاص، تختاره طبقًا لظروفها الخاصة، وتعبده طبقًا لتقاليدها الخاصة، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص“.
علاقة الدين والقبيلة
هذا وإن كان يشير –في نظر سيف الدولة– إلى أن ثمة وظيفة مشتركة للإله في المجتمعات القبلية وما دونها من مجتمعات عشائرية وأسرية، وهيأنه “رمز يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها–كل هذا لا يزال قائمًا في المجتمعات القبلية المعاصرة–“.. إلا أنه فيالوقت نفسه يطرح التساؤل حول الرسالات السماوية؟!
هنا يسترسل “عصمت سيف الدولة” فيشير إلى أنه “لما جاءت الرسالات السماوية والرسل من عند الله إلى المجتمعات القبلية، أرسل إلى كل قبيلةرسولًا من أبنائها، يدعوها إلى إله واحد“.. ثم يضيف مؤكدًا “لقد كانالرسل الذين جاء ذكرهم في القرآن يحملون دعوة واحدة هي التوحيد.. ولكن لم تكن أي منها دعوة إنسانية. نعني موجهة إلى الناس جميعًا. غيرأن هذا التوجيه قد بدأ محدودًا في رسالة موسى، ثم فتحت أبوابه فيرسالة عيسى، لتتهيأ الإنسانية لاستقبال رسالة محمد، عليهم السلامجميعًا“.
وفي ما يبدو فأن ثمة نقطتين أساسيتين تتضمنهما الرؤية التي يقدمها“عصمت سيف الدولة” في كتابه المشار إليه.. الأولى أن الدين عنصر منعناصر التكوين الاجتماعي، فلما أن ساهم هذا العنصر في تمايزالقبائل، كل برمزها أو إلهها الخاص، جاءت الرسالات السماوية من عندالله؛ لتحمل دعوة التوحيد.
الثانية أن الرسالات السماوية نفسها جاءت كمراحل لتهيئة الإنسانيةلتوحيد الدين واكتماله في رسالة محمد (عليه الصلاة والسلام).
لدينا أسباب تحملنا على أن لا نأخذ رؤية “سيف الدولة“ هذه على إطلاقها.. ولعل هذه الأسباب تتبدى بوضوح؛ إذا اقتربنا أكثر من هاتينالنقطتين سواء فيما يتعلق بكون الدين أحد عناصر التكوين الاجتماعي، أمفيما يخص الفروقات بين الرسالات السماوية تلك الدالة على اتجاه التطورفي دعوة التوحيد.
الدين وأصل التوحيد
في ما يخص هذه الأخيرة، أي الفروقات بين الرسالات السماوية.. فلعلأول ما يواجهنا في هذا الشأن، أن تلك الفروقات لا تتعلق بدعوة التوحيد ذاتها؛ فقد علمنا القرآن أن كل الرسل والأنبياء كانوا يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده، وينفون الشرك في كل مظاهره الفكرية والوثنية.
يكفي أن نشير هنا إلى الأمر الإلهي في عبارة “اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍغَيْرُهُ” التي وردت أكثر من مرة في “سورة هود“.. إذ قالها “هود” لقوم عاد“وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْإِلَّا مُفْتَرُونَ“[هود: 50] وقالها “صالح” لقوم ثمود “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْصَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِوَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ“[هود: 61] وقالها “شعيب” لقوم مدين “وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوااللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ“[هود: 84].
لا تتبدى الفروقات إذن في دعوة التوحيد ذاتها.. لكنها تتبدى بوضوح فيالمحيط الموجهة إليه الدعوة.. فإضافة إلى أن محيط دعوة كل من “هود“و“صالح“ و“شعيب“ عليهم السلام جميعًا– كان يختص بقوم كل منهم(عاد، وثمود، ومدين).. فقد كان المحيط الموجهة إليه دعوة (رسالة) كل منموسى وعيسى –عليهما السلام– يختص ببني إسرائيل. فعن موسىيقول سبحانه وتعالى: “وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَأَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا” [الإسراء: 2] ويقول سبحانه “وَإِذْ قَالَ مُوسَىلِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَاللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” [الصف: 5]. وعن عيسى يقولسبحانه وتعالى “وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِإِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُأَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ” [الصف: 6].. ويقولسبحانه: “وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…” [آلعمران: 49].
أما رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم– فهي الرسالة الوحيدة التي يتسعالمحيط الموجهة إليه؛ ليشمل الناس كافة (العالمين جميعًا)، بصرف النظرعن الانتماءات الاجتماعية. يقول سبحانه وتعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةًلِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [سبأ: 28].. ويقولسبحانه: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا…” [الأعراف: 158].. ويقول تعالى “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” [الأنبياء: 107].
صحيح أن أولى مؤشرات توسيع المحيط الموجهة إليه دعوة التوحيد، كانتقد تبدت –بشكل محدود– في رسالة موسى؛ عندما أُمِر –عليه السلام–بأن يتجاوز محيط قبيلته من “بني إسرائيل” وبأن يذهب إلى فرعون“اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى” [طه: 24].. إلا أنه يبقى من الصحيح كذلكأن الأصل في رسالة موسى أنها كانت موجهة إلى قوم بعينهم، هم بنو إسرائيل [الإسراء: 2، الصف: 5].
وصحيح أيضًا أن المسيحية قد جاءت لتطرح لأول مرة وحدة الإنسانية فيالدين، أو وحدة الدين في الإنسانية أي جاءت لتقدم إلى الناس علاقةانتماء إلى “ملكوت الله” بديلًا عن علاقات الانتماء العرقية و/أو القبلية.. إلا أنه يبقى من الصحيح كذلك وكما يعلمنا القرآن، أن عيسى –عليه السلام–كان رسولًا إلى بني إسرائيل، وقد بقي كذلك ما بقي رسولًا.. ومما له دلالةفي هذا المجال أن رسالته إليهم –إضافة إلى ما حملته إليهم رسالة موسى– كانت تتضمن تجاوزًا للخصائص التي تحمل الطابع القبلي،فجاءت الخصائص التي تضمنتها فائقة التجريد الإنساني.. كما كانت تتضمن، في الوقت نفسه، بشرى التمهيد لتقبل رسالة الإسلام.
يقول سبحانه وتعالى “وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّيرَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْبَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ” [الصف: 6].. ويقول سبحانه “فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْالْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِوَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” [آل عمران: 52].
في هذا السياق.. نعيد ونكرر أن رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم– هيالرسالة الوحيدة التي يتسع المحيط الموجهة إليه ليشمل الناس كافة،بصرف النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية [سبأ:28، الأعراف: 158،الأنبياء: 107].. وقد كان هذا الجديد على الإنسانية مما جاء به الإسلام.
الدين وجديد الإسلام
هو جديد من جهة لأنه مع رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم– وبها أصبح الإسلام وبحسب ما يشير “عصمت سيف الدولة“ في كتابه المشار إليه علاقة انتماء إلى دين خالدٍ في المكان، بحكم أنه رسالة إلى البشر جميعًا وخالدٍ في الزمان، بحكم أنه خاتم الرسالات والأديان، وذلك كما في قولهسبحانه وتعالى “مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَالنَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” [الأحزاب: 40]..
وهو جديد من جهة أخرى؛ لأنه مع رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم–وبها تميز الإسلام بما حقق به آخر وأرقى مراحل تطور علاقة الانتماء الديني؛ وحدة البشر في الدين في كل مكان وفي كل زمان، لتتسق مرة واحدة وإلى الأبد، وحدة الدين مع وحدة الكون مع وحدة البشر؛ وذلك كمافي قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّلِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” [الفتح: 28]، وكما في قولهتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِوَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [الصف: 9] وكما في قوله تعالى “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَرَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة: 33]
وهو جديد من جهة أخيرة، لأنه مع رسالة محمد –صلى الله عليه وسلم–وبها اشتمل الإسلام على أرقى وأكمل صيغة للتوحيد (المضمون المشتركفي كل الرسالات والأديان السماوية) تلك الصيغة التي جاءت في سورةالإخلاص “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ • اللَّهُ الصَّمَدُ • لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ • وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًاأَحَدٌ“.
هذه هي –في اعتقادنا– أهم ملامح “الجديد” على الإنسانية مما جاء بهالإسلام.
وقد قلنا “أهم ملامح الجديد” لأن ثمة ملامح أخرى متعددة لهذا“الجديد“.. من بينها مما يدخل في نطاق حديثنا هنا “التجديد العميق” الذي أحدثه الإسلام في مفهوم الدين، بالمقارنة مع ما كان سائدًا من قبل،في إطار الرسالة التوحيدية ذاتها.
يمكن أن نسارع هنا؛ فنؤكد على ما يشير إليه “برهان غليون“ في كتابه“نقد السياسة.. الدولة والدين” الصادر 1993، من أنه “في مواجهةاليهودية التي تحولت إلى عصبية جماعية شبه قبلية –إن لم تكن بالفعلقبلية– تاريخية لإعادة بناء الدولة الزمنية، ركز الإسلام منذ البداية وحتىالنهاية على الرسالة الإنسانية والقيم الخُلقية.. وفي مواجهة المسيحية التي لم تكن ترى الدين إلا السلطة الروحية، أو الهداية السلمية التي لا تربطتقدمها بتقدم علاقة القوة؛ بل بالعكس بنفس مثل هذه العلاقة وتجاوزها،أكد الإسلام على أهمية الجهاد العملي والمادي لنشر الدعوة الروحية.
ولعل فرادة الإسلام وأصالته –في نظر غليون– تقومان ضمن ما تقومان عليه، على هذه الفكرة الجوهرية وهي أن الدين ليس حركة تبشيرية ولكنه حركة اجتماعية سياسية، أي في الجمع الذي يقدمه الإسلام بين المعنى(الهداية الروحية) وبين إرادة القوة.. ولعل هذا الجمع الجديد، وشبه المستحيل هو الذي جعل الإسلام يتخذ شكل ومضمون الثورة التاريخية الكبرى.
ولكن.. هل يعني ذلك الدين “حركة اجتماعية سياسية“، أن الدين “عنصرمن عناصر التكوين الاجتماعي“.. أم أن ثمة فارقًا بين المعنيين(؟!).
في اعتقادنا، أن وضع اليد على الملامح الأساسية للإجابة على هذاالتساؤل، لابد من أن يمر عبر محاولة التطرق إلى مفهوم الدين في الإسلام، وتبيان مدى التجديد العميق الذي أحدثه الإسلام في هذا المفهوم.