رؤى

انقلاب الغابون.. وانقلابات الساحل الأفريقي

لعل موجة الانقلابات التي شهدتها “خمس” من الدول الأفريقية، في منطقة الساحل، خلال ما يقل عن سنوات “ثلاث”، منذ عام 2020؛ وإن كانت قد ارتبطت بصعود نخبة من العسكريين الجدد، الذين يمثلون مرحلة جديدة في السياق الأفريقي، من حيث محاولة إزاحة بعض الأنظمة الحاكمة، التي تُعد حليفًا للغرب عمومًا، وفرنسا بوجه خاص.. إلا أن هذه الانقلابات، في الوقت نفسه، لا يمكن وضعها كلها في سلة واحدة.

إذ، يبدو أن الانقلاب الأخير في الغابون، في 30 أغسطس الماضي، يختلف في واقعه ومسبباته عن الانقلابات الأخرى؛ حيث يُمثل التجربة الأولى لهذه الدولة، التي تقع في غرب أفريقيا؛ فهذه الدولة الغنية بالنفط، تعاقب على حكمها ثلاثة رؤساء فقط، هم: ليون مبا، وعمر بونغو، ثم ابنه علي الذي أُطيح به في الانقلاب الأخير.

ولعل هذا ما يطرح تساؤلات متعددة حول الاختلاف بين انقلاب الغابون وانقلابات الساحل الأفريقي؛ في الوقت الذي يبدو فيه بوضوح أن ثمة قواسم مشتركة بين هذه الانقلابات جميعًا؛ خاصة أنها تتزامن مع صعود المنافسات الدولية بين القوى الفاعلة، لاسيما روسيا والصين والغرب، وتحديدًا واشنطن وباريس، في عدد من المناطق الاستراتيجية بالقارة السمراء؛ وفي مقدمتها تأتي منطقة الساحل الأفريقي وغرب أفريقيا.

قواسم مشتركة

من اللافت، أن العديد من القواسم المشتركة بين الانقلابات الأخيرة، في بلدان الساحل الأفريقي، إضافة إلى انقلاب الغابون في غرب أفريقيا.. على الأقل لجهة النخب الحاكمة الجديدة وتوجهاتها؛ فضلًا عن التأييد الشعبي الواضح لها.

فمن جانب، يبدو بوضوح أن النخب العسكرية التي قامت بهذه الانقلابات، في دول الساحل الأفريقي: مالي وبوركينا فاسو والنيجر، ثم الغابون وغينيا في غرب أفريقيا، إنما تُعبر عن قادة عسكريين برتب عسكرية مختلفة، وإن كانوا في معظمهم من الرتب المتوسطة؛ حيث إن معظمهم برتبة “جنرال”، ما عدا إبراهيم تراوري الضابط العسكري في جيش بوركينا فاسو، الذي كان قبل الانقلاب يحمل رتبة “كابتن”؛ فضلًا عن كونهم في مرحلة سنية متوسطة، مرحلة الأربعينات من العمر، ما عدا الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الحرس الرئاسي في النيجر الذي يبلغ من العمر 59 عامًا.

وبالتالي، يبدو التقارب في الرتب العسكرية، وفي السن أيضًا قاسما مشتركا ساهم في إدراك هؤلاء العسكريين لتفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية لشعوب بلدانهم، رغم أن هذه البلدان تنعم بموارد طبيعية كبيرة؛ ومن ثم كان التوجه نحو الإطاحة بالأنظمة الحاكمة، التي فشلت في معالجة التحديات التي تواجهها شعوب هذه البلدان.

من جانب آخر، وإضافة إلى ما يمتلكه العسكريون الجدد من خبرات كبيرة في الشأن العسكري، خاصة أن معظمهم قد التحق بالدراسة العسكرية في الخارج، وأن الكثير منهم كان قد شارك في التدريبات العسكرية والبعثات الأممية لحفظ السلام، التابعة للأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، في عدد من الدول الأفريقية؛ فقد ارتبط سخط معظم العسكريين الجدد، من تنامي الارتباط بين أنظمة الحكم في البلدان الأفريقية الخمسة، مع الغرب لاسيما فرنسا، مع توجه الاستياء الشعبي الرافض للوجود الغربي والفرنسي خاصة، في منطقة الساحل الأفريقي، وفي غرب أفريقيا أيضًا.

ولعل هذا الأمر ساعد على تسهيل مهمة هؤلاء العسكريين، في إقناع الرأي العام الداخلي بشرعية تحركاتهم، ضد الأنظمة الحاكمة؛ بل إن المُثير في الأمر هو التوجه إلى تغيير دفة التحالفات الدولية، إلى روسيا بدلا من فرنسا والغرب، اللذين تراجع نفوذهما بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة.

من جانب أخير، الترحيب الشعبي الكبير بالقادة الجدد، من العسكريين في هذه البلدان؛ فقد حظي العسكريون في الانقلابات الخمسة الأخيرة بدعم شعبي واسع، بعد إزاحة أنظمة الحكم السابقة، بل بمجرد الإعلان عن تنحية أنظمة الحكم تلك؛ وهي ملاحظة جديرة بالتأمل، خاصة وأنها تُلمح إلى فقدان الثقة الشعبية لدى شعوب هذه البلدان، في أنظمة فشلت في تحقيق الكثير من الوعود بتحسين مستوى المعيشة، والأمن، في البلاد.

اختلاف الغابون

لم يعد انقلاب الغابون، مثله في ذلك مثل الانقلابات التي سبقته، إلى الرفض المتنامي للنفوذ الغربي عمومًا، والفرنسي بوجه خاص، في الداخل؛ بل أيضًا إلى أسلوب الحكم الذي اعتمد على ركيزة سياسية، تمثلت في حزب واحد مهيمن على الحياة السياسية في البلاد، مع ديمقراطية شكلية مقيدة، الأمر الذي جعل من سابقة التدخل المباشر من المؤسسة العسكرية الغابونية، نقطة تحول مهمة في سياق الانقلابات الأفريقية بشكل عام.

وكما يبدو فإن ثمة ملاحظات يمكن ذكرها، في إطار الحديث عن ملامح نقطة التحول هذه، التي يُمثلها الانقلاب في الغابون بالنسبة إلى الانقلابات الأفريقية.. لعل أهمها ما يلي:

أولا شكّل انقلاب الغابون حالة تدخل عسكري لإنهاء التوتر السياسي، بمعنى تدخل المؤسسة العسكرية لإيقاف مسار تفاعل سياسي يُنذر بتنامي الاستقطابات الداخلية، والتهديد بسقوط الدولة في دائرة العنف.. بهذا التوصيف جاء انقلاب الغابون؛ حلقة أخيرة للتوترات السياسية المتصاعدة بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة، واستمرار الرئيس علي بونغو وعائلة بونغو بالتالي في حكم البلاد؛ حيث شهدت البلاد استقطابًا حادًا بين التحالف الداعم للرئيس، وتحالف “البديل 2023” المعارض والداعم للمرشح أبرت أوندو أوسا.

ومع توقع استمرار حالة الاستقطابات في البلاد، وإمكانية تولّد رد فعل عنيف من جانب المعارضة، تدخلت المؤسسة العسكرية؛ إذ بعد ساعات من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، أذيع بيان عسكري تليفزيونيًا، بإلغاء نتائج الانتخابات وحل مؤسسة الحكم، في محاولة لتجنب أي موجة من أعمال العنف، يُمكن أن تساهم في إدخال البلاد في دوامة الاضطراب الأمني، ومن ثم التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية.

ثانيا: بالرغم من أن الغابون تُعد المنتج الرابع للنفط، على مستوى دول أفريقيا جنوب الصحراء، بعد نيجيريا وأنغولا وجمهورية الكونغو؛ وهو النفط الذي يُعد مسؤولًا عن نحو “أربعة أخماس” الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، والذي وصل إلى نحو 20 مليار دولار، في عام 2021؛ وبالرغم أيضًا من الخفة السكانية التي تتسم بها الغابون، حيث يقتصر عدد سكانها على نحو 2.3 مليون نسمة..

بالرغم من هذا وذاك، وبالرغم من أنها تحقق واحدًا من أعلى المعدلات في أفريقيا، قياسًا إلى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فإنها تشهد ترديًا اقتصاديًا واضحًا، نتيجة “التقشف” الذي تبنته الحكومة؛ تماشيًا مع خطة تنشيط الاقتصاد التي قررها صندوق النقد الدولي، منذ عام 2018، أضف إلى ذلك تنامي السخط العام في الداخل، كنتيجة مباشرة للتداعيات الاقتصادية لسيطرة عائلة بونغو على الحكم، طوال العقود الماضية، منذ تولي عمر بونغو السلطة في عام 1967، قبل أن يخلفه ابنه بعد وفاته في عام 2009.

ثالثا: على العكس من حالات الانقلابات في دول الساحل الأفريقي، يقدم انقلاب الغابون للإطاحة بالرئيس علي بونغو، حالة دالة على الانقلابات المدفوعة بمحركات سياسية في المقام الأول. بل إن الملاحظ أنه منذ الإعلان الأول جرى تأكيد أن تحرك بعض قادة المؤسسة العسكرية، إنما حظي بتأييد القادة العسكريين كافة في البلاد، بما يعكس موقفًا توافقيًا، وليس محاولة فردية، أو محاولة مجموعة صغيرة، في الاستيلاء على السلطة.

أيضًا، يقدم الانقلاب العسكري في الغابون، دلالة على أن الاحتقان الشعبي، وحالة الاستقطابات السياسية التي تواكبت مع انتخابات الرئاسة ونتائجها المثيرة للجدل، هو الذي أفسح المجال للجيش، بوصفه المؤسسة الوحيدة الأكثر تنظيمًا في البلاد، وفي الدول الأفريقية عامة؛ كما يقدم، في الوقت نفسه، أكثر من شاهد على أن التجديد، الذي أصبح مطلبًا شعبيًا متناميًا، لم يكن ليحدث إلا عبر تدخل الجيش لتحقيق التغيير، ولضمان عدم انزلاق البلاد إلى الفوضى، وتداعياتها الأمنية.

تدخل وقائي

في هذا السياق، يمكن القول بأن الانقلاب الأخير في الغابون، قد جاء ليقطع الطريق على تفاقم أزمة داخلية حادة، كادت أن تنفجر وتدفع البلاد إلى هاوية الفوضى، بسبب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما شهدته من تنامي الاستقطابات الداخلية، بين الداعمين للرئيس علي بونغو، وبين الداعمين لتحالف “البديل 2023″، وأنذرت بالسقوط في دوامة العنف.

وكما يبدو، فإن المستقبل السياسي للغابون لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض، الذي ترتهن مآلاته على المدى المتوسط بإمكانية الحكام العسكريين الجدد، في إدارة عملية انتقالية توافقية، حاسمة وسريعة؛ خاصة وأن هناك فرصة للمجموعة العسكرية الحاكمة في إعادة هيكلة الإنفاق العام، مستفيدة من الدخل الوفير لصادرات النفط والغاز.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock